2010-10-16 14:39:42

مداخلة المدعوّ الخاصّ، حضرة الرابّي الجزيل الاحترام دافيد روزن، مستشار حاخام إسرائيل الأكبر، مدير قسم شؤون ما بين الأديان للّجنة اليهوديّة الأمريكيّة ومعهد هايلبرنّ لتفاهم دوليّ بين الأديان (إسرائيل)


اليوم، تشهد العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكيّة والشعب اليهوديّ تحوّلاً سعيدًا يتمّ في حاضرنا، وربما لا نظير له في التاريخ.

في الكلمة التي ألقاها قداسة البابا بندكتوس السادس عشر داخل الكنيس هنا في روما في كانون الثاني/يناير الماضي، أشار إلى تعليم المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني على أنّه "علامة تحوّل واضحة تشكّل مرجعًا دائمًا في تصرّفاتنا وعلاقاتنا مع الشعب اليهوديّ، ما يسِم مرحلة جديدة وبالغة الأهمّيّة".

من الطبيعيّ كان على هذا التحوّل اللافت في الطريقة التي يُنظَر فيها إلى الشعب اليهوديّ ويُقدّم، ولا يزال عليه أن يجابه تأثير قرون، إن لم يكن ألفيّات، من "تعليم الازدراء" بحقّ اليهود واليهوديّة، ما لا يمّحي بين ليلة وضحاها ولا حتّى بعد خمس وأربعين سنة. مّما لا ريب فيه أنّ نتائج هذا التحوّل على العلاقات الكاثوليكيّة-اليهوديّة تختلف كثيرًا من سياق إلى آخر، لأنّها تتأثّر بعوامل سوسيولوجيّة، تربويّة وحتّى سياسيّة. يمكن القول إنّ الاستبطان الأكثر دراماتيكيّةً حصل في الولايات المتحدّة الأمريكيّة، حيث يعيش اليهود والمسيحيّون في مجتمع مفتوح جنبًا إلى جنب في أقليّات نابضة بالحياة، واثقة بنفسها وملتزمة مدنيًّا. نتيجةً لذلك، تطوّرت هذه العلاقة في الولايات المتّحدة بطريقة إستثنائيّة لتشمل التعاون والتبادلات بين الجماعات ومؤسساتها التربويّة؛ واليوم تفتخر الولايات المتحدة بنشوء عشرات المؤسسات الأكاديميّة للدراسات والعلاقات الكاثوليكيّة-اليهوديّة، فيما لا توجد ربما إلاّ ثلاثة منها في سائر العالم. بالفعل، داخل الجماعات اليهوديّة في الولايات المتحدة يتمّ النظر بشكل واسع إلى الكنيسة الكاثوليكيّة كصديق حقيقيّ يحمل قيمًا عميقة ومصالح مشتركة. إنّه لمن دواعي شرفي أن أترأّس التمثيل الدوليّ ما بين المذاهب للّجنة اليهوديّة الأمريكيّة التي كانت ولا زالت المنظّمة اليهوديّة الأكثر أهمّيّة في هذا التحوّل الإستثنائيّ والتاريخيّ.

غير أنّ بلدانًا عديدة تغيب فيها هذه العوامل الإجتماعيّة والديموغرافيّة. وفي معظم البلدان حيث الكثلكة هي القوّة الإجتماعيّة المسيطرة، تكون الجماعات اليهوديّة صغيرة، إن وجدت، وغالبًا ما لا تحظى العلاقة بين الكنيسة واليهوديّة إلاّ بالقليل من الانتباه. أعترف بأنّي فوجئت لاكتشافي أنّ رجال دين كاثوليكيّين وأحيانًا السلطة الدينيّة في بعض الدول يجهلون كلّ شيء ليس فقط عن اليهوديّة المعاصرة، بل غالبًا عن البيان "في عصرنا" عينه أيضًا، والوثائق الفاتيكانيّة التي أُلحقت بها، وعليه، التعاليم المتّصلة "بالتعليم" حول اليهود واليهوديّة.

في الوقت الذي حقّقت التجربة اليهوديّة الكثير في الولايات المتحدة، كما ذكر، في سبيل التخفيف من الانطباعات السلبيّة النابعة عن الماضي المأساويّ، يبقى جهل واسع حول المسيحيّة في العالم اليهوديّ، بخاصّة حيث الاتصال مع مسيحيّين من أبناء الحداثة قليل أو غائب كليًّا.

