2015-04-12 08:55:00

البابا يترأس صلاة الغروب في البازيليك الفاتيكانية عشية أحد الرحمة الإلهية


ترأس البابا فرنسيس عند الساعة الخامسة والنصف من عصر أمس السبت صلاة الغروب في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان لمناسبة أحد الرحمة الإلهية تخللتها قراءة مقاطع من الرسالة المتعلقة بالدعوة إلى "يوبيل الرحمة". تخللت الاحتفال عظة للبابا قال فيها: أيها الأخوة والأخوات الأعزاء، ما تزال تتردد على مسامعنا تحية يسوع القائم من الموت لتلاميذه عشية الفصح "السلام عليكم!" (يوحنا 20، 19). إن السلام، وخصوصا في هذه الأسابيع، يبقى رغبة بالنسبة للعديد من الشعوب التي تتعرض لعنف لم يسبق له مثيل، عنف التمييز والموت، لمجرد كونهم مسيحيين. وصلاتنا تكتسب زخما أكبر وتصبح صرخة نجدة للآب الغني بالمراحم، كي يعضد إيمان العديد من الأخوة والأخوات العائشين بالألم، فيما نطلب بأن تتبدل قلوبنا للانتقال من اللامبالاة إلى الرأفة.

إن القديس بولس الرسول ـ تابع البابا يقول ـ ذكّرنا بأننا خُلّصنا في سر موت وقيامة الرب يسوع. إنه من يصالح، وهو حيّ في وسطنا ليقدّم لنا درب المصالحة مع الله ومع الأخوة. ويذكّرنا الرسول بولس بأنه وعلى الرغم من صعوبات الحياة والمعاناة، ينمو الرجاء في الخلاص الذي زرعته محبة المسيح في قلوبنا. رحمة الله انسكبت بداخلنا وجعلتنا أبرارا ووهبتنا السلام.

وثمة تساؤل موجود في قلوب الكثيرين: لماذا يُحتفل اليوم بيوبيل الرحمة؟ والجواب البسيط هو أن الكنيسة مدعوة، في هذه اللحظات المطبوعة بالتبدلات التاريخية، لأن تُقدم بشكل أقوى علامات حضور الله وقربه. هذا ليس زمن الشرود، بل على العكس إنه زمن اليقظة كي تنمو بداخلنا القدرة على النظر إلى الأمور الأساسية والجوهرية. إنه الزمن الذي تستعيد فيه الكنيسة معنى الرسالة التي أوكلها إليها الرب يوم الفصح: أن تكون علامة وأداة لرحمة الآب (راجع يوحنا 20، 21-23). ولهذا السبب لا بد أن تُبقي السنة المقدسة حيةً الرغبة في قراءة العلامات الكثيرة للحنان الذي يقدمه الله للعالم كله، لاسيما للأشخاص المتألمين والوحيدين والمتروكين ومن فقدوا الأمل بأن يُغفر له وأن يشعروا بمحبة الآب تجاههم.

مضى البابا فرنسيس إلى القول: إنها سنة مقدسة تساعدنا على الشعور بالفرح الناجم عن عثور يسوع علينا، الذي ـ وعلى غرار الراعي الصالح ـ جاء ليبحث عنا لأننا تهنا. إنه اليوبيل الذي يسمح بالشعور بحرارة محبته عندما يحملنا على كتفيه ليعيدنا إلى منزل الآب. سنة نترك خلالها الرب يسوع يلمسنا ويبدلنا برحمته لنصير نحن أيضا شهودا للرحمة. لهذا السبب جاء اليوبيل: لأن هذا هو زمن الرحمة. إنه الزمن المناسب لتضميد الجراح، وعدم التعب من الالتقاء بمن ينتظرون أن يروا ويلمسوا لمس اليد علامات قرب الله، لنقدم للجميع درب الغفران والمصالحة.

في ختام عظته خلال ترؤسه صلاة الغروب في البازيليك الفاتيكانية سأل البابا فرنسيس والدة الرحمة الإلهية أن تفتح أعيننا كي نفهم الالتزام المدعوين إليه؛ وأن تنال لنا نعمة أن نعيش يوبيل الرحمة هذا بشهادة أمينة وخصبة.

