2008-12-28 15:34:06

البطريرك الماروني: ما حدث على أرض فلسطين أمر مستنكر ويجب وضع حد لمأساة مر عليها ما فوق النصف قرن


ترأس البطريرك الماروني الكردينال مار نصرالله بطرس صفير صباح الأحد القداس الإلهي في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي لبنان، وألقى عظة بعنوان "لكن نجّنا من الشرير" قال فيها إن شرح الأبانا يعلمنا أن نطلب دائما من الله ألاّ يدخلنا في تجربة. وما من أحد يمكنه أن يتغلّب على التجربة إلا من أعانه الله على ذلك. لذلك قال لنا، تبارك اسمه: "صلّوا ولا تملّوا لئلا تدخلوا في تجربة". هذا وأشار البطريرك الماروني إلى إن ما حدث بالأمس على أرض فلسطين لهو من الشرّير، وقد سقط ما فوق المائتي ضحية من كل الأعمار، وهذا أمر مستنكر، ويدلّ على أن هذه المأساة يجب وضع حدّ لها لكيلا تتكرّر، وقد مرّ عليها ما فوق النصف قرن، وهي لا تزال على ما كانت عليه من البغضاء والعنف. ألهم الله المسؤولين ما فيه خير بلديهما". المزيد من التفاصيل عن مضمون عظة البطريرك الماروني في تقرير مراسلنا في بيروت. RealAudioMP3

"ان آخر طلب من الأبانا يستعيد طلب ما قبل الآخر باعطائه اياه صيغة ايجابية: لهذا ان المطلبين مترابطان أشد الترابط. اذا كان النفي يسود ما قبل آخر مطلب ( اي عدم اعطاء مساحة للشرّ فوق ما لا يطاق ) فانا نأتي الى الآب، في آخر مطلب، مع الأمل المركزي لأيماننا: "نجنّا، افتدنا، حرّرنا!" . اخيرا انه طلب الفداء. ولكن ممّ نريد أن نفُتدى ؟ ان الترجمة الجديدة للأبانا تقول" من الشّر" دونما تمييز بين الشرّ والشرير، غير أن الاثنين في النهاية لا غنى عنهما. أجل، نرى أمامنا التنين الذي يتكلّم عنه سفر الرؤيا ( فصل 12و13). لقد وصف يوحنا "الحيوان الذي يصعد من البحر" من أعماق الشرّ المظلمة، بصفات السلطة السياسية الرومانية. وهكذا أعطى التهديد الذي كان يواجهه مسيحيو زمانه وجها ملموسا: وضع اليد وضعا كاملا على الانسان الذي بدأته عبادة الأمبراطورية، فرفع وأصعد السلطة السياسية، والعسكرية، والاقتصادية الى أوج القدرة التامة المطلقة. وهذه هي صيغة الشرّ التي يُخشى أن تبتلعنا، والتي تذهب مع تفكّك النظام الأدبي بصيغة من الشكّ والعقلية البغيضة. هذا هو شكل الشرّ الذي يخشى أن يبتلعنا، فيذهب معا وتفكّك النظام الأدبي بصيغة من الشك والعقلية البغيضة. وأمام هذا التهديد ، يدعو مسيحي زمن الاضطهاد الرب كقدرة وحيدة باستطاعتها أن تنجّيه: خلّصنا من الشرّير.

