2016-03-05 12:31:00

الإنجيل وقفة تأمّل عند كلمة الحياة


في ذَلِكَ الزَّمان، كانَ العَشّارونَ وَالخاطِئونَ يَدنونَ مِن يَسوعَ جَميعًا لِيَستَمِعوا إِلَيه. فَكانَ الفِرّيسِيّونَ وَالكَتَبَةُ يَقولونَ مُتَذَمِّرين: "هَذا ٱلرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ وَيَأكُلُ مَعَهُم!" فَضَرَبَ يَسوعُ لَهُم هَذا ٱلمَثَل، وَقال: "كانَ لِرَجُلٍ ابنان. فقالَ أَصغَرُهما لأبيه: يا أَبَتِ أَعطِني النَّصيبَ الَّذي يَعودُ علَيَّ مِنَ المال. فقَسَمَ مالَه بَينَهما. وبَعدَ بِضعَةِ أَيَّامٍ جَمَعَ الاِبنُ الأَصغَرُ كُلَّ شَيءٍ لَه، وسافَرَ إِلى بَلَدٍ بَعيد، فَبدَّدَ مالَه هُناكَ في عيشَةِ إِسراف. فَلَمَّا أَنفَقَ كُلَّ شَيء، أَصابَت ذلكَ البَلَدَ مَجاعَةٌ شَديدة، فأَخَذَ يَشكو العَوَز. ثُمَّ ذَهَبَ فالتَحَقَ بِرَجُلٍ مِن أَهلِ ذلكَ البَلَد، فأرسَلَه إِلى حُقولِه يَرعى الخَنازير. وكانَ يَشتَهي أَن يَملأَ بَطنَه مِنَ الخُرنوبِ الَّذي كانتِ الخَنازيرُ تَأكُلُه، فلا يُعطيهِ أَحَد. فرَجَعَ إِلى نَفسِه وقال: كم أَجيرٍ لَأَبي يَفضُلُ عنه الخُبْزُ وأَنا أَهلِكُ هُنا جُوعًا! أَقومُ وأَمضي إِلى أَبي فأَقولُ لَه: يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ. ولَستُ أَهلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدعى لَكَ ابنًا، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ. فقامَ ومَضى إِلى أَبيه. وكانَ لم يَزَل بَعيدًا إِذ رآه أَبوه، فَأَشفَقَ عَلَيه وأَسرَعَ إليه فأَلقى بِنَفسِه على عُنُقِه وقَبَّلَه طَويلاً. فقالَ لَه الابن: يا أَبَتِ، إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ، ولَستُ أَهلاً بَعدَ ذلِكَ لأَن أُدعى لَكَ ابنًا. فقالَ الأَبُ لِعَبيدِه: أَسرِعوا فأتوا بِأَفخَرِ حُلَّةٍ وأَلبِسوه، واجعَلوا في إِصبَعِه خاتَمًا وفي رِجليه حِذاءً، وأتوا بالعِجْلِ المُسَمَّن واذبَحوه فنأكُلَ ونَتَنَعَّم، لأنَّ ابنِي هذا كانَ مَيتًا فعاش، وكانَ ضالاً فوُجِد. فأَخذوا يتَنَّعمون. وكانَ ابنُه الأَكبَرُ في الحَقل، فلمَّا رَجَعَ واقترَبَ مِنَ الدَّار، سَمِعَ غِناءً ورَقصًا. فدَعا أَحَدَ الخَدَمِ واستَخبَرَ ما عَسَى أَن يَكونَ ذلك. فقالَ له: قَدِمَ أَخوكَ فذَبَحَ أَبوكَ العِجْلَ المُسَمَّن لأنَّّه لَقِيَه سالِمًا. فغَضِبَ وأَبى أَن يَدخُل. فَخَرَجَ إِلَيه أَبوهُ يَسأَلُه أَن يَدخُل، فأَجابَ أَباه: ها إِنِّي أَخدُمُكَ مُنذُ سِنينَ طِوال، وما عَصَيتُ لَكَ أَمرًا قَطّ، فما أَعطَيتَني جَدْيًا واحِدًا لأَتَنعَّمَ به مع أَصدِقائي. ولمَّا رَجِعَ ابنُكَ هذا الَّذي أَكَلَ مالَكَ مع البَغايا ذَبَحتَ له العِجْلَ المُسَمَّن! فقالَ له: يا بُنَيَّ، أَنتَ مَعي دائمًا أبدًا، وجَميعُ ما هو لي فهُو لَكَ. ولكِن قد وَجَبَ أَن نَتَنعَّمَ ونَفرَح، لأنَّ أَخاكَ هذا كانَ مَيتًا فعاش، وكانَ ضالاً فوُجِد" (لوقا 15، 1- 3؛ 11-32).