هذا وقد تخللت صلاة الغروب قراءة عدد من مقاطع الرسالة المتعلقة بالدعوة إلى يوبيل الرحمة:

۱. يسوع المسيح هو وجه رحمة الآب. يبدو أن سرّ الإيمان المسيحي قد وجد ملخّصه في هذه الكلمة. لقد أصبحت حيّةً ومرئيّة وبلغت ذروتها في يسوع الناصريّ. إن الآب "الواسع الرحمة" (أفسس 2، 4)، وبعد أن أظهر اسمه لموسى كـ "إله رَحيم ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء" (خروج 34، 6)، لم يكفَّ أبدًا عن كشف طبيعته الإلهيّة بطرق مختلفة وأوقات عديدة من التاريخ. فلما "تمّ الزمان" (غلاطية 4، 4)، وعندما كان كل شيء قد جُهِّز بحسب مخطّطه الخلاصي، أرسل ابنه مولودًا من العذراء مريم ليظهر لنا حبّه بشكل نهائيّ. من يراه يرى الآب (راجع يوحنا 14، 9). فيسوع الناصري يُظهر رحمة الله من خلال كلمته وتصرفاته وحضوره الذاتي الكامل.

       ۲. نحن بحاجة على الدوام للتأمل بسرّ الرحمة. إنه مصدر فرح وسكينة وسلام. إنه شرط لخلاصنا. الرحمة: هي كلمة تظهر سرّ الثالوث الأقدس. الرحمة: هي العمل النهائي والأسمى الذي من خلاله يأتي الله إلى لقائنا. الرحمة: هي الشريعة الأساسية التي تقيم في قلب كلّ شخص عندما ينظر بعينين صادقتين إلى الأخ الذي يلتقيه في مسيرة الحياة. الرحمة: هي الدرب الذي يوحد الله بالإنسان، لأنها تفتح القلب على الرجاء باننا محبوبون إلى الأبد بالرغم من محدوديّة خطيئتنا.

       ۳. هناك أوقات نكون فيها مدعوين بشكل قوي لنثبّت النظر على الرحمة لنصبح بدورنا علامة فعّالة لعمل الآب. ولذلك أعلنتُ يوبيلاً إستثنائيًّا للرحمة كزمن ملائم للكنيسة، لكيّ يعزز شهادة المؤمنين ويفعّلها.

       ستفتتح السنة المقدسة في الثامن من كانون الأول ديسمبر عام 2015، في عيد الحبل بلا دنس. هذا العيد الليتورجي يشير إلى أسلوب عمل الله منذ فجر التاريخ. وفي يوم الأحد التالي، الثالث من زمن المجيء، سيُفتح الباب المُقدّس في كاتدرائيّة روما، بازيليك القديس يوحنا اللاتيران. ولاحقًا سيُفتح الباب المقدس في البازيليكات البابويّة الأخرى. في الأحد عينه سأُحدِّد في كل كنيسة خاصة، في الكاتدرائيّة التي تشكل الكنيسة الأم لجميع المؤمنين، أو في الكاتدرائيّات الأخرى أو في كنيسة ذات أهميّة خاصة، بأن يُفتح خلال السنة المقدّسة بأسرها بابًا للرحمة مُشابهًا. وباختيار الأسقف، يمكن لهذا الباب أن يُفتح أيضًا في المزارات، وجهة العديد من الحجّاج، الذين غالبًا ما تلمسهم النعمة في قلوبهم في هذه الأماكن المقدّسة ويجدون السبيل للارتداد. وبالتالي ستكون كل كنيسة خاصة معنيّة بعيش هذه السنة المقدّسة كزمن استثنائيّ للنعمة والتجدّد الروحي. لذلك سيُحتفل باليوبيل في روما وفي الكنائس الخاصة كعلامة مرئيّة لشركة الكنيسة بأسرها.

       ٤. لقد اخترت تاريخ الثامن من كانون الأول ديسمبر لأنه تاريخ غنيّ بالمعاني بالنسبة لتاريخ الكنيسة الحديث. سأفتح الباب المقدس في الواقع في الذكرى الخمسين لاختتام المجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني. الكنيسة تشعر بالحاجة لإبقاء هذا الحدث حيًّا. إذ قد بدأت معه مسيرة جديدة في تاريخها. فالآباء المجتمعون في المجمع قد أحسّوا بقوة، كنفحة حقيقية للروح القدس، بضرورة التحدث عن الله لرجال عصرهم بأسلوب مفهوم أكثر. وإذ تمّ هدم الجدران التي، ولزمن طويل، قد حبست الكنيسة داخل مدينة ذات امتيازات، فقد حان الوقت لإعلان الإنجيل بطريقة جديدة. مرحلة جديدة من البشارة. التزام جديد لجميع المسيحيين ليشهدوا لإيمانهم بحماس وقناعة.