ان الأمبراطورية الرومانية وعقائدها، ولو غرقت، لكن كل هذا لا يزال حاضرا. هناك اليوم من جهة قوى السوق، وتجارة المخدّرات، وتجارة السلاح، وتجارة الكائنات البشرية، وهي قوى تضغط على العالم وتلقي البشرية تحت ضغوط لا يمنكنها أن تقاومها. واليوم أيضا، هناك من جهة عقلية النجاح، والرفاه، التي تقول لنا: ليس الله سوى وهم، وهو يأخذ وقتنا، ويفقدنا شهوة الحياة. لا تأبه له ! ابحث فقط عن الاستمتاع بالحياة قدر ما تستطيع. وهذه التجارب تبدو كأنها لا تقاوم. ان الأبانا بمجملها - وهذا الطلب خاصة - تريد ان تقول لنا: انك فقط عندما تفقد الله، تكون قد فقدت نفسك. اذذاك تصبح منتجا طارئا لنظرية التطوّر. حينئذ يكون "التنين " قد تغلّب. وطالما ليس بامكانه أن ينتزع منك الله، على الرغم من جميع الآفات التي تتهدّدك، ستكون بالعمق سليما. انه لحق، اذن ان تقول لنا الترجمة الحديثة: نجّنا من الشرير. ان المصائب قد تكون مفيدة لتنقيتنا، ولكن الشرّ مدمّر. لذلك نسال من أعماقنا ألاّ يُنتزع منّا الايمان الذي يرينا الله الذي يجمعنا بالمسح. ولهذا نطلب الاّ تخسّرنا الخيور الخير الأسمى عينه. والآّ نفقد الخير الأسمى الذي هو الله، عندما نفقد خيور الأرض وألا نفقد ذواتنا . نجنّا من الشرّير!

هنا أيضا ، ان قبريانوس الأسقف الشهيد الذي كان عليه أن يتغلّب على وضع الرؤيا، وجد كلمات رائعة: " عندما قلنا: نجنا من الشرير، لم يبق شيء نطلبه.انا نطلب الحماية الألهية من روح الشرّ، وبعد أن نكون قد حصلنا عليها، نكون في مأمن من هجوم الشيطان والعالم. لأنه ، كيف نخشى العالم، عندما يغلّفنا الله بحمايته. هذا الموقف ساند الشهداء باعطائهم الفرح والثقة في عالم مليء بالقلق، "بانتشاله" اياهم في العمق وباعطائهم الحرية الحقيقية.

وهذه الثقة عينها التي أعرب عنها بولس الرسول اعرابا مدهشا بقوله:" اذا كان الله معنا، فمن علينا...من يستطيع أن يفصلنا عن محبة المسيح؟ أضيق؟ أم شدّة ؟ أم اضطهاد ؟ أم جوع ، أم عري،أم خطر أم سيف ؟ أجل في كل ذلك نحن نغلب بالذي أحبّنا. فإني لواثق أنه لا موت، ولا حياة، ولا ملائكة، ولا رئاسات، ولا حاضر، ولا مستقبل، ولا قوّات، ولا سماوات، ولا أعماق، ولا خليقة أخرى، ولا شيء يمكنه أن يفصلني عن محبة الله التي هي في يسوع المسيح ربّنا" .

في هذا المعنى، ان آخر مطلب يعيدنا الى المطالب الثلاثة الأولى. عندما نطلب ان ينجّينا من قوى الشرّ، نطلب ان نتّحد بارادته، وأن نقدّس اسمه. لا شكّ في أن رجال الصلاة قد كانت لهم، في كل زمان، رؤيا أوسع من هذا المطلب. فهم يطلبون ايضا الى الله، في محن العالم، أن يضع حدّا "للمصائب" التي تجتاح العالم وحياتنا.