في النظام السياسيّ الوحيد في العالم حيث يشكّل اليهود أكثريّة، أي دولة إسرائيل، تتفاقم هذه المشكلة  من جرّاء السياق السياسيّ والسوسيولوجيّ. في الشرق الأوسط، كما في معظم أنحاء العالم، تميل الجماعات إلى العيش في بيئاتها اللغويّة والثقافيّة والطائفيّة الخاصّة، وإسرائيل ليست استثناء. علاوةً على ذلك، يشكّل المسيحيّون العرب في إسرائيل أقليّة داخل أقليّة، أي حوالي 120000 عربيّ مسيحيّ من بين حوالي مليون ونصف المليون من السكّان العرب الذين هم في أغلبيّتهم مسلمون ويشكّلون ما يناهز العشرين في المئة من مجموع سكّان إسرائيل (ما يقارب سبعة ملايين ونصف مليون نسمة).

لا شكّ في أنّ الإسرائيليّين العرب المسيحيّين هم أقليّة دينيّة ناجحة على نحو ملحوظ في مجالات عديدة. مستوياتهم الاجتماعيّة-الاقتصاديّة والتربويّة تفوق المعدّل بكثير، فمدارسهم تحصل على العلامات الأعلى في الامتحانات السنويّة للدخول إلى الجامعات، والعديد منهم قاموا بدور بارز على الصعيد السياسيّ، كذلك تمكّنوا من اكتساب فائدة كبرى من النظام الديمقراطي الذي يشكّلون منه جزءًا لا يتجزّأ. لكنّ الحياة اليوميّة لأكثريّة العرب واليهود تجري في بيئاتهم الخاصّة. نتيجةً لذلك، لا يلتقي معظم الإسرائيليّين اليهود المسيحيّين المعاصرين. حتّى عندما يسافرون إلى الخارج، يميلون إلى الالتقاء بالأشخاص غير اليهود وليس كمسيحيّين معاصرين. وهكذا، حتّى عهد قريب، كان قسم كبير من المجتمع الإسرائيليّ غير مدرك للتغيّرات العميقة في العلاقات الكاثوليكيّة-اليهوديّة. لكن الوضع بدأ يشهد تغيّرًا ملموسًا خلال السنوات العشر الأخيرة لأسباب متنوعة، منها اثنان جديران بالملاحظة بشكل خاصّ.

السبب الأوّل هو تأثير زيارة البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني عام 2000، بعد ست سنوات على تأسيس علاقات ثنائيّة كاملة بين إسرائيل والكرسيّ الرسوليّ. وفيما كان لتأسيس تلك العلاقات بعض التأثير على التصوّرات في إسرائيل، إنّ قوّة الصور المرئيّة، التي أدرك البابا يوحنّا بولس الثاني أهمّيّتها جيّدًا، هي التي كشفت بوضوح لأغلبيّة المجتمع الإسرائيليّ التحوّل الذي حصل على صعيد مواقف المسيحيّين والتعاليم المسيحيّة تجاه الشعب اليهوديّ الذي كان البابا بنفسه قد حافظ معه على صداقة واحترام متبادلين وسعى إلى تعزيزهما. للإسرائليّين، إنّ رؤية البابا عند الجدار الغربيّ لبقايا الهيكل الثاني، واقفًا احترامًا للتقليد اليهوديّ وواضعًا هناك النصّ الذي كان ألّفه لاحتفال ليتورجيّ من أجل المغفرة نُظِّم قبل أسبوعين هنا في بازيليكا مار بطرس، وسائلاً فيه المغفرة الإلهيّة عن الخطايا المرتكبة بحقّ اليهود على مرّ العصور، كلّ ذلك كان نتائج مذهلة ولا تقاوم. ما زال الطريق طويلاً أمام الجماعة اليهوديّة في إسرائيل لتخطّي ماضيه السلبيّ، لكن لا ريب في تبدّل المواقف منذ الزيارة التاريخيّة. أضف إلى أنّ الزيارة أدّت إلى نشوء إمكانية كبيرة للحوار والتفاهم والتعاون على شاكلة لجنة ثنائيّة تضمّ الحاخاميّة الكبرى في إسرائيل ولجنة الكرسيّ الرسوليّ للعلاقات الدينيّة مع اليهود، التي تأسّست بمبادرة من البابا يوحنّا بولس الثاني والتي أثنى عليها بشكل واسع البابا بندكتس السادس عشر خلال حجّه إلى الأراضي المقدّسة السنة الماضية وفي الكلمة التي ألقاها في الكنيس الكبير هنا في روما أوّل السنة.