       ٥. ستُختتم السنة اليوبيلية في عيد يسوع المسيح ملك الكون، في العشرين من تشرين الثاني نوفمبر عام 2016. في ذاك اليوم، بإغلاق الباب المقدس ستغمرنا مشاعر الامتنان والشكر تجاه الثالوث الأقدس لأنه سمح لنا بزمن النعمة الاستثنائي هذا. سنكِلُ حياة الكنيسة، البشريّة بأسرها والكون الواسع إلى سلطان المسيح، لكي يفيض رحمته كندى الصباح من أجل تاريخ خصب يُبنى بالتزام الجميع بالمستقبل.

       ۸. بتثبيت النظر على يسوع وعلى وجهه الرحيم يمكننا أن نفهم محبة الثالوث الأقدس. فالرسالة التي نالها يسوع من الآب هي بأن يُظهر سرّ المحبّة الإلهيّة بملئه... وشخصه ليس إلا محبة، محبة تبذل ذاتها مجانًا. وعلاقاته مع الأشخاص الذين يقتربون منه تظهر شيئًا فريدًا لا يتكرر. الآيات التي يقوم بها، وخصوصًا تجاه الخطأة والفقراء والمهمشين، المرضى والمتألّمين هي تحت راية الرحمة. كل شيء فيه يحدث عن الرحمة. ولا شيء فيه خال من الرأفة.

١۰. إن الدعامة التي ترتكز إليها الكنيسة هي الرحمة. وكل نشاطها الرعوي ينبغي أن يُلفّ بالحنان الذي تتوجه به إلى المؤمنين؛ وينبغي ألا يفتقر أي جزء من إعلانها وشهادتها حيال العالم من الرحمة. إن مصداقية الكنيسة تمر عبر طريق المحبة الرحومة والرؤوفة... قد نكون نسينا لوقت طويل أن ندل على درب الرحمة ونعيشها. إن تجربة المطالبة بالعدالة وحسب على الدوام، جعلتنا ننسى أن هذه هي الخطوة الأولى، إنها ضرورية ولا غنى عنها، لكن الكنيسة تحتاج للذهاب أبعد منذ ذلك لبلوغ هدف أسمى وأهم.

١۲. الحقيقة الأولى للكنيسة هي محبة المسيح. إزاء البشر تجعل الكنيسة من نفسها خادمة ووسيطة لهذه المحبة التي تصل إلى حد المغفرة ووهب الذات. لذا حيث توجد الكنيسة يجب أن تتجلى رحمة الآب بوضوح. لا بد أن يجد أي شخص واحة من الرحمة في رعايانا، وجماعاتنا وجمعياتنا وحركاتنا، أي حيثما يوجد مسيحيون.

۱٥. في هذه السنة المقدسة، يمكننا أن نختبر انفتاح القلب على من يعيشون في أقاصي الضواحي والتي يخلقها غالبا العالم المعاصر بطريقة مأساوية. كم هي كثيرة في عالم اليوم أوضاع الألم وانعدام الثبات! كم من الجراح المطبوعة في أجساد أشخاص كثيرين لا صوت لهم، لأن صراخهم اضمحل وانطفأ بسبب لامبالاة الشعوب الغنية. في هذا اليوبيل ستُدعى الكنيسة أكثر من أي وقت مضى للاعتناء بهذه الجراح ومداواتها بزيت العزاء وتضميدها بالرحمة ومعالجتها بالتعاضد والعناية الواجبة...

 أتمنى بشدة أن يفكر الشعب المسيحي خلال اليوبيل في أعمال الرحمة الجسدية والروحية. وستكون هذه الطريقة كفيلة بإيقاظ ضميرنا الذي ينزلق غالبا إلى السبات إزاء مأساة الفقر وبالغوص أكثر في قلب الإنجيل، حيث الفقراء هم المفضلون لدى الرحمة الإلهية.

       ١۹. لتتمكّن كلمة المغفرة من بلوغ الجميع ولا تتركنَّ الدعوة لاختبار الرحمة أيَّ أحد غير مبال. إن دعوتي إلى التوبة موجّهة بإلحاح أكبر أيضا لأولئك الأشخاص البعيدين عن نعمة الله بسبب سلوك حياتهم. وأفكِّرُ بنوع خاص بالرجال والنساء الذين ينتمون لمجموعة إجرامية، أيًّا تكن. من أجل خيركم، أطلب منكم تغيير حياتكم. أطلب منكم ذلك باسم ابن الله الذي، وإذ حارب الخطيئة، لم يرفض قط أيَّ خاطئ...