هذه الطريقة البشرية لتفسير المطلب قد دخلت الطقوس. في كل الطقوس، ما عدا الطقس البيزنطي، ان المطلب الأخير من الأبانا تغلّفه صلاة خاصة كانت تقول، في الطقس الروماني القديم: " نجّنا من كل شرّ، ماض وحاضر ومستقبليّ،. بشفاعة ...حميع القديسين أعط زمننا السلام، لكي نعيش برحمتك دائما أحرارا من الخطيئة، ومؤمّنين في جميع محننا". إنّا نشعر بضرورات الأزمنة المضطربة، ونسمع الصرخة التي تتطلّب فداء تامّا. هذا التطابق الذي نقوّي فيه الطقوس هو آخر طلب من الأبانا ويظهر مظهر الكنيسة الانساني. اجل بامكاننا أن نطلب، وعلينا أن نطلب الى الرب لكي ينجّي العالم، وينجّينا نحن والناس، والشعوب الكثيرة المتألّمة من الخضّات التي تجعل حياة الناس شبه مستحيلة. بمقدورنا، ومن واجبنا ان نعتبر ان الامتداد الى هذا الطلب الأخير من ألابانا كفحص ضمير موجّه الينا، وكحضّ لنا على التعاون لكي ينكسر طغيان " الشرور". ولكن علينا ألاّ يغيب عن نظرنا أبدا سلّم الخيور الحقيقي، والرباط بين الشرور والشرّير بامتياز. يجب ألا يسقط طلبنا في السطحية. وفي وسط تفسير طلب الأبانا هذا، نجد أيضا هذا الأمر وهو :" ان ننجو من الشرّير"، وأن نميّز الشرّ كمحنة حقيقية، وألاّ نُمنع أبدا من تحويل نظرنا عن الله الحيّ.

التلاميذ
في جميع مراحل نشاط يسوع المسيح التي ذكرناها حتى الآن، ظهر جليّا الرباط الوثيق القائم بين يسوع "والنحن" من العائلة الجديدة التي جمعها بتبشيره وعمله. وواضح أيضا ان هذا " النحن" ، بحسب موقفه الأساسي، هو معتبر كشامل وكوني. وهو لا يرتكز على سلالة كل من الناس، بل على المشاركة مع يسوع الذي هو ذاته توراة الله الحيّة. هذا "النحن" الذي تشكّله العائلة الجديدة هو منظّم. دعا يسوع نواة من الخلّص، اختارهم بدقة، فبات عليهم أن يتابعوا رسالته وأن يعطوا هذه العائلة بنيتها وصيغتها. ولهذا أوجد يسوع جماعة الأثني عشر. في البدء، كان لقب الرسل خاصا بجماعة أوسع، غير أنه لاحقا اقتصر هذا العدد على الأثني عشر: لوقا يتحدّث دائما عن الأثني عشر رسولا. واللفظتان بالنسبة اليه يختلطان. ممّا لا جدوى منه أن ندخل هنا في تفصيل المسائل التي غالبا ما تكون موضوع نقاش، وهي مسائل يعرضها استعمال لفظة " رسول" وتطوّرها، فلنستمع بالأحرى ببساطة الى ما تقوله النصوص المهمّة التي تتكلّم عن الطريقة التي تكوّنت معها الجماعة الضيقّة، جماعة رسل يسوع.

ان النص التي تجب العودة اليه نجده في انجيل مرقس . الفقرة 13 تقول: "وصعد يسوع الى الجبل، ودعا الذين أرادهم، فأقبلوا اليه"، والأحداث التي سبقت جرت على شاطئ البحيرة، واذا بيسوع يصعد " الى الجبل"، وهو المكان الذي دخل فيه باتصال مع الله، في الأعالي، ما فوق الأعمال والأحداث اليومية. وفي رواية لوقا المقابلة، هذا المظهر تقوّى: في تلك الأيام، خرج يسوع الى الجبل ليصلّي، وأمضى الليل في صلاة الله، ولمّا كان النهار، دعا تلاميذه الاثني عشر وسمّاهم رسلا" .

