2014-12-05 14:22:00

التأمل الأول لزمن المجيء مع واعظ القصر الرسولي


ألقى واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمله الأول لزمن المجيء في كابلة أم المخلص في القصر الرسولي بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، وهو التأمل الأول من سلسلة تأملات سيلقيها الأب كانتالاميسا خلال زمن المجيء حول موضوع "السلام في الأرض للناس أهل رضاه".

استهل واعظ القصر الرسولي تأمله بإعلان حول السلام من رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل روما: "فلَمَّا بُرِّرْنا بِالإِيمان حَصَلْنا على السَّلامِ مع اللهِ بِرَبِّنا يسوعَ المَسيح، وبِه أيضًا بَلَغنا بِالإِيمانِ إِلى هذِه النِّعمَةِ الَّتي فيها نَحنُ قائِمون، وَنَفتَخِرُ بِالَّرجاءِ لِمَجدِ الله" (روم 5، 1- 2)، وقال عندما نتحدث عن السلام يتوجه فكرنا فقط إلى السلام الأفقي بين الشعوب والأعراق والديانات، لكن كلمة الله تعلمنا أن السلام الأول والجوهري هو السلام العامودي بين السماء والأرض، بين الله والبشريّة.

تابع الأب كانتالاميسا يقول إن الإعلان الذي سمعناه يشير إلى أمر قد حدث وغيّر مصير البشريّة، فما هو إذًا هذا التغيير القاطع في العلاقات بين الإنسان والله؟ أشار الأب رانييرو كانتالاميسا أنه إزاء عصيان الإنسان لم يترك الله البشرية لمصيرها بل قرّر تدبيرًا آخر ليصالحها معه، فبدأت مرحلة تحضير طويلة من خلال العهود التي أقامها مع الشعب والتي يخبرنا عنها الكتاب المقدّس. هذه العهود، قال واعظ القصر الرسولي، هي على الدوام عهود سلام موجهة للجنس البشريّ بأسره. وهذا السلام الشامل يشكل عودة إلى السلام الأول في جنة عدن مع صور واستعارات يفسّرها التقليد اليهودي بمعناها الحرفي والتقليد المسيحي بمعناها الروحي: "فيَضرِبونَ سُيوفَهم سِكَكاً ورِماحَهم مَناجِل فلا تَرفَعَ أُمَّةٌ على أُمَّةٍ سَيفاً ولا يَتَعَلَّمونَ الحَربَ بَعدَ ذلك" (أشعيا 2، 4). "فيَسكُنُ الذِّئبُ مع الحَمَل وَيربِضُ النَّمِرُ مع الجَدْيِ ويَعلِفُ العِجلُ والشِّبلُ معاً وصَبِيٌّ صَغيرٌ يَسوقُهما" (أشعيا 11، 6- 7).

أكّد الأب رانييرو كانتالاميسا أن العهد الجديد يرى تحقيق جميع هذه النبوءات بمجيء المسيح، فولادته بانت للرعيان بالإعلان: "السلام في الأرض للناس أهل رضاه" ويسوع نفسه يؤكد أنه جاء إلى الأرض ليحمل سلام الله: "السلام أستودعكم، سلامي أعطيكم"، تمامًا كإعلان الملائكة في الميلاد، فهو ليس مجرّد تحية أو أمنية، وإنما هو حقيقة تُمنح! وكنيسة الرسل لا تكل أبدًا من إعلان تمام وعود الله بالسلام بواسطة المسيح، وكما يؤكد ميخا في نبوءته بأن المسيح سيولد في بيت لحم اليهودية ويقول بأنه "سيَكونُ هذا سَلاماً" (ميخا 5، 4)، هكذا أيضًا تؤكد الرسالة إلى أهل أفسس مشيرة إلى المسيح "إنه سلامنا" (أفسس 2، 14).

بعدها طرح الأب كنتالاميسا تساؤلاً وقال: هل حقق المسيح السلام بين الأرض والسماء بمجيئه فقط؟ هل ولادة الرب هي حقًا "مولد السلام" أم أن موته هو الذي منحنا السلام؟ يكتب القديس بولس: "فلَمَّا بُرِّرْنا بِالإِيمان حَصَلْنا على السَّلامِ مع اللهِ بِرَبِّنا يسوعَ المَسيح" (روما 5، 1). فالسلام إذًا يأتينا من التبرر بالإيمان، ونحن قد تبرّرنا بذبيحة المسيح على الصليب (راجع روما 3، 21- 26). فالسلام إذًا هو جوهر هذا التبرّر، وبالتالي لا يمكننا أن نفهم التغيير الجذري الذي حصل في العلاقات مع الله ما لم نفهم ما حصل في موت المسيح، لأن موت يسوع على الصليب هو اللحظة التي أتم فيها المخلّص عمل الخلاص، فهدم الخطيئة وانتصر على الشيطان. وبكونه إنسان، من جهة، أصبح ما حققه هو لنا أيضًا: "فأنتم بفضله في المسيح يسوع الذي صار لنا بفضل الله حكمة وبرًّا وقداسة وفداء" (1 كور 1، 30)، وبما أنه الله، من جهة أخرى، يأخذ عمله هذا قيمة لامتناهية ويمكنه بالتالي "أن يخلّص جميع الذين يتقربون به إلى الله" (عبرانيين 7، 25).

