2008-12-22 10:27:32

رسالة البطريرك أنطونيوس نجيب احتفالاً بعيد الميلاد


وجه بطريرك الأقباط الكاثوليك الأنبا أنطونيوس نجيب رسالته لعيد الميلاد المجيد تحت عنوان "والكلمة صارَ بشرًا وعاش بيننا". مضمون الرسالة في تقرير مراسلنا في القاهرة. RealAudioMP3

 

نص الرسالة

" والكلمة صار بشرا ، وعاش بيننا " ( يوحنا 1 : 14 )

 

يسعدنا أن نحتفل فى هذه الليلة المباركة بعيد ميلاد السيد المسيح له المجد . ويتميّز عيد الميلاد فى كل أنحاء العالم ، بجو خاص من الفرح والابتهاج ، فتتلألأ الأنوار وتنتشر الزينات ، وتكثر لافتات التهانى ، وتجتمع العائلات ويلتقى الأصدقاء ويتبادلون الهدايا ، ويخصّون بها الأطفال . هذه هى المظاهر الخارجية .

 

أما من جهة الإيمان فعيد الميلاد أعمق من ذلك بكثير . إنه الاحتفال بتجسّد الابن ، الكلمةِ الأزلى ، الذى شاء فى حبّه اللامتناهى أن يصير واحدا منا : " والكلمة صار بشرا ، وعاش بيننا " . وحَّد فى شخصه بين الأبدى والزمنى ، بين المطلق والمحدود . أراد أن يختصر المسافة بينه وبيننا ، لأنها كانت تمنعنا من التقرّب إليه بالحب . هذا الحب هو ما يريد طفلُ المغارة أن يعلنه لنا . قبل التجسّد كان للناس تصورات مختلفة عن الله . ولكنها كانت كلها قاصرة ً وبعيدة عن التصوّر الحقيقى والصحيح . فأراد هو نفسه أن تقترب إلينا ، لنقتربَ نحن إليه . ولهذا تجلـّى لنا فى رقـّة طفل صغير ، وأخلى ذاته ليتحد بطبيعتنا .

 

صار الكلمة بشرا ، طفلا رقيقا ، ليوقظ أفضل وأسمى ما فى الإنسان : القدرةَ على أن يعطى ، ويبذلَ ذاته ، ويحب . ففى ذلك يصبح الإنسان شبيها بالله . صار الكلمة الأزلى شبيها بالإنسان ، ليصير الإنسان شبيها به . لا يعرف طفل المغارة أن يتكلم بَعد . ولكنه ، مثل كل طفل ، يثير الحب والاهتمام والتضحية . هذه هى رسالة الميلاد . ويوضـّحها ما جاء فى إنجيل القدّيس لوقا عن ميلاد السيد المسيح ، كما سمعناه الآن (لوقا 2 : 1 – 20 ) .

 

ملائكة السماء مُرسَلون من الله ، ليعلنوا عهدَ الله مع الناس ، منشدين : "المجد لله فى الأعالى ، وعلى الأرض السلام ، وللناس المسرّة " . لقد انفتحت السماء للبشر . الله يتنازل للقائنا فى شكل طفل صغير . ومعه يولد رجاء عظيم لعالم الإنسان … والمذود الذى التجأت إليه مريم ويوسف ، هو أيضا علامة ٌ على تواضع الكلمة الأزلى ، الذى لم يشأ أن يظهر مُحاطا بالعظمة والغِنى . بل تحلـّى بالضعف والفقر ، ليلتقى بنا فى كل أوجه وأوضاع ضعفنا وفقرنا . والفندق الذى رفض مريمَ ويوسف ، رمزٌ لكل ما يصدر من الناس فى رفضهم لحضور الله فى حياتهم ، ولكلمته ووصاياه . هو إشارة لما سيجده يسوع من رفض واضطهاد من الكثيرين المقاومين له طوال حياته الأرضية ، بل وعلى مدى الأجيال .

 

وهكذا يظهر ، منذ لحظة ميلاده ، موقف الناس من السيد المسيح . سيقبله البعض ، ويرفضه الآخرون . ولكنه دائما حاضرٌ ، يعلن ويجسّد حبَّ الله اللامتناهى للإنسان . من أجل ذلك صار الكلمة بشرا ، وعاش بيننا . أراد أن يعيش حياتنا البشرية ، ليجعل منا أبناء لله ، ليرفعنا إليه ويُشركنا فى حياته . جاء ليُخرجَنا من انغلاقنا ، ويفتحَ قلوبَنا لله ولإخوتنا . رسالة الميلاد هى رسالة حب وسلام ورجاء لجميع الناس :" المجد لله فى العُلى ، وفى الأرض السلام ، وللناس المسرّة ".

