2008-09-13 15:18:26

البابا في خطابه إلى المفكرين والمثقفين في معهد برناردان بباريس


تحت حنايا معهد برناردان العلمي ومن على منصة القاعة الكبرى، ألقى البابا بندكتس الـ16 خطابا مسهبا تمحور حول الكلمة والإيمان والكتاب المقدس، في حضور 700 شخصية من عالم الفكر والثقافة والعلم وبينهم الرئيسان الفرنسيان السابقين جيسكار ديستان وشيراك ووزيرة الثقافة وعمدة بلدية باريس.

هذا واستهل الكاردينال فان تروا رئيس أساقفة باريس اللقاء بكلمة ترحيبية ذكّر فيها بإرادة وعزم الكاردينال الراحل لوستيجيه الذي اشترى ورمم معهد برناردان وأعاده صرحا ثقافيا كبهاء بداياته في القرن الثالث عشر. وسطر أن حضور البابا في ذلك الصرح التاريخي يشير إلى مكانة ودور الديانات المسيحية في المضمون الخاص للمجتمعات الأوروبية.

تحدث البابا بندكتس الـ16 في كلمته عن أصول اللاهوت الغربي وجذور الثقافة الأوروبية، فذكر أن معهد برناردان مرتبط ارتباطا وثيقا بالثقافة الرهبانية لأن رهبانا شبابا عاشوا فيه ليتمرسوا في دعوتهم ويحيوا رسالتهم.

وسطر البابا دور الرهبانيات والثمار التاريخية التي أنتجتها في الحضارة الغربية والأوروبية، وقال إن الرهبان كانوا يفتشون عن الله، عن الأسمى في حياتهم والنهائي والثابت، عن الحياة ذاتها: فكانت الكلمة، كلمة الله التي وجدوها والموحاة لهم في الكتاب المقدس. لذا قال الأباتي جان لوكلير إن "النهيوية والغرامطيق أمران لا ينفصمان الواحد عن الآخر في الرهبانيات الغربية"، ولأن الشوق إلى الله يحوي محبة الآداب ومحبة الكلمة واكتشافها بكل أبعادها. لذلك كانت المكتبة جزءا أساسيا من الدير مثل المدرسة، وكلاهما يشقان الدرب نحو الكلمة.

ولفت الحبر الأعظم إلى أن ثقافة الكلمة مرتبطة بالبحث عن الله مضيفا أن الكلمة التي تشرّع طريق التفتيش عن الله والتي هي الطريق نفسها، هي كلمةٌ تلدُ جماعة، وتحرك في عمق أعماقها كل شخص بمفرده. وتدخلنا كلمة الله بحد ذاتها في حوار معه، وفي هذا الحوار، نعرض أمامه حياتنا ونحوّلها إلى حركة نحوه.

يشدد القديس بندكتس مؤسس الحياة الرهبانية في الغرب على أن النظام الثابت لصلاة وترنيم الرهبان يرتكز إلى المزمور 138/1: "أمام الملائكة أعزف لك". الصلاة والترنيم بهدف الاتحاد بموسيقى الأرواح الطوباوية التي تُعتَبر مؤلِّفة تناغم الكون وموسيقى الطغمات. وبالنسبة لأغسطينس أسقف هيبونا فإن آذان القلب تتعرف إلى القوانين المكوِّنة لتناغم الخَلق الموسيقي وإلى الأشكال الجوهرية للموسيقى التي بثها الخالق في العالم وفي الإنسان، وتخترع موسيقى تليق بالله.

وأشار البابا إلى أن ثقافة الكلمة في الحياة الرهبانية الغربية تطورت ونشأت من البحث الداخلي عن الله. فالكتاب المقدس ليس مجرد كتاب ولكنه مجموعة نصوص أدبية تمتد حقبة تدوينها لأكثر من ألف عام، وقد أضاف المسيحيون إلى العهد القديم كتابات العهد الجديد كي تكون كلها دربا إلى المسيح.

وشدد البابا على أن الكتابة تحتاج إلى تفسير وإلى الجماعة حيث تنشّأت وحيَت، إذ فيها وحدها تجد وحدتها وفيها يتجلى المعنى الذي يوحّد الكل،  وأن الكلمة لا تفقد مطلقا قيمتها بل تظهر بكامل عظمتها وكرامتها. من هنا قول التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية إن المسيحية ليست ديانة الكتاب فقط، لأن المسيحية تستشف الكلمة في الكلمات أي اللوغوس نفسه الذي يظهر مجده من خلال التعددية.

وانتقل للكلام على القديس بولس الذي شرح الفرق بين الكلمة والكتابة فقال إن "الحرف يميت والروح يحيي" (2 كور3/6) وأضاف أنه "حيث يكون روح الرب، تكون الحرية" (2 كور3/17) يقينا منه أن هذا الروح المحرر له اسم وأن الحرية لها مقياس داخلي. فالروح هو المسيح والمسيح هو الرب الذي يدلنا على الدرب، في رباط الذكاء والمحبة.

والصراع بين الرباط والحرية ترك أثره في فكر وعمل الرهبانيات وطبع الثقافة الغربية بالعمق ولكنه يظهر مجددا لجيلنا على أنه تحدٍ بمواجهة قطبين أولهما الاعتباطية الشخصية وثانيهما التعصب الأصولي. ونبه البابا لخطورة وقوع الثقافة الأوروبية في فخ التعصب والاعتباطية لأن غياب الروابط والاعتباطية ليس بحرية بل تدمير لها.

وقال البابا إن مدرسة خدمة الرب كما سماها القديس بندكتس تشدد على الصلاة والتأمل بالكلمة وعلى العمل أيضا على غرار الرسول بولس الذي كان يحيك الخيام ليكسب رزقه، وعملا بكلام يسوع: "إن أبي ما يزال يعمل، وأنا أعمل أيضا" (يو5/17). لذلك يجب على عمل البشر أن يكون تعبيرا خاصا لصورة الله الذي جعل الإنسان شريكا في عمل الله الخالق في العالم. من دون ثقافة العمل بجانب ثقافة الكلمة، ركني الحياة الرهبانية، لا مجال للتفكير بنمو أوروبا وتكوينها الأدبي ومفهومها للعالم.

وفي بحث الرهبان الداخلي عن الله، تابع الحبر الأعظم، من الضرورة بمكان أن يحركه تيار داخلي يبث فيهم حب الكلمة الموجود فيها الطريق لملاقاة الإنسان بالله والله بالإنسان: وبتعبير آخر، البشارة بالكلمة ضرورة ماسة. وشمولية الله وشمولية العقل المنفتح نحوه تشكلان بالنسبة للرهبان الحافز والواجب والإعلان.

وحين بشر بولس في أفسس بالإله المجهول الذي يكرمه اليونانيون قائلا إنه هو يسوع المسيح، لم يبشر بآلهة مجهولة بل أعلن عن الذي يجهله البشر ويعرفونه في الآن الواحد، وهو ذاته الذي يبحثون عنه، فهو المجهول والمعروف. والجديد في البشارة المسيحية هي إمكانية القول اليوم لكل الشعوب: لقد تجلى وظهر شخصيا، يجب على الإنسان أن يتواضع كي يجيب على تواضع الله نحوه.

وختم البابا بندكتس الـ16 قائلا إن ما أسس للثقافة في أوروبا أي البحث عن الله وطواعية الإصغاء له، سيبقيان حتى اليوم دعامة كل ثقافة حقيقية.








All the contents on this site are copyrighted ©.