2013-03-09 13:14:23

الإنجيل وقفة تأمل عند كلمة الحياة


في ذلك الزَّمان: كانَ العَشّارون والخاطِئونَ يَدنونَ مِن يسوع جَميعًا لِيَستَمِعوا إِلَيه. فكانَ الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبَةُ يَقولون مُتَذَمِّرين:"هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ  مَعَهم!" فضرَبَ لَهم هذا المَثَلَ وقال:"كانَ لِرَجُلٍ ابنان. فقالَ أَصغَرُهما لأبيه: يا أَبَتِ أَعطِني النَّصيبَ الَّذي يَعودُ علَيَّ مِنَ المال. فقَسَمَ مالَه بَينَهما. وبَعدَ بِضعَةِ أَيَّامٍ جَمَعَ الاِبنُ الأَصغَرُ كُلَّ شَيءٍ لَه، وسافَرَ إِلى بَلَدٍ بَعيد، فَبدَّدَ مالَه هُناكَ في عيشَةِ إِسراف. فَلَمَّا أَنفَقَ كُلَّ شَيء، أَصابَت ذلكَ البَلَدَ مَجاعَةٌ شَديدة، فأَخَذَ يَشْكو العَوَز. ثُمَّ ذَهَبَ فالتَحَقَ بِرَجُلٍ مِن أَهلِ ذلكَ البَلَد، فأرسَلَه إِلى حُقولِه يَرْعى الخَنازير. وكانَ يَشتَهي أَن يَملأَ بَطنَه مِنَ الخُرنوبِ الَّذي كانتِ الخَنازيرُ تَأكُلُه، فلا يُعطيهِ أَحَد. فرَجَعَ إِلى نَفسِه وقال: كم أَجيرٍ لأبي يَفضُلُ عنه الخُبْزُ وأَنا أَهلِكُ هُنا جُوعًا! أَقومُ وأَمضي إِلى أَبي فأَقولُ لَه: يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ. ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لأن أُدْعى لَكَ ابنًا، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ. فقامَ ومَضى إِلى أَبيه. وكانَ لم يَزَلْ بَعيدًا إِذ رآه أَبوه، فَأَشفَقَ عَلَيه وأَسرَعَ إليه فأَلْقى بِنَفسِه على عُنُقِه وقَبَّلَه طَويلاً. فقالَ لَه الابْن: يا أَبَتِ، إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ، ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلِكَ لأَن أُدْعى لَكَ ابنًا. فقالَ الأَبُ لِعَبيدِه: أَسرِعوا فأتوا بِأَفخَرِ حُلَّةٍ وأَلبِسوه، واجعَلوا في إِصبَعِه خاتَمًا وفي رِجليه حِذاءً، وأتوا بالعِجْلِ المُسَمَّن واذبَحوه فنأكُلَ ونَتَنَعَّم، لأنَّ ابنِي هذا كانَ مَيتًا فعاش، وكانَ ضالاً فوُجِد. فأَخذوا يتَنَّعمون. وكانَ ابنُه الأَكبَرُ في الحَقْل، فلمَّا رَجَعَ واقترَبَ مِنَ الدَّار، سَمِعَ غِناءً ورَقْصًا. فدَعا أَحَدَ الخَدَمِ واستَخبَرَ ما عَسَى أَن يَكونَ ذلك. فقالَ له: قَدِمَ أَخوكَ فذَبَحَ أَبوكَ العِجْلَ المُسَمَّن لأَنَّه لَقِيَه سالِمًا. فغَضِبَ وأَبى أَن يَدخُل. فَخَرَجَ إِلَيه أَبوهُ يَسأَلُه أَن يَدخُل، فأَجابَ أَباه: ها إِنِّي أَخدُمُكَ مُنذُ سِنينَ طِوال، وما عَصَيتُ لَكَ أَمرًا قَطّ، فما أَعطَيتَني جَدْيًا  واحِدًا لأَتَنعَّمَ به مع أَصدِقائي. ولمَّا رَجِعَ ابنُكَ هذا الَّذي أَكَلَ مالَكَ مع البَغايا ذَبَحتَ له العِجْلَ المُسَمَّن! فقالَ له: يا بُنَيَّ، أَنتَ مَعي دائمًا أبدًا، وجَميعُ ما هو لي فهُو لَكَ. ولكِن قد وَجَبَ أَن نَتَنعَّمَ ونَفرَح، لأنَّ أَخاكَ هذا كانَ مَيتًا فعاش، وكانَ ضالاً فوُجد".