للتأمّل

في مَثَل الابن الضال، من عادتنا أن نتوقّف كثيرًا عند الابن الأصغر، الابن الخاطئ الذي ترك بيت أبيه وذهب بعيدًا لينغمس في جميع أنواع الفجور، ثمّ ندم وعاد، فاستقبله أبوه بمحبّة مذهلة. وإذ يطول الكلام أو التأمّل في هذا القسم من المثل، لا يكون لدينا وقت لتأمّل القسم الثاني، أي حال الابن الأكبر. كان هذا الابن (الأكبر) مطيعًا ملتزمًا. إنّه يلبّي جميع رغبات الأب «ولا يعصيه» في أمرٍ واحدٍ. إنّه نموذج المؤمن الملتزم بشريعة الربّ، ويطبّق جميع وصاياه.

بيد أنّ محنة أخوه الأصغر كانت بمثابة كشفٍ عن حقيقة إيمانه وطبيعته. فهذا الابن لا يطيع أباه، ولا يطبّق وصاياه، انطلاقًا من قناعةٍ داخليّة ولا رغبةٍ بأن يفعل ذلك، بل مرغمًا. ما الذي يرغمه؟ ربّما سمعته بين الناس. إنّه لا يريدهم أن يقولوا عنه إنّه ابن عاق، وربّما يريد أن يظهر أمامهم بمظهر الإنسان المستقيم، الابن البارّ، فيعزّي نفسه بمديحهم. وربّما أطاع خوفًا من العقاب. كم من مؤمن يطيع وصايا ربّه خوفًا من نار الجحيم وطمعًا بنَيل النعيم؟ لو قيل له إنّ الله ألغى عذاب جهنّم، لتخلّى لتوّه عن سلوكه بحسب الشريعة، وأطلق لنزواته العنان. كم من مسيحيّ تثور ثائرته حين يسمع أحدهم يقول إنّ خلاص المسيح سيُعطى للجميع، مسيحيّين وغير مسيحيّين.

إنّ الابن الأكبر في مَثَل الابن الضالّ هو من هذا النمط. فحواره يبيّن على الأقل أنّه ليس سعيدًا: "ما أَعطَيتَني جَدْيًا واحِدًا لأَتَنعَّمَ به مع أَصدِقائي". إنّه مثل أخيه الصغير تمامًا: ليس سعيدًا، ليس مرتاحًا، يشعر بأنّ العيش تحت كنف الأب نير؛ والفارق الوحيد بين الاثنين هو أنّ هذا لم يترك البيت مثل ذاك بل بقي مع أبيه. إنّه نموذج المؤمن الضال؛ المؤمن الذي يلتزم بالشريعة مرغمًا؛ المؤمن الذي لا يرتاح مع أبيه السماويّ بل يخشى بطشه أو عقابه؛ المؤمن الذي لا تزال شريعته مكتوبة على لوح حجر وليس في قلبه. إنّه يسبّح الله بشفتيه ولكنّ قلبه بعيد عنه.

إنّ مؤمنًا كهذا يتمّم جميع الوصايا والأوامر: يصوم ويصلّي، ويمتنع عن المحرّمات، ويلتزم بالموجبات، ولكنّه يفعل هذا بدون محبّة. وما ثورته على استقبال أبيه لأخيه إلّا برهان على ذلك. لقد أبى أن يدخل. إنّه لم يترك البيت الوالديّ ولكنّه كمَن تركه. أو لنقل بطريقةٍ أخرى: إنّه لم يكن قطّ في بيت أبيه. كان فيه بالجسد ولكن ليس بالروح ولا بالرغبة. إنّه أيضًا ضالّ على الرغم من إيمانه. أيّ نفعٍ لإيمانٍ ليس فيه محبّة، لا لله ولا للقريب؟ أيّ نفعٍ لإيمانٍ غايته القصوى المصلحة الشخصيّة؟ أيّ نفعٍ لإيمانٍ يسمح للشخص بأن يقول: هذا ليس أخي، هذا ابنكَ، وأنا أتبرّأ منه. ففي حوار الابن الأكبر مع أبيه لا يقول أبدًا: أخي، بل يلحّ على: ابنُكَ. في حين أنّ الأب، وبطريقةٍ في غاية الوداعة، يذكّره ويقول: أخوك.

إنّ إنجيل اليوم هو إنجيل الابنَين الضالَّين: الواحد غير مؤمن والثاني مؤمن. إنّه يدعو جميع المسيحيّين إلى مراجعة ضمائرهم ليروا: هل يفرحوا باستقبال الربّ لغيرهم، حتّى لأعدائهم ولمَن آذوهم أم لا؟ هل هم سعداء بالتزامهم بإيمانهم أم يعيشون هويّتهم المسيحيّة كقدَرٍ فُرِضَ عليهم، ويحاولون بشتّى الوسائل تخفيف نيره، والالتفاف حوله لتلبية نزواتهم؟








All the contents on this site are copyrighted ©.