2014-07-28 14:54:13

البطريرك الراعي: خدمةُ الحقيقة واجبةٌ على كلّ مسيحي!


ترأس غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي صباح أمس الأحد القداس الإلهي في المقرّ البطريركي الصيفي في الديمان وللمناسبة ألقى الكاردينال الراعي عظة استهلّها بالقول: "أجعلُ روحي عليه، ليبشّرَ الأمم بالحق"، إن نبوءةُ أشعيا هذه التي قيلت في القرن السابع، تنطبق على يسوع التاريخي، وعلى يسوع الإيمان، المعروف بالمسيح السّري أو الكنيسة بكلّ أبنائها وبناتها ومؤسساتها. إليهم أفرادًا وجماعات يوجّه الله هذا الاختيار والرسالة: "هوذا خادمي الذي اخترتُه: سأجعل روحي عليه، ليبشّر الأمم بالحقّ" (متى 12: 18). هذه هي هويتُنا المسيحية: قبول مسحة الروح القدس بالمعمودية والميرون؛ وهذه رسالتُنا: أن نبشّر الأممَ بالحقّ. نصلّي اليوم لكي يحافظ المسيحيون على هويتهم، ويقوموا بواجب رسالتهم في لبنان وبلدان الشرق الأوسط، كما وفي بلدان الانتشار، حتى "نصل بالحقِّ إلى النصر"(متى 12: 21).

تابع الكاردينال الراعي يقول: الحقيقة التي أعلنها يسوعُ المسيح، وتسلّمتها الكنيسةُ والمسيحيون لنقلها، مثلّثةٌ، وهي حقيقةُ الله والإنسان والتاريخ. حقيقة الله تألّقتْ في وجه يسوع، فبشخص يسوع انكشفت حقيقةُ الإنسان، المخلوقِ على صورة الله، وانكشفت لنا حقيقةُ التاريخ الذي يصنعه اللهُ سيدُه بموآزرة كلّ إنسان. فالتاريخ هو مسرحُ تحقيقِ تدبير الله الخلاصي، والتزامٌ في بناء مدينة الأرض بقيَمِ مدينة الله. فالمسيحُ "نورُ الأمم"، ينوِّر وجهَ الكنيسة التي أفاض عليها روحَه، يوم العنصرة، وأرسلها لتكون شاهدةً لنور الحقيقة في إنجيله، ولتناديَ به في الخليقة كلّها (راجع مر16: 15). إنّها الأمُّ والمعلّمة التي تقدّم الأجوبة على تساؤلات الناس، وهي أجوبةٌ نابعةٌ من هذه الحقيقة. إنّها تتقصّى علاماتِ الأزمنة وتفسِّرُها على نور الإنجيل، وتعطي لكلّ جيلٍ الجوابَ الملائمَ على أسئلة زمانه (تألُّق الحقيقة، 2). وكَونُ الكنيسة "خبيرةٌ بالإنسانية"، أوكلَ إليها الربُّ خدمةَ الإنسان، كلِّ إنسان، وخدمةَ العالم أجمع (المرجع نفسه، 3). وبالتالي فخدمةُ الحقيقة واجبةٌ على كلّ مسيحي ومسيحية. فالمسيح - النور "ينير كلَّ إنسانٍ آتٍ إلى العالم" (يو1: 9)، لِيصيّرَه "نوراً في الربّ وابناً للنور"(افسس5: 8)، ويدعوَه إلى القداسة بالطاعة للحقّ (1بط1: 22).

أضاف صاحب الغبطة يقول: هذه هي أهميةُ الوجود المسيحي في أي مكان، ولا سيّما في لبنان وبلدان الشَّرق الأوسط، حيث تتّسع ظلمةُ المادية والأنانية والاستهلاكية، وظلمةُ البغض والحرب والعنف والإرهاب. فيأتي مُلحًّا الحضورُ المسيحيّ، لكي يتحرَّرَ من هذه الظلمة بنور الإنجيل. كم نحن بحاجة إلى هذا الوعي، وإلى إدراك معنى وجودنا كمسيحيين في هذه البقعة من العالم. فمنذ ألفَي سنة والمسيحية تطبع ثقافات هذا المشرق بثقافة الإنجيل، ومنذ ألفٍ وأربعماية سنة تطبع الثقافة الإسلامية، وتتفاعل معها بحركية متبادلة ولّدت فلسفة العيش معًا، وأعطت وجه لبنان الرسالة بخلق تاريخ من الاعتدال بعيداً عن التشدّد وتيّار الأصوليات.

