2012-11-10 11:09:45

الإنجيل وقفة تأمل عند كلمة الحياة


في ذلك الزمان: قالَ يسوع في تَعليمِه: "إِيَّاكُم والكَتَبَة، فإِنَّهم يُحِبُّونَ المَشْيَ بِالجُبَب، وتلَقِّيَ التَّحِيَّاتِ في السَّاحات وصُدورَ المجَالِسِ في المَجامِع، والمَقاعِدَ الأُولى في المَآدِب. يأكُلونَ بُيوتَ الأَرامِل، وهم يُظهِرونَ أَنَّهُم يُطيلونَ الصَّلاة.  هؤلاءِ سيَنالُهُمُ العِقابُ الأَشَدّ". وجلَسَ يسوعُ قُبالَةَ الخِزانَةِ يَنظُرُ كيفَ يُلْقي الجَمعُ في الخِزانَةِ نُقودًا مِن نُحاس. فأَلْقى كثيرٌ مِنَ الأغنِياءِ شَيئًا كثيرًا. وجاءَت أَرمَلَةٌ فَقيرةٌ فأَلقَت عُشَرين، أَي فَلْسًا. فدَعا تَلاميذَه وقالَ لَهم: "الحَقَّ أَقولُ لَكُم إِنَّ هذِهِ الأَرملَةَ الفَقيرةَ أَلْقَت أَكثَرَ مِن جَميعِ الَّذينَ أَلقَوا في الخِزانَة، لأَنَّهم كُلَّهم أَلْقَوا مِنَ الفاضِلِ عن حاجاتِهم، وأَمَّا هي فإِنَّها مِن حاجَتِها أَلْقَت جَميعَ ما تَملِك، كُلَّ رِزقِها". (مرقس 12، 38- 44)

 

للتـأمل

هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر مما ألقاه الآخرون. يذكر الإنجيل الأرملة التي هي ضحيّة الكتبة. فيسوع يتّهم في خطبة عنيفة الكتبة بالرياء الديني والحيلة تجاه الأرامل: تأكلون بيوت الأرامل وأنتم تتظاهرون أنكم تُطيلون الصلاة. تكلّم يسوع فعمّم كلامه على الكتبة، مِع أن بينهم أناساً أتقياء. فقد هنّأ يسوع أحد الكتبة فقال له: "لست بعيداً من الملكوت" (12: 34). ولكن يبقى أن علينا اليوم أن نسمع اتهام يسوع وتوبيخه. فرجال الدين هم بشر وعليهم أن يحفظوا نفوسهم من الكبرياء، من المجد الباطل، من البخل. وحكم يسوع على صلاتهم المصطنعة يُبرز رياءهم وخبثهم. ومحبّة المال هي الخطر الذي يقودهم إلى التهام مال الأرامل. ولكن هذه الأقوال لا تنحصر برجال الدين، بل تصل إلى كل صاحب سلطة: يتربّص به الكبرياء والخبث والرغبة في فَرْض إرادته بالقوة.

وينتقل الإنجيل من "بيوت الأرامل" (12: 40) إلى الأرملة. هنا نجد الرياء الذي يندّد به يسوع. إنه يلاحظ تجاه صندوق التبرّعات موضعاً يضع فيه المؤمنون تقادمهم. رأى أرملة مسكينة تضع درهمين قيمتهما لا شيء. أما بالنسبة إليها، فما أعطته هو كنز كبير لأنها أعطت ما كانت تحتاج إليه من أجل معيشتها.

ليس الكتبة وحدهم من يحبّ السلام في الأسواق وأماكن الصدارة. ففي الإنسان ما يدفعه إلى الظهور وإلى من يتزلّف إليه. والبساطة في المعنى الإنجيلي للكلمة، هي ثمرة ارتداد طويل. هي عطية من الله الذي هو البساطة بالذات في كيانه وفي عمله. البساطة تعارض كل التواء واعوجاج.
الإنسان البسيط هو عكس الإنسان بوجهين الذي قلبه مليء بالاعوجاج. البساطة تعارض الازدواجية، تعارض القلب المقسوم بين الحقيقة والكذب، بين القول والعمل، بين الشخص كما يكون في المجتمع وكما يكون في حياته الحميمة، بين الخيرات الأرضية والخيور السماوية، بين النور والظلمة.
يسوع يعرف أن يلاحظ بدقّةٍ الإنسان ويدخل إلى أخفى خفاياه. حين نظر إلى الطريقة التي بها يعطي مواطنوه المال لخدمة الهيكل، اكتشف أفعالا تعبرّ عن الصدف أو السطحية، اكتشف أفعالا مصطنعة، شكليّة، فارغة، خبيثة، تظاهريّة. كما اكتشف أفعالا متواضعة وخفيّة تدل على قلوب غنيّة. ونبّه التلاميذ إلى فعلة امرأة مسكينة. لقد عبرّت عن حبها وعطاء ذاتها، فرضي الله عنها أكثر من رضاه على أغنياه يعملون ما في وسعهم لكي يرى الناس "سخاءهم"، مع أنه لا يؤثر على مستوى حياتهم.

كم نتلاعب بالكلمات ولا نلزم نفوسنا نفساً وجسداً في خدمة المسيح وعلى خطاه! فالبساطة هي تماسك بين ما نؤمن به وما نعيشه. كم يجب علينا أن نعمل دائماً لنكتشف في داخلنا الخبث والكذب والمساومة. نحن لا نقدر أن نكذب مع الله الذي يعرف ما في أعماق القلوب. لنطلب من الرب نعمة البساطة. لنتركه يعيد إلينا البساطة ويزيل منّا كل التواء واعوجاج ولفّ ودوران، ولنترك روح حبّه يوحّدنا. فعلى كل مؤمن أن يكون نداء صامتاً للعودة إلى الجوهر الذي هو بسيط دائماً. لنحبّ بالروح والحق. نحن أمام مثل ملموس: إمرأة مسكينة تعلّمنا. لقد أعطت آخر شيء تملكه. أفرغت جيبها لله، لا ليراها الناس. أفرغت ذاتها من ذاتها فامتلأت من نعمة الله التي لا يحصل عليها إلاّ المساكين. الأرملة تجاه الكتبة. الملآن صار فارغاً والفارغ امتلأ. عادت الأرملة بقلب ملآن. إنها كالأعمى الذي رأى نور الله، بينما ظلّ الفريسيون على عماهم. ونحن، ما الذي يملأ قلبنا وحياتنا؟








All the contents on this site are copyrighted ©.