العامل الثاني المهمّ هو تدفّق مسيحيّين جدد ضاعفوا حجم المسيحيّة الديموغرافيّ في إسرائيل.

أشير أوّلاً إلى مجموع المسيحيّين الممارسين الذي يقدّر بنحو خمسين ألف مسيحيّ كانوا جزءًا لا يتجزّأ من الهجرة من الاتحاد السوفياتيّ السابق إلى إسرائيل في العقدين المنصرمين. وبما أنّهم متّصلون في الوقت عينه بالمجتمع اليهوديّ من خلال أواصر عائليّة وثقافيّة، يمكن القول إنّهم يمثّلون دون شك الأقليّة المسيحيّة الأولى التي ترى نفسها في الوقت ذاته جزءًا لا يتجزّأ من لأكثريّة اليهوديّة، منذ الجماعة المسيحيّة الأولى.

هؤلاء المسيحيّون، كجماعات مسيحيّة عربيّة، هم مواطنون إسرائيليّون يتمتّعون بكامل حقّهم في التصويت والمساواة أمام القانون. لكن تبقى مجموعة سكّانيّة مسيحيّة ثالثة في إسرائيل يثير وضعها القانونيّ إشكالية أحيانًا.

يُعنى بذلك الآلاف من المسيحيّين الممارسين بين 250.000 عامل تقريبًا آتين، من الفيليبين، أوروبا الشرقيّة، أمريكا اللاتينيّة وإفريقيا جنوب الصحراء. معظمهم يقيمون في البلد بشكل قانونيّ ومؤقت، غير أنّ حوالي النصف منهم دخلوا أو يقيمون على نحو غير شرعيّ ووضعهم القانونيّ غير مستقرّ.

وبرغم ذلك، يحافظ الوجود المسيحيّ المهمّ بين هؤلاء السكّان على حياة دينيّة نابضة ويشكّل بعدًا ثالثًا هامًّا للواقع المسيحيّ في إسرائيل اليوم. لقد ساهمت هذه العوامل، من بين عوامل أخرى، إلى المزيد من التعريف بالمسيحيّة المعاصرة في إسرائيل. فضلاً عن ذلك، وفيما توجد حوالى مئتي منظّمة إسرائيليّة تهدف إلى تعزيز التفاهم والتعاون بين العرب والإسرائيليّين بشكل عامّ، تعمل أيضًا عشرات الهيئات على تعزيز اللقاء والحوار بين الأديان والدراسات ذات الصلة، وإنّ الحضور المسيحيّ فيها كبير جدًّا وبالغ الأهمّيّة. يعود ذلك، بشكل جوهريّ إلى وجود المؤسسات المسيحيّة وإكليروسها، والاختصاصيّين وممثّلي الكنائس الدوليّين إلى ما هنالك، والذين يساهمون بشكل متفاوت نسبة إلى أعدادهم في هذه الجهود، بخاصّة في مجال المعرفة. أضف إلى ذلك، أنّ الواقع الذي بموجبه يمثّل المسيحيّون، كالمسلمين، في إسرائيل أقليّةً بحاجة إلى أن تُقبل وتُفهم من قبل الأكثريّة اليهوديّة، يخدم أيضًا كمحفّز للتلاقي بين الأديان (بعكس ما يحصل غالبًا في بلدان أخرى).

من الجليّ أنّ المسيحيّين في إسرائيل يختلف وضعهم كثيرًا عن جماعات اخوتهم في الأرض المقدّسة، وهم جزء لا يتجزّأ من المجتمع الفلسطينيّ الذي يكافح من أجل استقلاله، وهم عالقون لا محالة في النـزاع الإسرائيليّ-الفلسطينيّ يوميًّا. بالفعل، إنّ وجود بعض تلك الجماعات على نقطة تقاطع بين نطاقي السلطتين الإسرائيليّة والفلسطينيّة يعني أنّها غالبًا الأكثر تحمّلاً لوطأة الإجراءات الأمنيّة التي تشعر الدولة اليهوديّة نفسها مضطرّةً لاتخاذها في سبيل حماية مواطنيها من العنف المستمرّ القادم من داخل الأراضي الفلسطينيّة. من العادل والمحقّ أن يعبّر هؤلاء الفلسطينيّون المسيحيّون عن أساهم وآمالهم حيال هذا الوضع. لكن تجدر الإشارة بأسف إلى أن هذه التعابير ليست متناغمة دائمًا مع رسالة وروح "التعليم" حول العلاقات مع اليهود واليهوديّة. يبدو أنّ ذلك ينعكس في إطار جغرافيّ أوسع، حيث غالبًا ما سبّب أثر النزاع العربيّ-الإسرائيليّ شعورًا بالانزعاج لدى العديد من المسيحيّين بمواجهة إعادة اكتشاف الكنيسة لجذورها اليهوديّة وأحيانًا تفضيلاً للأفكار المسبقة التاريخيّة.