 

على مثال الرعاة ، كلنا مدعوون إلى مغارة يسوع ، لنضعَ عنده همومَنا وأتعابنا وآمالنا . سيقول لنا : : تعالوا إليَّ ، يا جميع المـُتعَبين والرازحين تحت أثقالكم ، وأنا أريحكم " ( متى 11 : 28 ) . ونحن مدعوون أن نحمل إليه أيضا همومَ وأثقالَ إخوتنا البشر . لأن طفل المغارة جاء ليمنح الخلاص للعالم كله . فى هذه الليلة المباركة ، ترتفع صلواتنا من أجل كل الذين يعانون الآلام ، والعُزلة ، ومن أجل المرضى ، والعاطلين ، والمهمَّشين . فلتكن هذه المناسبة الدينية فرصة ً لنحمل لإخوتنا هؤلاء الفرحَ ودفءَ المودّة . فلنذهب لزيارتهم ، ولا ننسى المستشفيات ، والسجون ، وبيوت المسنـّين ، وأصحاب الاحتياجات الخاصة ، والأرامل والأيتام ، وكلَ مَن يحتاجُ معونة وحبا . يريد الله أن يولد الحب فى كل قلب . يريد أن يهب السلام والمحبة لكل أبناء البشر . فلنكن إذا زارعى حب وصانعى سلام ، مع كل إنسان وفى كل مكان . وهذا ما تسعى أن تصنعه الكنيسة بلا توقف فى مسيرة التاريخ .

 

وفى هذا السياق أودّ أن أشرككم فى ثلاثة أحداث هامة ، عاشتها الكنيسة الكاثوليكية مؤخرا من أجل هذا الهدف ، وسعدتُ بأن أشترك فيها .

 

ففى شهر أكتوبر الماضى ، انعقد فى الفاتيكان مجمعُ الأساقفةِ العام الثانى عشر ، عن " كلمة الله فى حياة ورسالة الكنيسة " ، برئاسة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر . اشترك فيه مائتان وثلاثة وخمسون من البطاركة والكرادلة ورؤساء الأساقفة والأساقفة ، يمثـّلون جميع الأساقفة الكاثوليك فى العالم . وكذلك مائة وخمسون آخرون من الأخصائيين ، والمستمعين ، وممثلى الكنائس غير الكاثوليكية . ودام المجمع ثلاثة أسابيع .

 

واحتفل قداسة البابا بقدّاس الأحد للافتتاح ، وقدّاس ِ الأحد للختام . وبينهما احتفل فى الأحد الثانى بقداس أعلن فيه قداسة أربعة أشخاص : كاهن ٍ إيطالى ، وسيدة من الإكوادور بأمريكا الجنوبية ، وراهبة من سويسرا ، وراهبة من الهند وهى الأخت ألفونسينا ، أول ِ إمرأة من الهند تـُرفع إلى مصاف القداسة . وقد أسعدنى أن أشترك فى هذا المجمع وهذه الاحتفالات ، ممثلا لكنيستنا القبطية الكاثوليكية . وقد دعا المجمعُ إلى أن تكون كلمة الله فى أساس الحياة والخدمة . كما ناشد الأديان والشعوب والحضارات أن يتقاربوا ويتلاقوا ويتحابوا .

 

وكان الحدث الثانى فى شهر نوفمبر ، وهو المؤتمر العالمى السنوى الثانى والعشرون من أجل السلام ، الذى نظـّمته مؤسسة سانت إيجيديو فى قبرص . ضمّ المؤتمر حوالي 2500 شخص ، يمثلون الأديان والحضارات والبلاد المختلفة . وكان من الرائع حقا أن يلتقى هؤلاءُ جميعا ، فى جو تميّز بالمودّة والأخوّة ، وبالحوار الصريح والهادىء والبنـّاء ، يستمعون بعضُهم إلى بعض باحترام وتقدير . وفى الختام ، وجّه المؤتمر نداءً إلى بُناء عالم يسوده السلامُ والأخوّة والتعاون .

