2015-11-10 16:31:00

البابا فرنسيس: بإيماننا بالمصلوب نقبل سرّ الله المطبوع في وجه المسيح


ترأس قداسة البابا فرنسيس عصر اليوم الثلاثاء القداس الإلهي في استاد أرتيميو فرانكي في فلورنسا بحضور عدد كبير من الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين العلمانيين قدموا من مختلف المناطق المجاورة وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة استهلها بالقول في إنجيل اليوم يطرح يسوع على تلاميذه سؤالين، الأول: "مَنِ ابنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاس؟" (متى 16، 13)، إنه سؤال يُظهر مدى انفتاح قلب ونظر يسوع على الجميع، فيسوع يهتم بمعرفة ما يفكر به الناس لا ليرضيهم وإنما ليتمكن من التواصل معهم. فبدون أن يعرف التلميذ ما يفكر به الناس ينعزل التلميذ ويبدأ بالحكم على الأشخاص بحسب أفكاره وقناعاته. فالحفاظ على علاقة سليمة مع الواقع ومع ما يعيشه الناس هو الأسلوب الوحيد للتمكن من مساعدتهم، تنشئتهم والتواصل معهم. إنه الأسلوب الوحيد للتحدث إلى قلوب الأشخاص ولمس خبراتهم اليوميّة، إنه الأسلوب الوحيد لفتح قلوبهم على الإصغاء لله. فلا ينبغي أبدًا لتلاميذ يسوع أن ينسوا من أين اختيروا، أي من بين الناس، كما ولو كان ما يفكر به الناس ويعيشونه لا يهمّهم.

أضاف الحبر الأعظم يقول هذا الأمر ينطبق علينا أيضًا. فالكنيسة كيسوع تعيش في وسط الناس ومن أجلهم. لذلك وعبر تاريخها حملت الكنيسة دائمًا في داخلها السؤال عينه: من هو يسوع بالنسبة لرجال ونساء اليوم؟ حتى القديس البابا لاون الكبير، والذي نحتفل اليوم بعيده، قد حمل في قلبه هذا السؤال وهذا الهم الرسولي بأن يتمكن الجميع من معرفة يسوع على حقيقته. لذلك، تابع البابا فرنسيس يقول، من الضروري أن ننضّج إيمانًا شخصيًّا به. وها هو إذًا السؤال الثاني الذي يطرحه يسوع على تلاميذه: "ومَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟" (متى 16، 15). سؤال يتردّد صداه اليوم أيضًا في ضمائرنا نحن تلاميذه وهو جوهريٌّ لهويتنا ورسالتنا. فقط إن اعترفنا بيسوع بحقيقته سنتمكّن من النظر إلى حقيقة وضعنا البشري، ومن تقديم مساهمتنا في الأنسنة الكاملة للمجتمع. إن حراسة الإيمان المستقيم بيسوع المسيح وإعلانه هما جوهر هويتنا المسيحية، لأنه في الاعتراف بسرّ ابن الله الذي صار بشرًا يمكننا أن ندخل في سرّ الله وسرّ الإنسان.

أضاف الأب الأقدس يقول: وعلى سؤال يسوع يجيب سمعان "أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ". هذا الجواب يحمل في داخله رسالة بطرس بكاملها ويُلخّص ما ستصبح عليه الخدمة البطرسيّة بالنسبة للكنيسة أي حراسة حقيقة الإيمان وإعلانها، والدفاع عن الشركة بين الكنائس وتعزيزها، والمحافظة على تعليم الكنيسة. لقد كان البابا لاون ويبقى، في هذه الرسالة، مثالاً يُحتذى به من خلال تعاليمه المنيرة وتصرفاته المفعمة بوداعة الله ورأفته وقوته. واليوم أيضًا، أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، يكمن فرحنا في مقاسمة هذا الإيمان والإجابة معًا على الرب يسوع: "أنت بالنسبة لنا، المسيح ابن الله الحيّ". وفرحنا هو أيضًا في السير بعكس التيار وتخطّي الرأي الشائع الذي لا يمكنه أن يرى في يسوع أكثر من نبيٍّ أو معلّم. إن فرحنا يكمن في اعترافنا به كحضور لله والمرسل من الآب، الابن الذي جاء ليجعل من نفسه أداة خلاص للبشريّة. إن اعتراف الإيمان هذا الذي أعلنه سمعان بطرس يبقى لنا أيضًا، فهو لا يمثل فقط أساس خلاصنا وإنما أيضًا الدرب التي من خلالها يكتمل هذا الخلاص.