تابع البطريرك الراعي يقول: ولكن يؤسفنا أنّ بعض الدول تعمل على تغذية الحركات والمنظَّمات الأصولية، لأهدافٍ إرهابية وسياسية واقتصادية. وهذه تشوّه الدِّين نفسَه، وتُفرِغه من قيمه الروحية والأخلاقية والإنسانية، وتعتدي على المسيحيّين كما فعلت وتفعل منظمة "داعش"، الدولة الإسلامية في العراق والشام، مع مسيحيي الموصل، وكما تفعل مثيلاتُها في أماكن أخرى. غير أنّنا نعلن تضامننا مع إخواننا المسيحيّين وندعوهم للثبات في أرضهم، والمحافظة على إيمانهم. إنّ وجودهم في هذا الشَّرق العربي حاجةٌ ماسّة، لأنّهم يُنعشون مجتمعاته ودولَه بالقيم الإنسانية والثقافية، وينشرون ثقافةَ المحبة والأخوّة والتعدّدية، ويعزّزون الحريةَ وحقوقَ الإنسان، وينشئون المؤسّسات التربوية والاجتماعية والاستشفائية، ويُربّون الأجيالَ على الانفتاح واحترامِ الآخر المختلف، ويشهدون لمحبة الله، ويكلّمون الشعوبَ لغةَ الحقيقة والمحبة والحوار، لا لغةَ السيف والحديد والنار. وجود المسيحيين في هذا  الشرق دعوة من الله لكي يُعلنوا له نور الحقيقة التي تُحرر.

يعلّم قداسةُ البابا فرنسيس في إرشاده الرسولي "فرح الإنجيل" أنّ المسيحيين هم "شعبٌ سائرٌ نحو الله مبشّرٌ بالإنجيل"(فقرة 111)، "شعبٌ للجميع" منفتحٌ على كلّ الشعوب والثقافات، يدخل معهم بحوار الحقيقة والمحبة، من أجل الخلاص بالمسيح، وهو قمّةُ الحقيقة، وخلاصُه موجَّه إلى الجميع. لم يطلب المسيحُ من رسله التوجّهَ إلى نخبة من الناس، بل قال: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم"(متى 28: 19). وفي ضوء نبوءةِ أشعيا، يختار الله مَنْ يريد، لكي يجعلَ روحَه عليه ليبشرَّ بالحقِّ ويقودَه حتى النصر. إننا نفتقد إلى مثل هؤلاء الذين يختارهم الله لهذه الغاية. يريد الله أن يختارَ الجميعَ لإعلان الحقّ، لكن قليلون هم الذين يقبلون هذا الاختيار الإلهي، ويلتزمون إعلانَ الحقيقة والعملَ بموجبها. ولذلك ينتشر الفساد والشرّ والبغض والكذب بشكل واسع، من أجل مكاسب رخيصة، على حساب الخير العام. هذا هو مصدر مشاكلنا في لبنان. الدستور، والميثاق الوطني، والصيغة الميثاقية، حقيقةٌ أساسيةٌ واحدة تقوم عليها الدولةُ اللبنانية ورسالةُ لبنان ودورُه التاريخي في بيئته المشرقيّة. لكنها تُنتهك بشكل سافر، ولا من حياءٍ ولا وخزِ ضمير.

وختم الكاردينال الراعي عظته بالقول: إننا نصلّي إلى الله، ملتمسين شفاعةَ أمِّنا مريم العذراء، سيدة قنوبين وسيدة لبنان، مُبتهلين من أجل انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية في لبنان، ومن أجل الاستقرار الأمني والاقتصادي فيه. ونصلّي بإلحاح من أجل مسيحيّي العراق ولا سيّما مسيحيِّي الموصل المضطهدين بشكل سافر والذين طردتهم منظّمةُ "داعش" الإرهابية من بيوتهم وأراضيهم واستولت عليها، وهم ضحيةُ جريمةٍ ضدّ الإنسانية. نصلِّي لكي تَمَسَّ هذه الجريمةُ ضمائرَ الحكام في الأسرة الدولية، فيُعيدوا المسيحيِّين إلى أراضيهم وبيوتهم ويردّوا لهم جميع حقوقهم المدنيّة بحكم مواطنتهم الأصيلة. ونصلِّي من أجل السلام العاجل والدائم في سوريا، وفي فلسطين وإنهاء الاعتداء الإسرائيلي على غزّه وسكّانها الأبرياء.








All the contents on this site are copyrighted ©.