 

أما الحدث الثالث فكان فى شهر نوفمبر أيضا فى لبنان ، فى مقر غبطة البطريرك الكاردينال مار بطرس نصرالله صفير ، بطريرك الموارنة ، وهو الاجتماع السنوى الثامنُ عشر لبطاركة الشرق الكاثوليك . وكان موضوعه " القديس بولس رسول الأمم لعالم اليوم فى الشرق " . وتضمّن بيانه الختامى هذه الكلمات : " إننا نسأل الله تعالى أن يمنح كلَّ بلداننا ، الاستقرار الذى يتيح لها أن تنموَ نموّا طبيعيا ، وأن تزدهرَ بإيمان جميع أهلها ، وبمحبّتهم بعضهم لبعض ، وبتعاونهم لتعزيز أوطانهم ، فتتوفـّرُ فيها لجميع المواطنين حياة ٌ كريمة ومطمئنة ".

 

ولا نظنُ أن هذه الاجتماعات واللقاءات تمر بدون ثمرة . ونظرا لضيق الوقت ، أودّ أن أتوقف فقط عند ثمارها فى مجال الحوار الدينى . لعلنا نتذكر الخطابَ الذى وجّهه مائة وثمانية وثلاثون ، من رجال الدين المسلمين فى العالم ، فى 13 أكتوبر 2007 ، إلى قداسة البابا بندكتوس السادس عشر ورؤساء الكنائس الأخرى ، تحت عنوان : " تعالوا إلى كلمة سَواء بيننا وبينكم " . وكان دعوة ً إلى الحوار حول محبة الله ومحبة القريب …لقد رحّب قداسة البابا بهذه الدعوة ، وتمت لقاءات تمهيدية بين ممثلين لهذه المجموعة وممثلين للفاتيكان . ومن الرابع إلى السادس من نوفمبر ، التقى فى روما وفد يضم ثلاثين من كل جانب ، لحوار تميّز بالمودّة والصراحة فى مناخ من التفاؤل والرجاء .

وسبق هذا اللقاءَ مؤتمرٌ للحوار الدينى ، نظـّمه العاهل السعودى جلالة الملك عبدالله آل سعود ، فى مدريد باسبانيا ، من 16 إلى 18 يوليو 2008 . واشترك فيه وفدٌ من الفاتيكان ومن الكنائس الأخرى ، وممثلون للديانة اليهودية … وفى يومي 11 و 12 نوفمبر 2008 ، عقدت هيئة الأمم المتحدة فى نيويورك ، مؤتمرا لحوار الأديان والثقافات ، تحت عنوان " ثقافة السّلام " ، اشترك فيه ممثلون للأديان والدول ، وتوّج أعماله ببيان ختامي ، حمل إسم "إعلان نيويورك"، أكّد فيه على الأهداف والمبادئ الواردة في ميثاق الأمم المتّحدة ، والإعلان ِ العالمي لحقوق الإنسان … هذه المبادراتُ البنـّاءة على المستوى العالمى ، هى دفعة قوية لنا لنسلكَ نفسَ السبيل ، فنلتقىَ فى مودّة وإخاء ، ونتعاونَ فى سلام ووئام … هكذا يتحقق نشيد الملائكة فى ليلة الميلاد : " وفى الأرض السلام " . إنه عطش البشرية الدائم للسلام .

 

فى هذا المساء المبارك ، نرفع قلوبنا وصلواتنا إلى الله ، فى اتحاد مع قداسة البابا بندكتوس السادس عشر وإخوتنا البطاركة والأساقفة . نلتمس من الله تعالى أن يمنَّ بالسلام على العالم ، لتنتهىَ الحروبُ والصراعات ، ويتوقفَ العنف والإرهاب ، ويسودَ الهدوء الأمان . إننا نتطلع إلى عام جديد سعيد لجميع البشر ، ولا سيما لجيراننا الأعزاء : العراق ، وفلسطين ، والسودان ، والكنغو ، والصومال، ولكل البلاد التى يعانى أهلها من الحروب والنزاعات . ونلتمس شفاعة أم النور وأم طفل المذود ، مريم العذراء ، لكى يسودَ الحبُ مجتمعَنا البشرى .

 

ونرفع إلى رئيسنا الجليل محمد حسنى مبارك ، كلَ شكرٍ وتقدير . ونصلى أن يمنحه اللهُ القدير القوّة والعمر الطويل ، وأن يكلل بالنجاح كل مساعيه من أجل السلام والرخاء ، فى وطننا الحبيب مصر . فليحفظه الله قائدا لمسيرة النهضة والحرية والعدالة … كما نصلى من أجل كل المسئولين . سدّد الله خطاهم ، وحفظ قواتنا المسلحة ، وحفظ مصر سالمة آمنة ومباركة .

 

" المجد لله فى الأعالى ، وعلى الأرض السلام ، وللناس المسرّة "








All the contents on this site are copyrighted ©.