ومع ذلك ، إنّ أسى الفلسطينيين، بشكل عام، والمسيحيين الفلسطينيّين بشكل خاصّ، لا بد من أن يشكّل قلقًا عميقًا لليهود في إسرائيل أو في الشتات.

بداية، ولأنّ اليهودية قد جلبت المعرفة للعالم، بأنّ كلّ شخص بشريّ إنّما خُلق على صورة الله ومثاله. وإنّه، بالتالي كما يعلم حكماء التلمود، كلّ ازدراء لشخصٍ آخر، يمثل ازدراء للخالق تعالى نفسه. علينا إذا مسؤولية خاصّة تجاه جيراننا الذين يتألمّون. وتتضاعف هذه المسؤوليّة، بشكل أخصّ عندما تنجم آلامهم عن صراع نحن طرف فيه، وبمفارقة ، بالتحديد عندما يترتّب علينا واجب دينيّ وأخلاقيّ بأن نحمي أنفسنا وندافع عنها.

وبالنسبة لي كاسرائيليّ من القدس، انّ الحالة المحزنة في الأرض المقدّسة، وآلام العديد من الأشخاص من الأطراف المتعدّدة تبعا للهوّة السياسيّة، هي مصدر حزن كبير. حتّى إن كنت أعي كليًّا كيف تمّ استعمال ذلك وأسيء استعماله لابراز التوترات المتنوّعة خارج الإطار الجغرافيّ للصراع نفسه.

مع ذلك، اشكر الله على التصاعد الملموس، لعدد الجمعيّات التي تعمل في مجتمعنا، على تخفيف الآلام قدر المستطاع، في هذا الاطار الصعب.

وأنا فخور بتأسيس إحدى هذه التنظيمات: حاخامات من أجل حقوق الإنسان. ورئيسها وأعضاؤها بما هم مواطنون اسرائيليون مخلّصون، ماضون في جهودهم للحفاظ على الكرامة الإنسانية للجميع، ودعمها، وبخاصّة للضعفاء.

أعرف تماما المذابح التي حصلت من زمن قريب في شوراع مدننا، وأعرف التهديدات المستمرة دائمًا بهدف هدم إسرائيل والقضاء عليها. على الرغم من ذلك، علينا أن نسعى بكلّ قوانا، لتخفيف المعاناة المرتبطة بهذه الحالة، وبخاصّة تلك التي تمسّ المسيحيّين في القدس وضواحيها.

بالفعل، في الأشهر الماضية تحسّنت الأحوال بوضوح، على سبيل المثال، في ما يتعلّق بحرّيّة التنقّل لرجال الدين، وهنالك إشارات لفهم متزايد من قبل السلطات، لحاجات الجماعات المسيحيّة المحليّة، بالرغم من التحديّات المرتبطة بالأمن. ونحن مستمرّون في الضغط بهذا الاتجاه، لأنّنا مؤمنون في النهاية بأنّها قضايا تهمّ الجميع.

في الواقع، المسؤوليّة اليهوديّة لضمان أنّ الجماعات المسيحيّة تزدهر بيننا، مع الاحترام لحقيقة أنّ الأرض المقدّسة هي أرض ولادة المسيحيّة، والأرض المقدّسة، هي توجّه يتقوّى تدريجيًّا، مع إعادة اكتشاف أخوّتنا.
ولكن بغض النظر عن علاقتنا الخاصّة، يقوم المسيحيّون، كأقلية وسط أكثريّة مسلمة ويهوديّة، بدور خاصّ في مجتمعاتنا بشكل عامّ. فأوضاع الأقليات هي دائمًا انعكاس حقيقيّ للحالات الإجتماعيّة والأخلاقية في المجتمع ككل.  وانّ العيش الكريم للجماعات المسيحيّة في الشرق الأوسط، ليس أكثر من مقياسٍ للحالة الأخلاقيّة في بلداننا. وأنّ درجة الحقوق والحرّيّات المدنيّة والدينيّة التي ينعم بها المسيحيّون، تشهد على سلامة أو مرض المجتمعات في الشرق الأوسط.

