2017-04-14 18:20:00

البابا يترأس رتبة سجدة الصليب لمناسبة الجمعة العظيمة. عظة الأب رانييرو كانتالاميسا


ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة الخامسة من عصر الجمعة رتبة سجدة الصليب في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان لمناسبة الجمعة العظيمة بحضور حشد غفير من الكرادلة والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين، وتخللت الرتبة عظة ألقاها الأب رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي وقد استهلها بالقول لقد أصغينا إلى رواية آلام المسيح، إنّها ملخّص لموت عنيف. إنَّ أخبار الموت لا تغيب أبدًا عن نشرات الأخبار وتتتابع بسرعة لدرجة تجعلنا ننسى أخبار اليوم السابق، ولكن لماذا لا زال العالم، بعد ألفي سنة، يتذكّر موت المسيح؟ لأنّ هذا الموت قد غيّر وجه الموت للأبد وأعطى معنى جديدًا لموت كلِّ كائن بشريّ.

تابع الأب رانييرو كانتالاميسا يقول "أَمَّا يسوع فلَمَّا وَصَلوا إِليه ورأَوهُ قد مات، لَم يَكسِروا ساقَيْه، لكِنَّ واحِداً مِنَ الجُنودِ طَعَنه بِحَربَةٍ في جَنبِه، فخرَجَ لِوَقتِه دَمٌ وماء". في بدء خدمته، أجاب يسوع على الذين سألوه بأي سلطان يطرد الباعة من الهيكل: "اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام!" ويكتب الإنجيلي يوحنا: "أَمَّا هو فكانَ يَعني هَيكَلَ جَسَدِه". وها هو القديس يوحنا يشهد مرّة أخرى أن من جنب هذا الهيكل خرج دم وماء. لندخل داخل ينبوع "نهر الماء الحيّ" هذا، في قلب المسيح المطعون. يكتب القديس يوحنا في سفر الرؤيا: "ورَأَيتُ بَينَ العَرشِ والأَحياءِ الأَربَعَةِ وبَينَ الشُّيوخِ حَمَلاً قائِمًا كأَنَّه ذَبيح"؛ ذبيح ولكنّه قائم أي مطعون ولكنّه قائم وحي! في الواقع، إن كان المسيح قد قام من الموت فقلبه أيضًا قد قام من الموت، وهو حي، في بعد مُختلف وإنما حقيقيّ. إن كان الحمل حيًّا في السماء وقائمًا كأنّه ذبيح فهكذا قلبه أيضًا مطعون ولكنّه حي، وبالتالي وبعد تضحية المسيح بدأ قلب من نور ينبض في العالم.

أضاف واعظ القصر الرسولي يقول نقرأ في إحدى أنتيفونات صلوات الساعات: "الآن تمّ مُخطّط الآب في أن يجعل من المسيح قلبًا للعالم"، هذا القول يشرح التفاؤل المسيحي الذي جعل إحدى متصوفات القرون الوسطى تقول: "إنَّ الخطيئة لا بدَّ منها، ولكنَّ كل شيء سيكون بخير". فماذا يمثِّل الصليب إذًا؟ إنّه الـ "لا" الجازمة التي قالها الله للعنف والظلم والحقد والكذب وكل ما ندعوه شرًّا، وفي الوقت عينه هو الـ "نعم" التي لا رجوع عنها للمحبّة والحقيقة والخير. وبالتالي "لا" للخطيئة و"نعم" للخاطئ؛ وهذا ما عاشه يسوع في حياته والذي يؤكِّد عليه الآن بشكل نهائيٍّ بموته. وسبب هذا التمييز الجليّ هو أن الخاطئ هو خليقة الله ويحتفظ بكرامته على الدوام، ولص اليمين، الذي وعده يسوع بالفردوس هو العلامة الحيّة لهذا كلّه، لذلك لا يجب على أحد أن ييأس أو أن يقول كما قال قايين: "عِقابي أَشَدُّ مِن أَن يُطاق". فالصليب إذًا ليس ضدّ العالم وإنما هو للعالم: ليعطي معنى لكلّ الألم الذي وُجد ولا زال موجودًا في تاريخنا؛ "فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم".

