2015-11-21 16:37:00

الإنجيل وقفة تأمل عند كلمة الحياة


فعادَ بيلاطُس إِلى دارِ الحُكومة، ثُمَّ دَعا يسوعَ وقالَ له: "أَأَنتَ مَلِكُ اليَهود؟" أَجابَ يسوع: "أَمِن عِندِكَ تَقولُ هذا أَم قالَه لَكَ فِيَّ آخَرون؟" أَجابَ بيلاطُس: "أَتُراني يَهودِيًّا؟ إِنَّ أُمَّتَكَ و الأَحبارَ أَسلَموكَ إِلَيَّ. ماذا فَعَلتَ؟" أَجابَ يسوع: "لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم. لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم لَدافعَ عَنِّي حَرَسي ِكي لا أُسلَمَ إِلى اليَهود. ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا". فقالَ له بيلاطُس: "إِذَن فأَنتَ مَلِك!" أَجابَ يسوع: "هوَ ما تَقول، فإِنِّي مَلِك. وأَنا ما وُلِدتُ وأَتَيتُ العالَم إِلاَّ لأَشهَدَ لِلحَقّ. فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي إِلى صَوتي" (يوحنا 18، 33- 37).

للتأمل

في ختام السنة الطقسيّة نحتفل بعيد يسوع الملك، وتعرض علينا الكنيسة مشهدًا من محاكمة يسوع، يسأله فيه بيلاطس إن كان ملك اليهود، ويقرّ يسوع بأنّه ملك ولكنّ مملكته ليست من هذا العالم. ويطرح علينا هذا النصّ عدّة أسئلة: ما معنى أن يكون يسوع ملكًا ؟ ولماذا يتحدّث يوحنا في إنجيله عن مُلك يسوع في هذا الموقف الّذي يتعرّض فيه يسوع للاتّهام والمذلّة والإهانة؟ وما عسى أن يكون موقفنا من يسوع الملك في واقعنا اليوم؟

يُساق يسوع إلى المحاكمة أمام بيلاطس لأنّ اليهود يتّهمونه بأنّه قال عن نفسه إنّه ملك اليهود، وهم لا يريدون ملكًا عليهم سوى قيصر. لا يوجد ملك بدون مملكة ولا أَتباع، ولكن مُلك يسوع ليس على نحو العالم، فملوك العالم يتسلّطون على الناس ويستولون على خيرات الأرض وغناها. ويطلب اليهود حكم قيصر عليهم وهو من يحتل بلادهم ويبتزّ أموالهم ويعاملهم كالعبيد في أرضهم وديارهم. ويقول يسوع عن نفسه إنّه الراعي الصالح الّذي يبذل نفسه عن خرافه، من يسير أمامها ليقودها إلى الحياة والحياة بفيض. مملكته هي في قلوب الناس الذين قبلوا أن يصير خادمًا لهم، ينحني أمامهم، ويغسل أقدامهم، فيتطهّرون من أنانيّتهم وخطيئتهم، ويتعلّقون بكلمته الّتي هي روحٌ وحياة.

وعندما يتجرّد يسوع عن كلّ شيء، ويُخلي ذاته ويصير كالعبد الّذي يُساق إلى الموت والموت على الصليب، يظهر في بهائه، ملكٌ بالحقّ على صورة الله أبيه. الله محبّة، بذلٌ وعطاءٌ، مغفرةٌ وحياةٌ، والمحبّة هي مسيرة تواضع أعظم لا ينتهي، يقول فيها المحبّ للمحبوب، ينبغي لي أن أصغر وأنت أن تكبر. وهنا حين يحاكم يسوع ويستهزأ به ملوك الأرض وكبارها، يُعلن ملكه ومجده، مجد الابن الأوحد الّذي هو في حضن الآب، وهو يسلّم ذاته بين يديّ البشر الخطأة. عجيب هو الله وعظيمةٌ هي أعماله، وكما يبعد المشرق عن المغرب وترتفع السماوات عن الأرض، تختلف أفكاره عن أفكار البشر وطرقه عن طرقهم. الله بسيطٌ وقريبٌ، وديعٌ ومتواضعٌ، رقةٌ ولطفٌ وعذوبةٌ، على صورة الأطفال الصغار.

كلّ ملكٍ أرضيٍّ صالحٌ، يُريد أن يقود شعبه إلى العدل والسلام، وكم بالحريّ يسوع، فهو يُريد أن يقود أخوته وأحبّائه، إذ لا يدعو تلاميذه عبيدًا بل أصدقاء، فيدعوهم إلى الفرح التام. يسوع هو الطريق والحقّ والحياة، فلا حياة حقيقيّة إلا في الحقّ، والحقّ يحرّر قلوبنا ويجعلنا أبناءً للآب مع يسوع. في محاكمة يسوع، يسأله بيلاطس: وما هو الحقّ؟ نحن نعرف الحقّ على وجه يسوع العبد الّذي يعاني المهانة والآلام في سبيل أحبائه، الحقّ ليس نوعًا من المعرفة الّتي تُمتلك، بل حياة تتبدّل على صورة يسوع، كلمة تتجسّد في واقع إنسان تغيّر فهمه لذاته ورؤيته للعالم والمجتمع من حوله. ومع يسوع، يفهم الإنسان أنّ فرح القلب والمجد والغنى الحقيقيّين ليسوا في التسلّط وشهوة الامتلاك ونهم الاستهلاك، بل في العطاء والمشاركة، في المغفرة والمصالحة، في الاستمرار في حبّ من لا يحبوننا بالرّغم من كلّ شيء.

وإلى أين يؤدي طريق يسوع؟ وإلى أين تأخذنا صورة الله المطبوعة فينا؟ بالطبع إلى بذل الذّات حتّى تحمّل الإهانة والإساءة، تشويه الصيت كذبًا وزورًا، التعرّض للرفض والعنف. وهذا كلّه كأنّه موتٌ يعبر علينا ويدهسنا، وفي قلوبنا الإيمان نفسه الّذي كان يشعل قلب يسوع بأنّ محبّة الله أبيه ستقوم منتصرة على الكذب والعنف والموت، وأنّ لا شيء يمكن أن يفصله عن محبة الله، لا حياة ولا موت، لا حاضر ولا ماضي ولا مستقبل، لا جوع ولا عريّ، وأنّ الله يحوّل كلّ الأمور لخير من يحبونه، فيعلنون بوجوه مكشوفةٍ عن صورة مجده بفضل الروح الساكن فيهم.

يسوع ملك، كان في العالم وأحبّ العالم، ولكنّه لم يكن من العالم. نهج ملوك العالم ليس طريق يسوع، ومُلكهم ليس مُلك يسوع. يسوع هو مَلك لأنّه وديعٌ ومتواضع القلب، هو ملك لأنّه اختار جانب الفقراء والضعفاء، هو ملك لأنه شفى البرص والعرج والعميان، هو ملك لأنّه لم يكن له موضع يسند إليه رأسه، لأنّه كالخادم الأمين الّذي يسعد بأنّ يفعل كلّ ما كان يجب أن يقوم به. يسوع ملك لأنّه آمن بأنّ ملكوت الله يُشبه حبّة الخردل، وهي أصغر الحبوب، ولكن متى نمت صارت أكبر البقول، تأتي إليها طيور السماء لتعشش فيها. يسوع ملك ونحن أتباعه، فطوبى لنا إذا عشنا كما عاش هو، وهنيئًا لنا إذا غسلنا أرجل بعضنا بعض، وصلينا لمن يحبوننا ولمن يضطهدوننا!








All the contents on this site are copyrighted ©.