إلى ذلك، وكما أسلفت، يلعب المسيحيّون دورًا كبيرًا في تنمية التفهم والتعاون ما بين الأديان في البلد. وقد اسمح لنفسي بأن أقترح بأنّه بات "من وظيفة المسيحيّ الإسهام في تخطّي سوء الفهم والأحكام المسبقة التي تشوّش الأرض المقدّسة وتنتشر في المنطقة بشكل عام. ولئن كان من غير المنصف أن نتوقع من الجماعات المسيحيّة المحليّة الصغيرة أن تكون قادرة وحدها على حمل هذه المسؤوليّة، لكنّنا يجب أن نأمل بأنّ الجماعات المسيحيّة سوف تحظى، بهذا المعنى، بدعمٍ الكنيسة الجامعة وسلطاتها المركزيّة، وهي تستطيع أن تصبح بانية للسلام مفضّلةً في المدينة التي يعني إسمها السلام وتعني ذلك لجماعاتنا. وفعلا لدينا اليوم العلامات الملموسة والواضحة في دور للقيادة المحليّة الكاثوليكيّة مثل إنشاء مجلس المؤسّسات الدينيّة في الأرض المقدّسة منذ سنوات، وهو ويجمع الحاخام الأكبر في إسرائيل والمحاكم الشرعيّة ووزارة الشؤون الدينيّة في السلطة الفلسطينيّة، كما الرئاسة المسيحيّة الرسميّة في الأرض المقدّسة. وهذا المجلس، لا يسهّل التواصل بين مختلف القيادات الدينيّة فحسب، وإنّما يلتزم بالعمل على محاربة سوء الفهم والتعصّب والتحريض، ويتطلّع إلى أن يكون قوّة للسلام والمصالحة، فينعم الشعبان والديانات الثلاث بالعيش على الأرض نفسها بالكرامة والحرّيّة والطمأنينة.

تقتبس ورقة العمل الأساسيّة لهذا السينودس من أجل الشرق الأوسط، من البابا بندكتوس السادس عشر في مقابلته مع صحيفة الاوسرفاتوري رومانو، في طريقه إلى الأرض المقدّسة، وتقول: "من المهمّ أن يكون هنالك، من جهة، حوار ثنائي -مع اليهود والمسلمين-، ومن جهة أخرى، حوار ثلاثيّ" (96). وبالفعل، تمّ في السنة الماضيّة، ولأوّل مرّة عقد أوّل حوار ثلاثي في اشبيلية في إسبانيا، دعا إليه المجلس الحبريّ للعلاقات بين الأديان، والمجلس الحبريّ للعلاقات الدينيّة مع اليهود، مع اللجّنة اليهوديّة الدوليّة للإستشارات بين الأديان، ومؤسسة الحضارات الثلاث في اشبيلية. امتلأت فرحًا لذلك، لأنّ الاقتراح قد قدّم بينما كنت رئيسًا للّجنة اليهوديّة للاستشارات، وأنّني لآمل جدًا أن يكون ذلك فاتحة وبداية لتكثيف الحوار الثلاثيّ، لتخطّي الشكّ والأحكام المسبقة وسوء الفهم، فنتمكن من تسليط الضوء على قيمنا المشتركة داخل بيت إبراهيم، لصالح الإنسانيّة جمعاء.

برأي يبدو أنّ اللّجنة الثنائيّة المذكورة سابقًا مع الحاخاميّة الكبرى لإسرائيل ومجلس المؤسسات الدينيّة للأرض المقدّسة تقدّم معًا ظرفًا ملائمًا وتحدّيًّا في هذا الخصوص.