تابع الأب رانييرو كانتالاميسا يقول نعيش في عالم "سائل" بدون أي مرجعيّة ثابتة وبدون قيم أو أي شيء نتمسّك فيه، وبالتالي تحقّقت النبؤة التي تحدّث عنها أحد الفلاسفة كنتيجة لموت الله. فقد قيل إن قتل الله هو أفظع أشكال الإنتحار، وهذا ما نعيشه اليوم وبالتالي ليس صحيحًا أبدًا قول الفيلسوف جان بول سارتر "حيث يولد الله يموت الإنسان" وإنما العكس صحيح: حيث يموت الله يموت الإنسان. إن أحد الفنانين السُّرياليين من منتصف القرن الماضي قد رسم مصلوبًا يبدو كنبؤة لهذه الحالة (سالفادور دالي). صليب كبير وكونيّ عليه المسيح مصلوبًا رأسه منحنٍ نحو أسفل، وتحته لا نجد اليابسة وإنما المياه، وبالتالي هذا الصليب ليس معلَّقًا بين السماء والأرض، وإنما بين السماء والعنصر السائل في العالم؛ لكنَّ هذه الصورة المأساويّة تحتوي أيضًا على يقينٍ مُعزٍّ: لا زال هناك رجاء لمجتمع "سائل" كمجتمعنا! هناك رجاء لأن صليب المسيح مُعلّق فوقه، وهذا ما تُذكرنا به ليتورجيّة يوم جمعة الآلام: "السلام عليكَ أيها الصليب، رجاء العالم الوحيد". إن الله قد مات! نعم! لقد مات بابنه المسيح يسوع، ولكنّه لم يبقَ في القبر بل قام؛ ويصرخ القديس بطرس للجموع يوم العنصرة قائلاً: "ذاكَ الرَّجُلَ الَّذي... قتَلتُموه إِذ علَّقتُموه على خَشَبةٍ... قد أَقامَه اللهُ وأَنقَذَه مِن أَهوالِ المَوت"، إنّه الحَيّ الذي كان مَيتًا وها هوذا حَيٌّ أَبَدَ الدُّهور.

أضاف واعظ القصر الرسولي يقول لا يجب علينا أن نتوقّف لنُحلِّل المجتمع الذي نعيش فيه لأنَّ المسيح لم يأتِ ليشرح الأمور وإنما ليغيّر الأشخاص، وبالتالي فقلب الظلام ليس فقط قلب بعض الأشرار المختبئين في أعماق الأدغال كما وليس أيضًا أحد مُنتجات المجتمع، بل هو داخل كل شخص منا بمعايير مختلفة. يسمّيه الكتاب المقدّس قلب الحجر، كما يقول الله على لسان النبيّ حزقيال: "وأُعْطيكم قَلبًا جَديدًا وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا. جَديدًا وأَنزِعُ مِن لَحمِكم قَلبَ الحَجَر، وأُعْطيكم قَلبًا مِن لَحم". إن قلب الحجر هو القلب المنغلق على مشيئة الله وعلى ألم الإخوة؛ إنّه قلب من يجمع الثروات ويقف غير مبال إزاء يأس من ليس لديه كوب ماء يعطيه لابنه؛ وهو أيضًا قلب من يسمح للأهواء غير النقيّة أن تسيطر عليه وهو مستعد أن يقتل ويعيش حياة مزدوجة في سبيلها.

وختم الأب رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي عظته بالقول كتب القديس متى عند موت يسوع "انشقَّ حِجابُ المَقدِسِ شَطرَينِ مِنَ الأَعلى إِلى الأَسفَل، وزُلزِلَتِ الأَرضُ وتَصَدَّعَتِ الصُّخور، وتَفَتَّحَتِ القُبور، فقامَ كثيرٌ مِن أَجسادِ القِدِّيسينَ الرَّاقِدين". غالبًا ما نعطي هذه العلامات شرحًا نهيويًّا ونعتبرها علامات لوصف الحدث الإسكاتولوجي ولكنها بالفعل تُشير إلى ما سيحصل في قلب من يقرأ آلام المسيح ويتأمّل بها. إن قلب اللحم الذي وعد به الله بواسطة الأنبياء هو حاضر في العالم: إنّه قلب المسيح المطعون على الصليب والذي نكرّمه كـ "قلب يسوع الأقدس"؛ وعندما نتقدّم من المناولة نحن نؤمن أن هذا القلب يأتي إلينا لينبض في داخلنا أيضًا. لذلك وإذ سنحدِّق النظر بالصليب بعد قليل لنرفع صلاتنا كصلاة العشار في الهيكل "إرحمني يا الله أنا الخاطئ" وسنعود نحن أيضًا إلى بيوتنا مبرَّرين.                        








All the contents on this site are copyrighted ©.