2016-12-29 11:16:00

رسالة الميلاد لبطريرك الإسكندرية وسائر الكرازة المرقسية للأقباط الكاثوليك


بمناسبة عيد الميلاد وجّه بطريرك الإسكندرية وسائر الكرازة المرقسية للأقباط الكاثوليك الأنبا إبراهيم اسحق كتب فيها في مغارة مهجورة، والناس نيام والكون يلفه الظلام، عذراء اصطفاها الله لتلد الابن الكلمة المولود في الذات الإلهي، يسوع المسيح، تجسد كلمة الله وصار إنسانا مثلنا في كل شيء ما خلا الخطيئة وحدها.

تابع الأنبا إبراهيم اسحق يقول في ليلة الميلاد هتفت السماء بأعظم رجاء بُلغ به البشر: المجد لله في العلا وعلى الأرض سلام للبشر المستقيمي النوايا، الذين ينشدون سلام القلب ويرغبون في فعل الخير، فلهولاء مولد المسيح عربون رجاء ومنارة هداية. إن حدث الميلاد في وقته كان ضئيلاً ولم يتوقع له أحد إن يخلف أثراً: مجرد طفل فقير يرى النور في ركن خفي من الإمبراطورية الرومانية التي كانت عاكفة على إحصاء رعاياها لتدعيم سلطانها حاسبة إياه خالداً. واندثرت الإمبراطورية وشاع في كل المسكونة الاحتفال بمولد ذلك الطفل العجيب.

أضاف الأنبا إبراهيم اسحق يقول ومنذ تلك الليلة المتوهجة في تاريخ البشر، اتحد الله بالإنسان اتحاداً بلا انفصام. فما من إنسانية حقَّة بمعزل عن الله، ولا من ألوهية حقَّة بمعزل عن احترام الإنسان وخدمته. غير أن خدمة الإنسان تفقد كل معناها، إن لم تتحد باستمرار، وإن لم تظل تتغذي من مصدرها الأصيل، حب الله.

تابع الأنبا إبراهيم اسحق يقول احتار الفلاسفة والمفكرون حول سر التجسد، وهل يستحقه الإنسان الخاطئ الضعيف..؟ ولكن المسيح أثبت لنا بحياته وتواضعه مدى عظمة مجد الله وتواضعه. وتواضع الله ليس ضعفاً بل إرادته أن يتحد به الإنسان الذي يحمل رسالة الحياة وأمانتها في إيمان وعمق ورجاء ثابت. فإن كان الوحي الإلهي قد أشار إلى خطيئة آدم وحواء وهى الكبرياء والرغبة في الألوهية دون الله، فلا تزال كبرياء الإنسان تمزق وجدان البشر. ففي الحضارات المتتالية كم من بشر ألّهوا أنفسهم، ومع التقدم والرقي اتخذت الكبرياء طرقاً جديدة. بعضهم ينادي برفض الإيمان والدين، وبعض آخر ينكر وجود الله ويوم الدينونة.

أضاف الأنبا إبراهيم اسحق يقول بعض جعل العبادة للمال واللذة والسلطة، فلم تنقطع الحروب بين البشر، ولن تنقطع طالما ظن الناس أنه بالإمكان الاستغناء عن الله. وإن كان الله القدوس قد خلق الإنسان حرّ الإرادة فهو تبارك إسمه يحترم هذه الحرية. ولذا فالخلاص ليس قهراً والإيمان لا يكون إكراهاً. والذين يرتكبون المعاصي أعطيت لهم الحرية والحياة للتوبة، والله لا يرغم أحداً على محبته وطاعته، فالله المحبة هو الله التواضع.

تابع الأنبا إبراهيم اسحق يقول فئتان من البشر اكتشفتا الطريق إلى مغارة بيت لحم، الرعاة البسطاء المعترفون أنهم لا يفقهون شيئاً، والمجوس العلماء المعترفون أنهم لا يفقهون كل شيء. الله لا يتحدث إلى من يدّعون معرفة كل شيء، لذلك لا يسمع المتكبرون صوته، بل المتواضعون الحقيقيون وحدهم يسمعونه. إن كبرياء البشر لا تبنى سوى بروج بابل ومدن الفوضى والحقد، في حين أن اعتمادنا على الله في تواضع وثقة، يكشف لنا حقيقتنا ويقيمنا في ديار الحب البنّاء، ويجعل من حياتنا على غرار طفل بيت لحم جسراً بين السماء والأرض.