تقدّم الوثيقة الأساسيّة كذلك إضاءات حول طبيعة علاقات المسيحيّين مع كلّ من المسلمين واليهود. وتقتبس كذلك من البابا بندكتوس السادس عشر في كولونيا في آب 2005، عندما وصف العلاقات مع الإسلام بأنّها "ضرورة حيويّة، يتعلّق عليها مستقبلنا إلى حد كبير" (رقم 95). وهذا بديهي في الشرق الأوسط. سواء قرأ المرء مفهوم "دار الإسلام" من منظور جغرافيّ وثقافيّ، أو من منظور لاهوتيّ، فالسؤال الحاسم لمستقبل جماعاتنا يتعلّق باستعداد أخوتنا المسلمين، أو لا، لاعتبار الحضور المسيحيّ واليهوديّ جزءا شرعيًّا وكاملاً في المنطقة ككلّ. ولا شيء يعبّر عن الحاجة إلى هذه الدعوة أكثر من "ضرورة حيويّة... وعليها... يعتمد مستقبلنا".

في الواقع، يرتبط كلّ ذلك "بالموضوع الأهمّ" والمتعلّق بجذور الصراع العربيّ الاسرائيليّ. وأولئك الذين يدّعون بأنّ الاحتلال هو السبب الرئيسيّ للصراع هم مخطئون. فالصراع يمتد لعقود سابقة لحرب الأيّام الستة عام 1967، التي نجم عنها ضمّ الضفة الغربيّة وغزة تحت السيطرة الإسرائيليّة. أمّا الاحتلال فهو تحديدًا نتيجة للصراع. والسبب الحقيقيّ الذي هو في أساسه هو البحث في مدى سماح العالم العربيّ بسياسة ذات سيادة غير عربيّة للبقاء داخل حدوده.

مع ذلك، تقتبس الوثيقة الأساسيّة من الدستور المجمعيّ حول "كلمة الله" وتصف حوار الكنيسة مع "أخوانها الأكبر" ليس فقط "بالضروريّ" وإنّما " بـ"الجوهريّ" (رقم 87). وفي زياره للكنيس اليهوديّ في روما هذا العام، قال مقتبسًا من تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة (رقم 839): "إنّ الكنيسة، شعب الله في العهد الجديد، تكتشف، وهي تتقصّى سرّها الخاصّ، علاقتها بالشعب اليهوديّ، الذي "كلّمه الله أوّلاً"، واضاف: " إنّ الايمان اليهوديّ، بعكس الديانات الأخرى غير المسيحيّة، هو جواب على وحي الله".

هذه الكلمات هي صدى لما قاله البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني في زيارته التاريخيّة إلى ذات المركز اليهوديّ للعبادة في هذه المدينة عام 1986، عندما صرّح: " أنّ الديانة اليهوديّة ليست أمرًا خارجًا عنّا، إنّما هي بطريقة خاصّة داخل ديانتنا. ومع اليهوديّة تربطنا علاقة لا نملكها مع أية ديانة أخرى. وفي إرشاده الرسولي في 28 حزيران 2003، وصف الحوار والتعاون مع المؤمنين من الديانة اليهودية" بأنّهما "أساسيّان ومهمان ليعرف المسيحيّون أنفسهم"، وبحسب دعوة السينودس " لمعرفة الجذور المشتركة بين المسيحيّة والشعب اليهوديّ المدعوّين من الله لعهد لا يُنقض".

وكما ذكرت، إنّ الوقائع السياسيّة في المنطقة، لا تجعل من السهل دائمًا على مسيحيّي المنطقة، أن يعرفوا، لوحدهم، هذه الارشادات. مع ذلك، أصلّي، لكي تتحقّق المعجزة التي وصفها يوحنّا بولس الثاني بقوله" ازهار ربيع جديد في العلاقات المتبادلة"، فتصبح رويدًا رويدًا حقيقة ناصعة في الشرق الأوسط وفي العالم أجمع كذلك.

وأخيرًا، فلنكرّس أنفسنا لذلك، بمزيد من التقوى، بالصلاة وبالعمل من أجل السلام والكرامة للجميع. لنصلّ بكلمات البابا يوحنا بولس الثاني عند الجدار الغربيّ في القدّس، والتي استخدمها البابا بندكتوس السادس عشر في كلمته في مجمع روما:

"أرسل سلامك لهذه الأرض المقدّسة، للشرق الأوسط والعائلة البشريّة جمعاء؛ أيقظ قلوب الذين يدعون اسمك ليسيروا بتواضع على درب العدالة والرحمة".

واسمحوا لي، كشخص قادم إليكم من المدينة المقدّسة والحبيبة لنا جميعا، بأن أختم مع كلمات صاحب المزامير: "ليباركك الرب من صهيون فترى أورشليم تنعم بالخيرات جميع أيّام حياتك" (مزمور 128: 5).








All the contents on this site are copyrighted ©.