تابع البابا فرنسيس يقول في جذور سرّ الخلاص نجد رغبة إله رحيم لا يريد أن يستسلم أمام عدم تفهُّم الإنسان وخطيئته وشقائه لكنه يعطي ذاته له لدرجة أنه يصبح إنسانًا ليلتقي كل شخص في واقعه الملموس. إن محبة الله الرحيمة هذه هي ما يعترف بها سمعان بطرس في وجه يسوع. الوجه عينه الذي دُعينا نحن أيضًا لنعرفه في الأشكال المتعددة التي من خلالها أكّد لنا الرب حضوره في وسطنا: في كلمته التي تنير ظلمات عقلنا وقلبنا؛ في الأسرار التي تلدنا مجدّدًا لحياة جديدة؛ في الشركة الأخويّة التي يولدها الروح القدس بين تلاميذه؛ في الحب الذي لا يعرف الحدود ويصبح خدمة سخيّة ومتنبّهة تجاه الجميع؛ في الفقير الذي يذكّرنا كيف أراد يسوع أن يُظهر لنا عظمة ذاته والآب من خلال صورة المصلوب المهان. إن حقيقة الإيمان هذه هي الحقيقة التي تسبب لنا عثرة لأنها تطلب منا أن نؤمن بيسوع الذي وبالرغم من أنه في صورة الله، تجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبد حتى موت الصليب ولذلك رفعه الله سيّدًا على الكون (راجع فيل 2، 6- 11). إنها الحقيقة التي لا تزال اليوم أيضًا تسبب عثرة لمن لا يقبل سرّ الله المطبوع في وجه المسيح. هذه هي الحقيقة التي لا يمكننا أن نعانقها بدون أن ندخل في سرِّ يسوع المسيح وبدون أن يَكون فيما بَينَنا الشُّعورُ الَّذي هو أَيضاً في المَسيحِ يَسوع (راجع فيل 2، 5). لأنه فقط وانطلاقًا من قلب المسيح يمكننا أن نفهم حقيقته ونعلنها ونعيشها.

في الواقع، أضاف الأب الأقدس يقول إن الشركة بين الإلهي والإنساني والتي تحققت بالكامل بيسوع، هي هدفنا ونقطة الوصول للتاريخ البشري بحسب مخطط الآب. إنها طوبى اللقاء بين ضعفنا وعظمته وبين صغرنا ورحمته التي ستملأ كل محدوديّتنا. لكن هذا الهدف ليس فقط الأفق الذي ينير مسيرتنا وإنما هو أيضًا ما يجذبنا بقوّته العذبة، وما نبدأ بتذوّقه هنا ويُبنى يومًا بعد يوم من خلال الخير الذي نزرعه من حولنا. هذه هي البذار التي تساهم في خلق بشريّة جديدة ومتجدّدة لا يُترك فيها أحدٌ على الهامش وحيث يكون الأكبر هو الذي يخدم؛ وحيث يُقبل الصغار والفقراء وتتمّ مساعدتهم. إن الله والإنسان ليسا طرفي نقيض بل هما يبحثان دائمًا عن بعضهما البعض لأن الله يجد صورته في الإنسان، والإنسان يعرف ذاته فقط من خلال النظر إلى الله. هذه هي الحكمة الحقيقية التي يشير إليها سفر يشوع بن سيراخ كميزة لمن يختار درب إتباع الرب. إنها حكمة القديس لاون الكبير، ثمرة تلاقي عناصر متعددة: الكلمة والذكاء، الصلاة والتعليم والذكرى. لكن القديس لاون يذكرنا أيضًا أنه لا وجود للحكمة الحقيقية إلا في العلاقة مع المسيح وفي خدمة الكنيسة.

وختم البابا فرنسيس عظته بالقول هذه هي الدرب التي نلتقي خلالها بالبشريّة بروح السامري الصالح. ليس من باب الصدفة أن الأنسنة، والتي كانت فلورنسا شاهدة لها في مراحلها الأكثر إبداعًا، قد تحلّت على الدوام بوجه المحبّة. ليكن هذا الإرث خصبًا بأنسانيّة جديدة لهذه المدينة ولإيطاليا بأسرها.               








All the contents on this site are copyrighted ©.