2015-03-06 15:44:00

عظة الأب كانتالاميسا الثانية في زمن الصوم


ألقى الأب رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي عظته الثانية لزمن الصوم صباح اليوم الجمعة في كابلة أم المخلص بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس وأعضاء الكوريا الرومانية، واستهلها بالقول إن زيارة الأب الأقدس الحديثة إلى تركيا والتي اختتمها بلقائه بالبطريرك الأرثوذكسي برتلماوس ودعوته لمقاسمة الإيمان المشترك بين الشرق المسيحي والغرب اللاتيني، دفعاني للتأمل خلال زمن الصوم هذا حول رغبة الأب الأقدس والتي هي أيضًا رغبة المسيحية بأسرها.

تابع الأب كانتالاميسا يقول إن رغبة المقاسمة هذه ليست جديدة، فالمجمع الفاتيكاني الثاني وفي القرار في الحركة المسكونية "استعادة الوحدة" قد شجّع على احترام الكنائس الشرقية وغناها. وفي الإطار عينه كتب البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته الرسوليّة "نور الشرق": "بما أنّا نعتقد أن تقليد الكنائس الشرقيّة الجليل والعريق في القدَم يشكّل جزء جوهرياً من تراث كنيسة المسيح فإنّ من أول واجبات الكاثوليك أن يعرفوا ذاك التقليد كي يتغذّوا منه ويسهّلوا، كلٌّ قدر طاقته، مسيرة الوحدة" (عدد 1). هذا وقد قدّم هذا الحبر الأعظم القديس أيضًا مبدأ أساسيًّا في المسيرة نحو الوحدة من خلال: "التعاون الفعَّال والمشاركة في كل ما يجمعنا وما يجمعنا هو أهمّ مما يفّرقنا" (إطلالة الألف الثالث، عدد 16). لاسيما وأن الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية تتقاسمان الإيمان عينه بالثالوث الأقدس وبتجسّد الكلمة، بيسوع المسيح الإنسان الحق والإله الحق الذي مات وقام ليخلّصنا، والذي منحنا الروح القدس؛ كما ونؤمن بأن الكنيسة هي جسده الذي يحركه الروح القدس وبأن الإفخارستيا هي "مصدر الحياة المسيحية وذروتها" وبأن العذراء مريم هي أم الله، وبأن مصيرنا هو الحياة الأبديّة. فما هو أهم من هذه الأمور كلها؟ وبالتالي فالاختلافات التي يمكنها أن تنتج من أسلوب شرح بعض هذه الأسرار ليست إلا اختلافات ثانويّة.

أضاف الأب رانييرو كانتالاميسا يقول في الجهود الهادفة إلى تعزيز الوحدة بين المسيحيين سادت حتى اليوم مسيرة يمكن أن نلخصها بالشكل التالي: "حل الاختلافات أولاً لنتقاسم ما يجمعنا فيما بعد"، لكن المسيرة الأنجح في الإطار المسكوني فهي: "مقاسمة ما يجمعنا لنتمكن بعدها بصبر واحترام من حل الاختلافات". كتب أحد الحكماء الوثنيين من القرن الرابع مذكرًا بحقيقة يمكنها أن تكتسب قيمتها الكاملة إن استُعملت في إطار العلاقات بين اللاهوت الشرقي والغربي: "لفهم سرّ كبير كهذا لا تكفينا درب واحدة". وبالتالي سنُظهر من خلال تأملاتنا ضرورة وجمال وفرح التأمل بروعة الإيمان المسيحي انطلاقًا من نواح وجوانب مختلفة. وأضاف إن أسرار الإيمان الكبيرة المشتركة التي سننطلق منها بالرغم من اختلاف التقليدين هي سرّ الثالوث الأقدس وشخص المسيح والروح القدس، وعقيدة الخلاص. رئتان لنفس واحد: وهذه هي القناعة التي ستقودنا خلال مسيرتنا.