ان تسمية الرسل هي حدث متصل بالصلاة . فهم مولودون، اذا جاز التعبير، من الصلاة، ومن العلاقة مع الآب. ان اختيار الأثني عشر، دون أن يعود الى المظهر الوظيفي فقط، يرتدي معنى لاهوتيا عميقا. ان دعوتهم ناجمة عن حوار الابن مع الآب، وهذه هي نقطة ارتباطها. ؤوانطلاقا من هذا، يجب أن نفهم عبارة يسوع : "اطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة الى حصاده" . ولا يمكن اختيار فعلة حصاد الله ببساطة كما ينتقي رب العمل عمّاله، يجب دائما أن يسألهم من الله الذي يعيّنهم لهذه الخدمة. وهذه الميزة اللاهوتية تظهر بوضوح في نص القديس مرقس الذي يقول ان يسوع دعا الذين أرادهم. ما من أحد بامكانه أن يعيّن نفسه تلميذا، وهذا الحدث هو نتيجة اختيار، وقرار نابع من ارادة الرب التي هي ثابتة في وحدة الارادة مع الآب.

ونقرأ بعدئذ لدى مرقس: وأقام منهم اثني عشر، ليكونوا معه، ويرسلهم كارزين .يجب أولا التفكير في العبارة " وأقام منهم اثني عشر"، وهي غير مألوفة لدينا. في الواقع ، ان الانجيلي يستعيد هنا المصطلح الذي به ندلّ على تنصيب الكهنة في العهد القديم ،فهو يصف اذن الرسالة كخدمة كهنوتية. وكلّ من المختارين يعيّن باسمه، وهذا ما يجعل رابطا بينهم وأنبياء اسرائيل الذين يدعوهم الله باسمهم بحيث انه، في الخدمة الرسولية، تختلط الخدمة الكهنوتية والخدمة النبوية. وقد أقام منهم اثني عشر: واثنا عشر كان رقم اسرائيل الرمزي الذي يشير الى أبناء يعقوب الاثني عشر. ومنه خرج أسباط اسرائيل الاثنا عشر الذين، بعد الأسر، اقتصروا تقريبا على سبط يهوذا. فالرقم اثنا عشر هو عودة الى أصل اسرائيل ، ولأنه أيضا يرمز الى الأمل: اسرائيل أعيد الى الى أصله، والأسباط الأثنا عشر اجتمعت مجدّدا. اثنا عشر: وعدد الأسباط هو أيضا عدد كوني يرمز الى طابع شعب الله الشامل الذي سيولد قريبا. والاثنا عشركأنهم يمثّلون آباء هذا الشعب الشامل القائم على الرسل. في سفر الرؤيا، في رؤية اورشليم الجديدة، ان رمزية الأثني عشرقد توسّعت في صورة رائعة تساعد شعب الله، السائر في الطريق، على تفهّم حاضره، انطلاقا من مستقبله، والذي ينيره مع بارقة أمل :الماضي والحاضر والمستقبل تتداخل انطلاقا من صورة الاثني عشر.

أيها الأخوة والأبناء الأعزّاء،

أن شرح الأبانا يعلّمنا أن نطلب دائما من الله ألاّ يدخلنا في تجربة. وما من أحد يمكنه أن يتغلّب على التجربة الا من أعانه الله على ذلك. لذلك قال لنا، تبارك اسمه: "صلّوا ولا تملّوا لئلا تدخلوا في تجربة". واختار السيد المسيح عائلة له وهم رسله الاثنا عشر، فمحضهم ثقته، وتولّى تثقيفهم في شؤون رسالتهم وعوّدهم الصلاة، الربية ألتي تبدأ باعطنا خبزنا كفاف يومنا، وتنتهي بالقول: ولا تدخلنا في تجربة ونجّنا من الشرير. وان ما حدث بالأمس على أرض فلسطين لهو من الشرّير، وقد سقط ما فوق المائتي ضحية من كل الأعمار، وهذا أمر مستنكر، ويدلّ على ان هذه المأساة يجب وضع حدّ لها لكيلا تتكرّر، وقد مرّ عليها ما فوق النصف قرن، وهي لا تزال على ما كانت عليه من البغضاء والعنف. ألهم الله المسؤولين ما فيه خير بلديهما".








All the contents on this site are copyrighted ©.