2014-10-25 13:32:00

الإنجيل وقفة تأمل عند كلمة الحياة


في ذلك الزَّمان: بلَغَ الفِرِّيسيِّينَ أَنَّ يسوعَ أَفحَمَ الصَّدُّوقِيِّين فَاجتَمَعوا مَعًا. فسأَلَه واحِدٌ مِنهم لِيُحرِجَه: "يا مُعلِّم، ما هي الوَصِيَّةُ الكُبرى في الشَّريعة؟" فقالَ له: "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ. تِلكَ هي الوَصِيَّةُ الكُبرى والأُولى. والثَّانِيَةُ مِثلُها: أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ. بِهاتَينِ الوَصِيَّتَينِ تَرتَبِطُ الشَّريعَةُ كُلُّها والأَنِبياء" (متى 22، 34- 40).

للتأمل

تضع الكنيسة في هذا الأحد الثلاثين من زمن السنة بين يدينا وصيتين كبيرتين: حب الله وحبّ القريب، ولكنهما في الواقع وصيّة واحدة إذ أن محبة الله ليست فقط نموذجًا لمحبة القريب وإنما هي أيضًا الدافع، وبالتالي أنا أحبُّ قريبي، كائنًا من كان، لأنني أحب يسوع المسيح! ومحبة المسيح هذه هي العضد لمحبتنا البشريّة التي غالبًا ما تعترضها مخاوفنا ومصالحنا...

يكتب القديس يوحنا في رسالته الأولى: "أَمَّا نَحنُ فإِنَّنا نُحِبّ لأَنَّه أَحَبَّنا قَبلَ أَن نُحِبَّه. إِذا قالَ أَحَد: "إِنِّي أُحِبُّ الله" وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا، لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه. إِلَيكُمُ الوَصِيَّةَ الَّتي أَخَذْناها عنه: مَن أَحَبَّ اللهَ فلْيُحِبَّ أَخاه أَيضًا". ويقول لنا يسوع أيضًا: "لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ... الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه... وأَيَّما مَرَّةٍ لم تَصنَعوا ذلك لِواحِدٍ مِن هؤُلاءِ الصِّغار فَلي لم تَصنَعوه" (راجع متى 25، 31- 46).

يكتب القديس أفرام السرياني: "إنّ محبة الربِّ تنقذنا من الموت، ومحبّة الإنسان تبعدُ عنّا الخطيئة لأنّ ما من أحدٍ يُخطئُ بحقّ من يُحبّه. ولكن أيّ قلبٍ عساه يستطيعُ أن يقدّمَ كمال الحبّ إلى أقربائه؟ وأيّ نفسٍ عساها تستطيعُ أن تنمّي المحبّة المغروسة في أحشائها تجاه العالم أجمع وفقَ هذه الوصيّة: "أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ"؟  تعجزُ وسائلنا وقدرتنا بمفردها عن أن تكون أدواتٍ لتحقيق مشيئة الله الفوريّة والنفيسة: ما من وسيلةٍ كافية سوى ثمرة المحبّة التي يغرسها الربّ بنفسه. يستطيعُ الربّ من خلال طبيعته تحقيق كلّ ما يرغبُ فيه؛ وهو يريدُ أن يمنحَ الحياة للبشر. لقد مرّ الملائكة والملوك والأنبياء ... إلاّ أنّ البشرَ لم يُخلَّصوا إلى أن نزلَ من السماء من يُمسكنا بيدنا ويقيمُنا من لجّة الموت". وهنا يكمن المعنى الجوهري لسرّ التجسد، فالكلمة الأزلي قد صار بشرًا وعاش كإنسان مثلنا، عرف ضعفنا وفقرنا وتعبنا، عرف الخيانة والألم والموت ليخلصنا، وبالتالي فمحبة الله هي أيضًا محبة الذين يعشون ويختبرون حياة يسوع وما قاساه. تكتب الطوباوية الأم تريزا دي كالكوتا: " قال الرّب يسوع: "مَن قَبِلَ واحِداً مِن أَمْثالِ هؤُلاءِ الأَطْفالِ إِكراماً لإسمِي فقَد قَبِلَني أَنا ومَن قَبِلَني فلم يَقبَلْني أَنا، بلِ الَّذي أَرسَلَني (مر 9، 37) ومَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع (مت 10، 42). ومن أجل أن يتأكّد من أنّنا قد فهمنا ما يقصده جيّدًا أكّد قائلاً: "إنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني". لم يقصد الرّب بكلامه الجوع إلى الطّعام فقط؛ إنّه الجوع إلى المحبّة. ولم يقصد بكلامه العري الجسدي؛ فالعُري هو أيضًا فقدان الكرامة الإنسانيّة وفضيلة النّقاوة الرّائعة، كما هو فقدان احترام بعضنا لبعض. أن يكون الإنسان غريبًا أو مُشرّدًا لا يعني بالتّحديد أنّه ليس لديه منزلٌ يأويه، بل أيضًا من كان مرفوضًا أم منبوذًا أم غير محبوب هو أيضًا غريبٌ ومشرّد"، وهذا ما يدعونا إليه يسوع اليوم!

