2012-10-27 14:16:23

الإنجيل وقفة تأمل عند كلمة الحياة


في ذلِكَ الزَّمان: وبَينَما يَسوعُ خارِجٌ مِن أَريحا، ومعَهُ تلاميذُهُ وجَمْعٌ كثير، كانَ  ابنُ طيماوُس (وهو بَرطيماوُس) الأَعْمى جالِسًا على جانِبِ الطَّريق يَستَعطي. فلمَّا سَمِعَ بِأَنَّهُ يسوعُ النَّاصِريّ، أَخذَ يَصيح: "رُحْماكَ، يا ابنَ داود، يا يَسوع!" فَانَتهَرَه أُناسٌ كثيرونَ لِيَسكُت، فَصاحَ أَشَدَّ الصِّياح:"رُحْماكَ، يا ابنَ داود!". فوَقفَ يسوعُ وقال:"اُدْعوه". فدَعَوا الأَعمى قالوا له:"تَشَدَّدْ وقُم فإِنَّه يَدْعوك". فَأَلقى عنهُ رِداءَه ووَثَبَ وجاءَ إِلى يسوع. فقالَ له يسوع:"ماذا تُريدُ أَن أَصنَعَ لكَ؟". قال له الأَعمى:"رابُوني، أَن أُبصِر". فقالَ له يسوع:"اِذهَبْ! إِيمانُك خلَّصَكَ". فأَبصَرَ مِن وَقتِه وتَبِعَه في الطَّريق. (مرقس 10، 46 – 52)

 

للـتـأمل

في هذا الأحد تضع الكنيسة بين أيدينا نص شفاء الأعمى، ويضعنا الإنجيلي مرقس أمام إيمان الأعمى وعقلانيّة الجموع: كم هو مثير للاهتمام أن "الجمع الكبير" الذي كان يتبع يسوع ويهتف له قد "أخذ ينتهر الأعمى ليسكت". ما سبب اتّباع الجموع ليسوع إن لم يؤمنوا بقدرته على تبديل واقع الحياة؟ لقد آمن الأعمى بقدرة يسوع على نقله من عن جانب الطريق وإعادته إلى وسط الحياة، من ظلمة العمى الداخلي إلى نور لقاء الرّب في حياته.

إن هذه الجماهير تشبه إلى حدّ كبير جماهير المؤمنين بيسوع، يتبعون يسوع، اعتادوا عليه، صار في حياتهم أمراً روتينيّاً، إنّما في عمق أعماقهم لا يؤمنون بأن الرّب قادر على تبديل واقعهم وواقع الآخرين، ينتهرون من يؤمن بقدرة يسوع ويسكتونه بطرق شتّى: بالقمع، بالسخرية، بالتهميش أو بالشفقة أحياناً. لقد اعتادت جموعنا على يسوع في حياتنا اليوميّة إلى حدّ جعلنا ننسى جمال لقائه، ونفقد الإيمان بقدرته.

لقد خطّ هذا الأعمى مسيرة إيمان على كلّ واحد منّا أن يسيرها. فالإيمان هي حالة انطلاق من الهامش إلى عمق الوجود، ومن حالة الظلمة إلى حالة النور. لقد بدأ الأعمى بالسماع لا بالمعاينة، يسمع عن يسوع، يخبره الآخرون عن قدرته، وهو باقٍ على هامش الطريق. في ذلك اليوم مرّ يسوع من هناك، عابراً المدينة، فاغتنم الأعمى فرصته الوحيدة.

الإيمان هو صرخة تنطلق نحو شخص لا نراه، إنّما نعلم أنّه موجود وأنّه قادر على تغيير واقع حياتنا. الأعمى لم ير يسوع بنور العين الجسديّة، إنّما آمن به، وبدافع من رجائه العميق وثقته بقدرة الرّب صرخ له: إريد أن أبصر. هي حقيقة إيماننا، لا ننطلق من المعاينة لنفهم، بل نؤمن بإله سمعنا عنه كما سمع ذاك الأعمى عن قدرته، نعلم أنّه يدعونا فنثب وراءه، نسمع صوته، نعلنه مخلّصاً، فنبصر.

العوائق التي كادت تمنع الأعمى من الوصول إلى يسوع هي نفسُها تمنعنا من التعرّف إلى يسوع يمرّ في حياتنا ويدعونا للسير وراءه على طريق أورشليم نحو الجلجلة والقيامة. لقد أخذ الجمع ينتهره ليسكت، وينتهرنا عالم اليوم لنسكت نحن أيضاً، يخنق منطق العصر فينا الرجاء، يغلقنا على منطق العنف والقوّة والحرب. والعائق الآخر كان يمكن أن يكون الثوب الّذي كان يملكه، مُلكه الأوحد. لو تعلّق به لكان خسر يسوع، لو خاف من خسارة من يملك لكان مرّ يسوع وعبر. هي عوائق إيماننا نحن أيضاً: كم يخيفنا منطق الترك والتغيير.

لقد أجاب يسوع على صراخ الأعمى فناداه. إن حيوية الإيمان تنطلق من نعمة الرّب، من مروره في حياتنا، هو دوماً صاحب المبادرة، مبادرةٌ تبقى عقيمة إن لم يقبلها الإنسان ويستجب لها. مرور يسوع يجعلنا "ننهض"، نقوم من رتابة واقعنا، ننهض من تحت أثقال حياتنا، صوته يجعلنا نقلب معادلات حياتنا، نتحوّل من أعمى ألقى بذاته على هامش طريق الحياة إلى كائن واثب وثبة الإيمان، كائن شجاع يترك كلّ ما يملك ليتبع يسوع، ليتتلمذ له.

نتيجة الإيمان التتلمذ، فلا يمكننا أن نسمح أن يكون لقاؤنا بالرّب عقيماً، إيماننا هو فعل التزام بالطريق التي يسير عليها السيّد، وهي ليست سهلة. إيماننا يقودنا إلى طريق الجلجلة، إلى سخرية الآخرين كما سخر الجنود من يسوع وضربوه بقصبة على رأسه كعبد حقير. قد نصل في إيماننا إلى ظلمة القبر، كلّ شيء حالك مظلم حولنا، لا نجد أجوبة على أسئلة كثيرة نطرحها، نظن أنفسنا وحدنا دون إله يقودنا ويحمينا، هي ظلمة الإيمان تشابه ظلام القبر حيث يرقد السيّد. إنما لا بدّ أن يسطع نور القيامة، لا بدّ أن نخرج من ظلمة قبرنا، إذ تستطع علينا أنوار قيامة المسيح.








All the contents on this site are copyrighted ©.