أضاف الأنبا إبراهيم اسحق يقول ختمت الكنيسة الكاثوليكية سنة اليوبيل الاستثنائي التي كُرست للتأمل في رحمة الله ونشر كل ألوان هذه الرحمة في أنحاء الأرض. وتظل رحمة الله واضحة في تاريخ البشر قديماً وحديثاً. اختار الله إن يدخل زمان وجغرافية البشر، وكأنه اختار أن يكون إنساناً ضعيفاً ليتحد بكل الضعفاء على الأرض، وقريباً وعطوفاً على الخطاة، وملجأ الذين لا معين لهم لأنه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، ليقترب منه كل ضعيف أو متألم دون خوف أو إحساس بالمهانة. ميلاد المسيح خلاص للإنسان وتحرير له من عبودية الخطيئة وسموٌ بقيمته وكرامته، وكأنه خلق جديد كما يقول بولس الرسول "من كان في المسيح فهو خليقة جديدة". إن تعاليم المسيح في أمثاله وخاصة في مثل السامري الصالح الذي يطرح في نهايته سؤالاً: أيّ من هؤلاء الثلاثة مارس الرحمة والمحبة؟ إنه الإنسان الذي يحب كل إنسان حتى عدوه. فالرحمة صفة جوهرية خاصة بالله القدوس، يسكبها في قلوب المؤمنين الحقيقيين والصالحين فيصبحون رحماء على مثاله. لهذا فالمسيح هو المثل الإلهي الذي جسّد الرحمة الحقيقية بكل معانيها: ميلاده الفقير يتحد بالأطفال الفقراء واللاجئين في كل عصر ومكان، وحياته التي يجوب فيها يصنع خيراً، وتعاليمه التي اخترق بها العنصرية وتعصب الأمم، وجعلها سراجاً منيراً للعصور بعده لكي تسير نحوها.

تابع الأنبا إبراهيم اسحق يقول جاء المسيح حقاً نوراً للعالم، من لحظة ميلاده إلى فجر قيامته. التجسد هو فعل حب الهي، بفضله نستطيع أن نلمس حضور الله في دقائق حياتنا اليومية. ما أحوج عالمنا اليوم إلى التأمل في ميلاد السيد المسيح وحياته وتعاليمه، فالبشرية في حاجة إلى صياغة جديدة للعلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان، علاقات تحترم كرامة كل شخص وتقدس معنى الحياة. فهذا العالم في حاجة إلى أن ينبذ العنف والقسوة والظلم، وأن يرسي حقوق الشخص البشري، وأن تتعمق في الأجيال الصاعدة ثقافة العدل والرحمة والسلام.

وختم بطريرك الإسكندرية وسائر الكرازة المرقسية للأقباط الكاثوليك رسالته بمناسبة عيد الميلاد المجيد بالقول نرفع صلاتنا متحدين مع قداسة البابا فرنسيس، الذي يصلي من أجل وطننا العزيز في هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها بلادنا. نرفع صلاتنا متحدين مع قداسة البابا تاوضروس الثاني، بابا الإسكندرية وسائر الكرازة المرقسية للأقباط الأرثوذكس، وكل أبناء الكنيسة في مصر، من أجل شهداء الحادث الإرهابي الغادر في الكنيسة البطرسية، مؤمنين أنهم يشاركون القديسين في فرح الملكوت، كما نصلي لكي يغمر الله قلوب عائلاتهم بسلامه وعزائه, وأن يمنح الشفاء لكل المصابين. نصلي من أجل الأمهات والآباء الذين يسهرون على تربية أبنائهم لبناء مستقبلهم، كما نبعث لأبنائنا في بلاد الانتشار رسالة محبة وسلام ونقول لهم أمام العالم إن مصر في طريق البناء والتقدم، وإنها خالدة بعرق أبنائها واتحادهم ووعيهم بمسئوليتهم، بشفاعة وصلوات أمنا مريم العذراء وجميع القديسين. 








All the contents on this site are copyrighted ©.