2010-01-01 13:00:06

عظة البابا في قداس رأس السنة: هناك رابط وثيق بين احترام الإنسان والحفاظ على البيئة


في أول يوم من السنة الجديدة لنا فرح الاحتفال بعيد العذراء مريم أم الله، وفي الوقت نفسه، بيوم السلام العالمي. وفي كلا الحالتين نحتفل بالمسيح، ابن الله، المولود من مريم العذراء، سلامنا الحقيقي! أكرر على جميع الحاضرين هنا، ممثلين لشعوب العالم، والكنسية الرومانية والجامعة، والكهنة والمؤمنين والذين على اتصال مباشر معنا عبر الإذاعة والتلفزيون، (أكرر) "ويرفع الله وجهه نحوكم ويمنحكم السلام" (سفر العدد 26،6). أريد اليوم التطرق إلى موضوع الوجه والوجوه في ضوء كلمة الله ـ وجه الله ووجه البشر ـ موضوع يعطينا قراءة لمعضلة السلام في العالم.

لقد استمعنا في القراءة الأولى ـ من سفر العدد ـ وكذلك أيضا من سفر المزامير، إلى بعض      التعابير التي تحكي عن وجه الله: "ويضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك" (سفر العدد 25،6)؛ "ليرحمنا الله وليباركنا وليضئ بوجهه علينا؛ لكي يُعرف في الأرض طريقك وفي جميع الأمم خلاصك" (مزمور 3-2، 67/66). الوجه هو تعبير عن الشخص أي للتعرف عليه ومنه تنطلق المشاعر والأفكار ونوايا القلب. إن الله، بطبيعته، غير منظور، مع ذلك فالكتاب المقدس يمنحه هذه الصورة. أنْ يرفع الرب وجهه تعبير عن محبته  أما أن يخفيه فيعني غضبا واستياء. يقول سفر الخروج "ويكلم الرب موسى وجها إلى وجه كما يكلم المرء صديقه" (خروج 33،11) ويعده الرب على القرب منه على النحو التالي "وجهي يسير أمامك فأريحك" (خروج 33، 14). يقول سفر المزامير إن المؤمنين هم الذين يبحثون عن وجه الله ويتوقون في العبادة إلى رؤيته.

يسهب الكتاب المقدس في الكلام عن وجه الله إلى أن يصل إلى التعبير الكامل عن يسوع المسيح "لما تم الزمان ـ يقول الرسول بولس ـ أرسل الله ابنه" (غلاطية 4، 4) ويضيف "مولودا لامرأة، مولودا في حكم الشريعة". لقد اتخذ وجه الله وجه إنسان من خلال ابن العذراء مريم التي نكرمها كأم الله. هي التي، إذ حافظت في قلبها على سر الأمومة الإلهية، كانت أول من رأى وجه الله الذي صار إنسانا في ثمرة أحشائها. للأم علاقة خاصة وفريدة من نوعها مع مولودها. أول وجه يراه الطفل هو وجه أمه، أمر حاسم لعلاقته مع الحياة ومع الآخرين ومع الله وكذلك أيضا ليصبح "ابن السلام". من بين أيقونات العذراء مريم في التقليد البيزنطي هناك أيقونة "الرأفة" حيث نرى الطفل يسوع ووجهه متكئ على وجه أمه. الطفل ينظر إلى الأم، والأم تنظر إلينا وكأنها تعكس لمن ينظر ويصلي إليها رأفة الله التي منحتها إياها السماء وتجسدت في الابن الإنسان المحمول بين ذراعيها. في هذه الأيقونة المريمية بإمكاننا أن نتأمل بعلامة المحبة التي دفعت الله إلى بذل ابنه الوحيد. كما نرى فيها وجه الكنيسة الذي يُشع علينا وعلى العالم بكامله نورَ المسيح، حيث تعلن الكنيسة على الملء البشرى السعيدة: "فلست بعد عبدا بل ابن" (غلاطية 4، 7).

أيها الأخوة الأساقفة والكهنة، أيها السادة السفراء، أيها الأصدقاء! إن التأمل بسر وجه الله والإنسان درب مميز يقود إلى السلام الذي يرى في وجه الآخر إنسانا بغض النظر عن لون بشرته وجنسيته ولغته ودينه. من، إنْ لم يكن الله، قادر على ضمان ـ إنْ صح التعبير ـ "عمق" وجه الإنسان؟ في الواقع، فقط إذا كان الله في قلبنا، سنكون قادرين على أن نرى في وجه الآخر أخا لنا في الإنسانية، لا وسيلة إنما غاية، لا خصما أو عدوا إنما أوجه لامتناهية لسر الكائن البشري. إن مفهومنا للعالم وخصوصا لأمثالنا يتعلق أساسا بحضور روح الله فينا. القلب الفارغ لا يدرك إلا المشاهد المسطحة والخالية من المضامين، فبقدر ما يسكن الله فينا بقدر ما نشعر حضوره حولنا: ولدى جميع الخلائق وخصوصا لدى البشر. ولكي نحترم بعضنا البعض ونُقرَّ بأننا أخوة فإننا نحتاج إلى وجه أب واحد لنا يحبنا على الرغم من حدودنا وأخطائنا.