تابع واعظ القصر الرسولي يقول هذا الأمر يساعدنا لكي نفهم بشكل أفضل كيف تمّت المصالحة بين الله والبشر على الصليب. فعادة كان الإنسان، من خلال الذبيحة، يطلب من الآلهة المغفرة والمصالحة أما بتضحية المسيح انقلبت المعادلة وأصبح الله هو الذي يقدم ذاته ذبيحة لكي يعدل الإنسان عن معاداته له، وبالتالي يبدأ الخلاص بطلب الله لهذه المصالحة كما يؤكد بولس الرسول: "لأن الله صالح العالم بالمسيح" ( راجع 2 كور 5، 19)، وقد "تم الصلح بيننا وبين الله بموت ابنه ونحن أعداؤه" (روما 5، 10).

ثم تابع الأب رانييرو تأمله مشدّدًا على أن السلام الذي حققه لنا المسيح بموته على الصليب يصبح عاملاً وفعالاً فينا بواسطة الروح القدس، لذلك وفي العليّة بعد أن قال يسوع لتلاميذه "السلام لكم" نفخ فيهم وقال لهم: "خذوا الروح القدس" (يوحنا 20، 22). في الواقع إن السلام يأتينا من صليب المسيح لأن يسوع على الصليب قد هدم جدار الخطيئة والعداوة الذي كان يحجب عن الإنسان سلام الله، لذلك عندما يقول يسوع: "خذوا الروح القدس"، فهو يعطي تلاميذه شيئًا من "سلام الله الذي يفوق كلّ إدراك" (فيليبي 4، 7)، وبهذا الإطار يصبح السلام مرادفًا للنعمة كما نرى في رسائل القديس بولس: "عليكم النعمة والسلام من لدن الله أبينا ومن لدن ربنا يسوع" (روما 1، 7؛ 1 تسالونيقي 1، 1).

قال الأب كانتالاميسا إن دعوة القديس بولس الملحّة: "نسألكم باسم المسيح أن تُصالحوا الله" (2 كورنتس 5، 20) هي موجهة للمسيحيين المعمدين الذين كانوا يعيشون داخل الجماعة، وبهذا الإطار نجدها دعوة آنية وجوهريّة وهي موجهة لكل فرد منا أيضًا وبالتالي ينبغي علينا أن نفهم ما تتضمّنه. وأشار إلى أن إحدى الأسباب الرئيسيّة لابتعاد الإنسان عن الديانة والإيمان هي الصورة المشوّهة التي كونها الإنسان عن الله، وبالتالي هذا هو أيضًا السبب لديانة مسيحية فقدت إشعاعها دفعها وفرحها وأصبحت تُعاش كمجرّد واجب لا كنعمة. فما هي الصورة التي كونّها البشر عن لله؟ أشار واعظ القصر الرسولي إلى أنه غالبًا ما يُنظر إلى الله كالكائن الأعظم، الضابط الكل، رب الزمن والتاريخ، أي ككيان يفرض ذاته من الخارج ولا يغيب عن باله أي تفصيل من الحياة البشريّة، وبهذا المنظار يصبح كل تجاوز للشريعة نقصًا ينبغي التعويض عنه ولذلك اتخذت في هذا الإطار علاقة الإنسان بالله طابعًا تجاريًّا وتحوّلت الديانة إلى ديانة منفعيّة، فصحيح أن الله قال لموسى: "لا يُحضر أمامي فارغًا" (خروج 23، 15؛ 34، 20) ولكن هذا كان إله الشريعة ولا النعمة، لأنه في ملكوت النعمة ينبغي على الإنسان أن يقف بحضرة الله فارغ اليدين حاملاً فقط معه يسوع المسيح ابن الله الوحيد.

وختم واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا تأمله الأول لزمن المجيء بالقول عن الروح القدس يفتحنا ويغيّر لنا موقفنا، فهو يعلمنا أن ننظر إلى الله بعين جديدة: كإله الشريعة بالتأكيد، ولكن وبشكل خاص كإله المحبة والنعمة، الله "الرَحيم والرَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء" (خروج 34، 6). بكلمة واحدة إن الروح القدس ينقل إلينا شعور يسوع نحو الله الآب، فيزهر فينا شعور البنوة الذي يجعلنا نهتف "أبا! أيها الآب!".              








All the contents on this site are copyrighted ©.