تابع واعظ القصر الرسولي يقول نبدأ تأملنا انطلاقًا من سرّ الثالوث، قمة إيماننا المسيحي. في القرون الثلاثة الأولى في حياة الكنيسة، وبينما كانت عقيدة الثالوث الأقدس تتضح أكثر فأكثر، وجد المسيحيّون أنفسهم عرضة للاتهام الذي كانوا يوجهونه للوثنيين: وهو تعدد الآلهة؛ ولذلك نرى أن قانون الإيمان المسيحي، بمختلف صياغاته، ولثلاثة عصور، كان يبدأ بعبارة "أؤمن بالله"، لتصبح فيما بعد، بدء من القرن الرابع، "أؤمن بإله واحد". لن نستعيد المسيرة التي قادت إلى هذه النتيجة، ولكن يمكننا أن ننطلق منها لأنها شكّلت توافقًا تامًا بين النظرتين اللاهوتيّتين، كما يقول القديس غريغوريوس النزينزي إذ يؤكد أنه توافق كامل يشير إلى الحقيقة عينها بواسطة عبارات مختلفة. لكن في الواقع، بقي هناك اختلاف بين الأسلوبين في التعبير عن هذا السرّ، وهذا الاختلاف يعبر عنه اليونانيّون انطلاقًا من الأقانيم الثلاثة، أي من التعددية، ليصلوا إلى وحدة الطبيعة؛ بينما ينطلق اللاتين من وحدة الطبيعة الإلهية ليصلوا إلى الأقانيم الثلاثة.

أضاف الأب كانتالاميسا يقول اعتقد أنه بإمكاننا أن نعبّر عن هذا الاختلاف أيضًا بطريقة أخرى، فاليونانيّون واللاتين ينطلقون من وحدة الله، لكن هذه الوحدة هي مجرّدة بالنسبة للاتين أي أنها جوهر الله، أما بالنسبة لليونانيين فهذه الوحدة هي في شخص الآب الذي منه وإليه يتوق الابن والروح القدس. إنهما أسلوبان قانونيّان للاقتراب من هذا السرّ، لكن غالبًا ما يُفضل الأسلوب اليوناني الذي فيه لا تنفصل وحدة الله عن الثالوث أي وبتعبير آخر يشكل فيه الآب المصدر المطلق لحركة الحب. وكما يكتب القديس يوحنا الدمشقي "إن الابن والروح القدس موجودان بفضل الآب"، أي لأنه موجود. فالآب هو علاقة حبٍّ أزليّة ولا يمكنه أن يوجد خارج هذه العلاقة. وبالتالي لا يمكننا أن نتحدث عن الآب إلا كفعل حبٍّ أزلي.

تابع الأب رانييرو كانتالاميسا مؤكّدًا أن القديس أغوسطينوس هو أول من بنى دراسته عن الثالوث الأقدس حول التعريف "الله محبة" (1 يو 4، 16)، مؤكدًا أن الروح القدس هو الحب المتبادل بين الآب والابن بحسب المحور الثلاثي: الحبيب والمحبوب والحب. وفي هذا الإطار كتب القديس غريغوريوس بالاماس – وهو أول لاهوتي شرقيّ ينطلق من الإسهام الذي قدمه القديس أغوسطينوس في دراسته حول الثالوث الأقدس – "إن روح الكلمة العلي هو كمحبّة الآب التي تفوق الوصف لكلمته المولود بشكل لا يوصف؛ محبة الكلمة والابن الحبيب للآب، الذي بدوره ومع الروح القدس ينبثقان من الآب وهما مساويان له بالجوهر".

أضاف واعظ القصر الرسولي يقول إن الاختلاف والتكامل بين هاتين الوجهتين اللاهوتيّتين لا يقومان فقط على جوهر الثالوث والعلاقات الداخلية فيه، إذ أنه يمكننا أن نرى هذا الاختلاف أيضًا من خلال تجسيد الثالوث في فن الأيقونات وفي الفن الغربي. فالفن الأرثوذكسي يجسّد الثالوث الأقدس بصورة ملائكة ثلاثة متشابهين مجتمعين حول طاولة كما يُظهر لنا حدث استقبال إبراهيم للضيوف الثلاثة. أما الفنّ الغربي فيجسّد الثالوث الأقدس بشكل مختلف إذ نرى الآب يحمل الصليب بين ذراعيه المفتوحتين، وبين الآب والابن المصلوب تحلّق حمامة تمثل الروح القدس. إنه الثالوث الأقدس كما ظهر لنا في تاريخ الخلاص والذي يبلغ ذروته في صليب المسيح.