لا بد أن نتربى منذ الصغر على احترام الآخر حتى ولو كان مختلفا عنا. لقد أضحى أمرا شائعا وجود أطفال من مختلف الجنسيات داخل صف مدرسي واحد ما يعني أننا مدعوون إلى تكوين عائلة من الأسر والشعوب. فبقدر ما يكون هؤلاء الأطفال صغارا بقدر ما يزداد فرحنا لبراءتهم على الرغم من الفروقات لأنهم يبكون ويضحكون بطريقة واحدة ولهم نفس الاحتياجات، ويلعبون معا. إن وجوه الأطفال انعكاس لرؤية الله للعالم. فلمَ نطفئ ابتسامتهم؟ لمَ نسمم قلوبهم؟ للأسف فإن أيقونة الرأفة لأم الله تجد مضادا لها في المشاهد المؤلمة لأطفال كثيرين مع أمهاتهم ضحية الحروب والعنف: لاجئون، نازحون، ومهاجرون قسريون. وجوه عليها علامات الجوع والأمراض، وجوه مزقها الألم واليأس. إن وجوه الصغار الأبرياء نداء لمسؤولياتنا: فأمام أوضاعهم يسقط كل تبرير كاذب للحروب والعنف. علينا أن نتحول إلى فعلة سلام تاركين الأسلحة وملتزمين معا في بناء عالم يليق بالإنسان.

إن رسالتي لمناسبة اليوم العالمي الـ43 للسلام وعنوانها: إذا شئت زرع السلام فاحم الخليقة" تدخل في نطاق تطلع وجه الله والإنسان. بإمكاننا في الواقع أن نؤكد على قدرة الإنسان في احترام الخلائق وفقا لمعنى الحياة الذي يغذيه وإلا فسوف يحتقر ذاته ومن حوله، ولن يحترم البيئة التي يعيش فيها. من يقدر على رؤية وجه الخالق غير المنظور في الكون يملك قدرا أكبر من المحبة تجاه الخلائق. إن سفر المزامير غني بالشهادات حول طريقة تفعل الإنسان مع الطبيعة: مع السماء، البحر، الجبال، الهضاب، الأنهر والحيوانات. "ما أعظم أعمالك يا رب ـ يقول صاحب المزامير ـ لقد صنعت جميعها بالحكمة فامتلأت الأرض من خيراتك" (مزمور 104، 24).

إن مفهوم الوجه يدعونا للتوقف عند ما سميته في هذه الرسالة "الإيكولوجيا البشرية"، إذ هناك رابط وثيق بين احترام الإنسان والحفاظ على البيئة، فالواجبات تجاه البيئة تتأتى من الواجبات تجاه الشخص بحد ذاته وبعلاقته مع الآخرين. فإذا انحطّ الإنسان تردّت معه البيئة التي يعيش فيها. وإذا مالت الثقافة نحو العدميّة، العملية إنْ لم تكن النظرية، فإن الطبيعة ستدفع الثمن. بالإمكان ملاحظة انعكاس متبادل بين وجه الإنسان ووجه البيئة. أجدّد ندائي من أجل الاستثمار في التربية مع التركيز بشكل خاص على المسؤولية البيئية المستندة إلى احترام الإنسان وحقوقه وواجباته الأساسية. بهذه الطريقة فقط يصبح الالتزام من أجل البيئة تربية حقيقية على السلام وبناء السلام.

أيها الأخوة والأخوات، في زمن الميلاد نتذكر المزمور الذي يحكي عن مثال رائع لمجيء الله الذي يولّد عيدا كونيَّا. يبدأ هذا النشيد بدعوة جامعية: "أنشدوا للرب نشيدا جديدا، أنشدوا للرب يا أهل الأرض جميعا. أنشدوا للرب وباركوا اسمه". ومن ثم تمتد هذه الدعوة على الخلائق كلها:"لتفرح السماوات وتبتهج الأرض ليهدر البحر وما فيه. لتبتهج الحقول وكل ما فيها حينئذ تهلل جميع أشجار الغاب". فليصبح عيد الإيمان عيد الإنسان والخليقة: ذاك العيد الذي يظهر في الميلاد من خلال زينة الأشجار والطرقات والمنازل. رعاة بيت لحم يفرحون برؤية الطفل يسوع ويسبحونه. الكنيسة تجدد هذا السر لكل الأجيال وتظهر لهم وجه الله كي يسيروا ببركته على درب السلام.








All the contents on this site are copyrighted ©.