هذه هي حياتنا المسيحيّة إنها مسيرة نحو القداسة من خلال تحقيق صورة الله فينا، وكلّ مسيحيّ مدعوّ لعيش القداسة في كلّ مرحلة من حياته، فكلّ مسيحيّ هو مشروع قدّيس طالما أنّه يسعى لتحقيق مجد الرّبّ فيه حتى يصل إلى القداسة، فعلى الرّغم من نعمة الرّب إلاّ أنّ القداسة فيه تبقى استحقاقاً علينا أن نسعى إليه حتّى نكون جديرين بربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح.

ولمّا كنّا مدعوّين للقداسة اقتضى أن نفهم كيفيّة السّلوك فيها كما وجب علينا أن نجدّد باستمرار تواصلنا مع الرّبّ حتّى نفهم مقاصده أو نحاول فهمها فنكون في هذا العالم انعكاساً لنور السّيّد الحيّ فينا، بل يكون السّيّد نفسه هو العامل فينا ومن خلالنا.

فالقداسة هي أوج الإنسانيّة وذروتها إذ إنّها تستقي من نبع المحبّة الإلهيّة وتعكسه على الآخرين. فالمسيحي متى ولد من جديد، ليس بعد الآن إنساناً عاديًّا بل أصبح مسيحيّاً أيّ أنّه أصبح شخص المحبّة المتنقّل في هذا العالم. ولعلّ قول الرّبّ: "أحبّوا بعضكم كما أحببتكم" يساوي قوله في: "كونوا قدّيسين". آباؤنا القدّيسون أحبّوا كثيراً فارتقوا سلّم القداسة، وبمحبتهم الوافرة واجهوا كلّ عقبات الحياة وتخطّوا كلّ الصّعوبات في سبيل أن يكونوا للمسيح ومع المسيح فقط. لقد تركوا كلّ شيء واغتنوا بكلمة الرّبّ فأغنوا كثيرين، وظمئوا لكلمة الرّبّ فاستغنوا عن كلّ شيء ونهلوا من نبعه، نبع الكلمة الحيّة. كما يكتب القديس بطرس في رسالته الأولى: "أنتم الّذين به تؤمنون بالله الّذي أقامه من الأموات وأعطاه مجداً حتّى أنّ إيمانكم ورجاءكم هما في الله. طهّروا نفوسكم في طاعة الحقّ بالرّوح للمحبة الأخويّة العديمة الرّياء فأحبوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدة مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل ممّا لا يفنى، بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد. لأنّ كلّ جسد كعشب وكلّ مجد إنسان كزهر عشب. العشب يبس وزهره سقط، وأمّا كلمة الرّب فتثبت إلى الأبد وهذه هي الكلمة الّتي بُشِّرتم بها".

 

 








All the contents on this site are copyrighted ©.