تابع الأب رانييرو كانتالاميسا يقول تحتاج الكنيسة لقبول الرؤية الأرثوذكسية للثالوث الأقدس في حياتها أي في الصلاة والتأمل والليتورجية، وأن تحافظ على الرؤية اللاتينية في رسالتها في حمل البشارة. وبالتالي عليها أن تقبل بفرح وامتنان الإرث الروحي الغني المتأتي من التقليد اليوناني البيزنطي، والذي بفضل العديد من اللاهوتيين الأرثوذكس أصبح بمتناول الجماعة الغربيّة. يكتب القديس باسيليوس: "إن مسيرة معرفة الله تنبثق من الروح الوحيد، عبر الابن الوحيد وصولاً إلى الآب الواحد؛ وبالعكس فالصلاح والقداسة والكرامة الملوكية تأتينا من الآب بواسطة الابن وصولاً إلى الروح القدس"، بمعنى آخر: في خروج المخلوقات من الله كل شيء ينطلق من الآب ويمرّ عبر الابن ليصل إلينا بالروح القدس، وفي عودة المخلوقات إلى الله كل شيء يبدأ مع الروح القدس ويمرّ عبر الابن يسوع المسيح ليعود إلى الآب. فالمنظار هو ثالوثي على الدوام! وهذا هو الأسلوب التربوي عينه الذي يحققه يسوع. فهو يقول لتلاميذه بأنه لا يمكنه أن يظهر لهم كل الأشياء التي يعرفها عن ذاته وعن الآب لأنهم "لا يطيقون الآن حملها" (يو 16، 12).

أضاف الأب كانتالاميسا متسائلاً: ماذا يمكننا أن نقول عن العالم غير المؤمن الذي يحيط بنا ويحتاج للبشارة مجدّدًا؟ ألا يعيش الحالات عينها التي كان العالم يعيشها قبل مجيء المسيح؟ ألا يجب أن نستعمل معه الأسلوب عينه الذي استعمله الله ليظهر نفسه للعالم؟ لذلك ينبغي علينا إذًا أن نساعد معاصرينا ليكتشفوا أولاً بأن الله موجود وبأنه خلقنا لأنه أحبّنا وبأنه أب صالح وقد أظهر لنا ذاته من خلال يسوع الناصري. فهل يمكننا أن نبدأ بشارتنا بالحديث عن سرّ الثالوث الأقدس؟ ينبغي على الكنيسة أن تجد الأسلوب لتعلن سرّ الله الواحد والثالوث لإنسان اليوم تمامًا كما فعل آباء الكنيسة في المجامع القديمة. وهذا ما فعله القديس أغوسطينوس عندما ارتكز على الحب ليشرح سرّ الثالوث الأقدس. الحب بذاته هو شركة وعلاقة، فالحب يقوم فقط بين شخصين أو أكثر، لأن الحب هو حركة من كائن تجاه آخر تترافق مع الرغبة بالاتحاد به. وهذه الوحدة تبقى ناقصة ومرحلية بين المخلوقات بينما تتحقق بشكل كامل في الثالوث جاعلة إلهًا واحدًا من الأقانيم الثلاثة. وهذه هي اللغة التي يمكن لإنسان اليوم أن يفهمها.

وختم واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا عظته الثانية في زمن الصوم بالقول: يقدّم لنا القديس أغوسطينوس الأسلوب الأفضل لنختتم الرؤية التي يقدمها لنا هذين الدربين للاقتراب من سرّ الثالوث الأقدس. إذا أردنا أن نعبر عرض البحر، فالمهم ليس أن نقف على الضفة ونشحذ النظر لنرى ما يوجد على الضفة الأخرى وإنما أن نصعد إلى السفينة التي تحملنا إلى تلك الضفّة. وهكذا في الكنيسة أيضًا فالمهم ليس تقديم نظريات حول الثالوث الأقدس وإنما الثبات في إيمان الكنيسة، السفينة التي ستحملنا إلى الثالوث. لن نتمكّن أبدًا من معانقة المحيط ولكن يمكننا أن نغوص فيه، وهكذا أيضًا وبالرغم من كل الجهود التي نقوم بها فلن نتمكن أبدًا من فهم سرّ الثالوث الأقدس بعقلنا ولكن بإمكاننا أن نقوم بشيء أفضل من الفهم إذ يمكننا أن نغوص فيه!          

                          








All the contents on this site are copyrighted ©.