 

للـتأمل

تضعنا الكنيسة في هذا الأحد من الصوم أمام مثل "الابنَين الضالَّين" لتحثنا على الوعي والنهوض من سقطاتنا وخطايانا وعلى التوبة لأن الاب السماوي هو أي رحوم ينتظر عودتنا إلى حضنه الوالدي. يرسم مثل "الابنَين الضالَّين" روحانيّة ناشئة في الجماعة المسيحيّة الأولى، أرادت أن تحذّر من خطرين يتربّصان بكل فرد من أفرادها، وبكل مؤمن عبر الدهور، لا يقل احدهما عن الآخر:

الخطر الأول يجسّده الابن الأصغر: إنه الإنسان الذي يفتّش عن حريّته باستقلاله وبعده عن بيت الآب.

الخطر الثاني يجسّده الابن الأكبر الذي كان يعيش في البيت الوالدي ولكن قلبه بعيد كلّ البعد عن قلب الآب:"هذا الشعب يكرّمني بشفتيه، أما قلبه فبعيد عنّي".

يصوّر لنا هذا المثل العلاقة التي تربط الإنسان بالله. إنها لعلاقة مبنيّة على الحب والحريّة، ومن طبيعة الحب أنه عطاء مجّاني للذّات، ولا أحد يستطيع أن يُجبر الآخر على محبته. بالحب، يكشف الإنسان عن ذاته لحبيبه، يعطي ذاته سعيًا إلى الشراكة مع الآخر، معرضًا ذاته أحيانًا للطعن لا بل للدوس إذ يمكن لحبيبه أن يرفضه ويرذله.

نرى في هذا المثل قمّة حب الله للإنسان، ومدى نكران جميل الإنسان تجاه من أعطاه ذاته. فبدل أن يبادله هذا الحب، وعطاء الذات هذا، فتش عن ذاته بالحريّة الطائشة. لقد ارتكب الابن الأصغر في هذا المثل خطأ الإنسان الأوّل عينه، ورفض أن يخضع لشريعة الله، أراد أن يكون مستقلاً، لا تربطه أي علاقة بالآب. فخطأه لا يكمن في بعده عن دفء البيت الوالدي فقط، لا بل أيضًا عن الجماعة التي تحميه. عندما يعيش الإنسان في الغربة، يصبح عرضة للتجارب ويفتّش عن الملذات. فتش إنما بعيدًا عن الله، عن بيته وعن مجتمعه. أراد أن يستقلّ فكان أن شابه الخنازير:" وكانَ يَشتَهي أَن يَملأَ بَطنَه مِنَ الخُرنوبِ الَّذي كانتِ الخَنازيرُ تَأكُلُه، فلا يُعطيهِ أَحَد."

أمام هذا الواقع اختبر الابن الأصغر استقلاليّته عن الله، نسيانه للآب السماوي، اتكاله على ذاته وإعجابه بها فشابه الخنازير. "فرَجَعَ إِلى نَفسِه وقال: كم أَجيرٍ لأبي يَفضُلُ عنه الخُبْزُ وأَنا أَهلِكُ هُنا جُوعًا! فقرّر العودة:"أَقومُ وأَمضي إِلى أَبي" قرّر الاعتراف بخطئه:"فأَقولُ لَه: يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ. ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لأن أُدْعى لَكَ ابنًا، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ." أقدم على ما صمم عليه وأقرّ بذنبه أمام أبيه. إنها مراحل سرّ التوبة التي يعيشها كلّ مؤمن فتأتي النتيجة وهي أن الآب يعيده إلى كرامته الأولى: فأتاه بِأَفخَرِ حُلَّةٍ وأَلبِسه، وجعَل في إِصبَعِه خاتَمًا وفي رِجليه حِذاءً، وذبح العِجْل المُسَمَّن احتفالا بعودته.

لكن لا يغيبنّ أبدا عن فكرنا أن الابن الأكبر قد خطئ أيضًا، وخطيئته لا تقل خطورة عن خطيئة الابن الأصغر، صحيح أنه لم يخالف وصيّة أبيه وخدمه طوال السنين، ولكنه كما يخبرنا الإنجيلي: "فغَضِبَ وأَبى أَن يَدخُل" وهنا تكمن خطيئته: فغضبه وعدم قدرته على المغفرة وفقدانه لروح المشاطرة والابتهاج بعودة أخيه، قد قسّوا قلبه ولم يعد باستطاعته أن يحب.

يمكن للمؤمن أن يعيش في الكنيسة ، أن يحفظ الوصايا ويعمل بها، ولكن إن لم يكن قلبه كقلب الله وأفكاره كأفكار الله، يصبح حفاظه على الوصايا مجرّد تطبيق فريسيّ خال من كلّ روح، فينتقد أخاه ويتنكّر لنعمة الله التي تعمل في حياته وتعطيه القوة المحرّرة والمخلِّصة: "أي شيء لك ولم تنله، وإذا كنت قد نلته فلماذا تستكبر وكأنك لم تنله".








All the contents on this site are copyrighted ©.