       لتصِل الدعوة نفسها للأشخاص الداعمين أو المتواطئين مع الفساد. إن هذه الآفة العفنة للمجتمع هي خطيئة كبيرة تصرخ نحو السماء، لأنها تهدّد أُسس الحياة الشخصية والاجتماعية. فالفساد يمنع النظر برجاء إلى المستقبل، لأنه باستبداده وجشعه، يدمّر مشاريع الضعفاء ويسحق الأكثر فقرا. إنه شرّ يعشش في الأفعال اليومية لينتشر من ثم في الفضائح العامة...

       إنه الوقت الملائم لتغيير الحياة! إنه الوقت لتغيير القلب. فأمام الشر المرتكب، وجرائم خطيرة أيضا، إنّه وقت الإصغاء لبكاء الأشخاص الأبرياء المسلوبي الخيور، الكرامة، المشاعر، والحياة نفسها. إن الاستمرار في طريق الشر هو مصدر وهْم وحزن لا غير. فالحياة الحقيقية هي أمر آخر. إن الله لا يتعب أبدا من مدّ اليد. إنه دائم الاستعداد للإصغاء، وأنا أيضا، كما أخوتي الأساقفة والكهنة. يكفي فقط قبول الدعوة إلى التوبة والخضوع للعدالة، فيما تقدّم الكنيسة الرحمة.

       ۲۳. تمتلك الرحمة قيمة تذهب أبعد من حدود الكنيسة. إنها تربطنا   مع اليهودية والإسلام اللذين يعتبرانها من بين أبرز صفات الله... لتشجّع هذه السنة اليوبيلية المُعاشة في الرحمة اللقاء مع هاتين الديانتين ومع باقي التقاليد الدينية العريقة؛ ولتجعلنا أكثر انفتاحا على الحوار كي نعرف ونفهم بعضنا بعضًا بشكل أفضل؛ ولتُزِل كل شكل من أشكال الانغلاق والازدراء ولتُبعد كل شكل من أشكال العنف والتمييز.

       ۲٤. يتّجه الفكر الآن إلى أمّ الرحمة. ليرافقنا نظرها العطوف في هذه السنة المقدسة، كي نتمكّن جميعًا من إعادة اكتشاف فرح حنان الله. ما مِن أحد كمريم قد عرف عمْق سرّ الله الذي صار إنسانًا. إن كل شي في حياتها قد طُبع بحضور الرحمة التي صارت بشرًا... لنرفع إليها الصلاة القديمة والجديدة على الدوام السلام عليك أيتها الملكة، كي لا تتعب أبدا من النظر إلينا بعينيها الرحميتين وتجعلنا أهلاً للتأمل بوجه الرحمة، ابنها يسوع.

       ۲٥. إنها سنة مقدسة استثنائية إذًا، كي نعيش في كل يوم من الحياة الرحمة التي يبسطها الآب علينا منذ الأزل. وفي هذا اليوبيل، لنَدعِ الله يفاجئنا. فهو لا يتعب أبدا من تشريع باب قلبه ليكّرر أنه يحبّنا ويريد أن يقاسمنا حياته. إن الكنيسة تشعر بشكل قوي بإلحاحية إعلان رحمة الله. وإن حياتها حقيقية وصادقة عندما تجعل من الرحمة إعلانها الواثِق. إنها تعلم أن مهمتها الأولى، لاسيما في وقت كوقتنا المفعم بآمال كثيرة وتناقضات قوية، هي أن تُدخلنا جميعا في السر العظيم لرحمة الله، من خلال التأمل بوجه المسيح... ومن قلب الثالوث، ومن عمق أعماق سر الله، ينبع ويجري بلا توقّف نهر الرحمة الشاسع. ولا يمكن لهذا الينبوع أن ينضب أبدا لجميع الذين يقتربون منه. فكل مرة يحتاج إليه أحد، يستطيع أن يقترب منه لأن رحمة الله لامتناهية. وبقدر ما لا يمكن سبْر غور عمق السر الذي يحتويه، بقدر ما لا ينضب الغنى النابع منه.

       في هذه السنة اليوبيلية، لتردّد الكنيسة كلمة الله التي تدوّي بقوة وإقناع ككلمة وعمل مغفرة، مؤازرة، مساعدة ومحبة. ولا تتعبنّ أبدا من تقديم الرحمة، ولتكن دائما حليمة في التعزية والمغفرة. ولتكن الكنيسة صوت كل رجل وامرأة ولتردّد بثقة وبلا انقطاع " يا ربِّ اذكُر حنانَكَ ومراحِمَكَ فإنَّها قائمةٌ منذُ أزلِكَ" (مزمور 25، 6).

 

 








All the contents on this site are copyrighted ©.