2008-03-03 16:24:16

البطريرك صفير: لنعد اليه تعالى بالصلاة، ولنصارح بعضنا بعضا، ولنشبك الأيدي لننهض معا بوطننا ليعود فيقتعد مقعده بين الأمم


ترأس البطريرك الماروني الكردينال مار نصرالله بطرس صفير صباح الأحد الثاني من مارس آذار القداس الإلهي في كنسية الصرح البطريركي في بكركي ـ لبنان وألقى بعد الإنجيل عظة قال فيها ان ما نشهده من تجاذبات بين أهل الحكم، وما يستندون اليه من حجج واهية للإبقاء على الأوضاع على ما هي عليه من تدهور، يكاد يوقع اليأس في قلوب المواطنين. والمهم هو البحث عن كيفية تلبية مطالب هؤلاء المواطنين المحقة، وهي تتكاثر كل يوم، وكأن البلد صائر الى التفكك والزوال. وما من لبناني فيه ذرة من مواطنية صادقة وشعور صادق بالكرامة، يرضى بأن يصبح وطنه في هذه الحالة المزرية التي يتخبط فيها. لنعد اليه تعالى بالصلاة، ولنصارح بعضنا بعضا، ولنشبك الأيدي لننهض معا بوطننا ليعود فيقتعد مقعده بين الأمم، وفي التاريخ". المزيد في تقرير مراسلنا في بيروت. RealAudioMP3

 

عظة البطريرك صفير:

"ان نزول الروح القدس على يسوع الذي يختتم مشهد العماد، يشكل نوعا من بدء مهمة يسوع الرسمية. وليس دونما سبب اذن، رأى الآباء في هذا العمل وجه شبه مع المسحة التي كان الملوك والكهنة في اسرائيل يقلدون بواسطتها وظائفهم. والعبارة "المسيح" تعني الممسوح: وكانت تعتبرالمسحة في العهد القديم كعلامة مرئية لتسلم الهبات المطلوبة للقيام بالوظيفة، وهبة روح الله للقيام بالوظيفة. وانطلاقا من هذا، في آشعيا، يتوطد الرجاء "بمسيح" حقيقي، وتقوم "مسحته" على أن روح الرب يستقر عليه: روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح العلم وتقوى الرب". وحسب رواية القديس لوقا، قدم يسوع نفسه في مجمع الناصرة، وأعلن عن رسالته باستعماله عبارة مشابهة لعبارة آشعيا: "روح الرب علي لأن الرب مسحني". وفي ختام مشهد العماد، قيل لنا أن يسوع قبل المسحة الحقيقية، وانه "المسيح" المنتظر: اذذاك خلعت عليه رسميا الكرامة الملوكية والكهنوتية للتاريخ وأمام اسرائيل.

فمنذ ذلك الحين، تقلد المسيح هذه الرسالة. وتخبر الأناجيل الازائية الثلاثة، وهذا ما يثير فينا العجب، ان أول عمل قام به الروح كان الذهاب بيسوع الى الصحراء "لكي يجربه الشيطان". وسبقت هذا العمل فترة خشوع، كانت حتما في الوقت عينه، صراعا داخليا في سبيل الرسالة، وصراعا ضد تشويهات الرسالة، هذه التشويهات التي بانت كأنها اتمام لهذه الرسالة. وهذا انزلاق الى التجارب التي تتهدد الانسان، لأن الانسان الذي سقط بامكانه هكذا فقط أن ينهض. ان يسوع، المقيم في قلب رسالته الأصلية، عليه أن يدخل في مأساة الوجود الانساني، وأن يجتازها في أعماقها، لكي يعثر على "الخروف الضال"، وان يحمله على كتفيه، ويعود به الى الحظيرة.

ان نزول يسوع الى "الجحيم" الذي يتكلم عنه قانون الايمان، لم يتم فقط بموته وبعد موته، لكنه يشكل جزءا من مسيرته: كان على يسوع أن يستعيد التاريخ كله انطلاقا من بدايته، من "آدم"، وأن يجتازه ويتألم منه حتى النهاية ليتمكن من تحويله. ان الرسالة الى العبرانيين قد شددت بطريقة خاصة على أن رسالة يسوع، وتضامنه معنا، الذي صوره العماد مسبقا، يتضمن تعرضه للتهديدات والتجارب التي تعرفها الحالة البشرية: "ومن ثم كان عليه أن يتشبه باخوته في كل شيء، ليصير عظيم أحبار رحيما، وأمينا، في ما هو لله، حتى يكفر عن خطايا الشعب. وبما أنه هو نفسه قد ابتلي بالآلام، فهو قادر على اغاثة المبتلين". وفي الواقع انه ليس لنا عظيم أحبار غير قادر أن يعطف على ضعفنا، بل قد جرب في كل شيء مثلنا، ما عدا الخطيئة". ان رواية التجارب مرتبطة اذن اشد الارتباط برواية العماد التي أصبح فيها يسوع متضامنا مع الخطأة. ويجب أن نضيف الى ذلك الصراع في جبل الزيتون، وهو الصراع الكبير الداخلي الذي عاناه يسوع من أجل رسالته. ولكن "التجارب" رافقت يسوع طوال مسيرته، ورواية التجارب بدت، من هذه الناحية -كرواية العماد- استباقا تجمع فيه كل صراع مسيرته.

ان مرقس، في روايته القصيرة عن التجارب، أبرز المقارنة بين آدم والقبول المؤلم بمأساة الحالة البشرية كما هي. كان يسوع "يعيش مع الوحوش، وكانت الملائكة تخدمه". والصحراء -وهي تلك الصورة في مقابل صورة الحديقة- أصبحت مكان المصالحة والخلاص. والوحوش، التي تمثل بطريقة حسية التهديد الذي توجهه الخليقة وقوى الموت الى الانسان، تصبح أصدقاء كما في الفردوس. والسلام الذي بشر به آشعيا في عهد المسيح، قد أستعيد :"يسكن الذئب مع الحمل، ويربض النمر مع الجدي". وحيثما غلبت الخطيئة، وحيثما ساد مجددا الانسجام بين الله والانسان، نتجت عن ذلك مصالحة الخليقة، والخليقة الممزقة عادت مكان سلام، على ما يقول القديس بولس لدى حديثه عن أنين الخليقة التي "تنتظر بفارغ الصبر تجلي أبناء الله".
ان واحات الخليقة التي أزهرت مثلا حول أديار البنديكتان في الغرب، أفليست تمثل مسبقا هذه المصالحة للخليقة الآتية من أبناء الله؟ وخلافا لذلك، أفليست تشرنوبيل (المحطة النووية الروسية التي انفجرت) مثلا تعبيرا مذهلا عن الخليقة المستعبدة والغارقة في ظلام الله؟ وختم مرقس روايته القصيرة عن التجارب بعبارة يمكننا أن نفهمها كأنها تلميح الى المزمور91 (90)، 11: "والملائكة يخدمونه". ونجد هذه العبارة أيضا في آخر رواية موسعة للتجارب لدى متى. وانطلاقا من هذا الاطار الواسع تصبح مفهومة كل الفهم.

تكلم متى ولوقا عن ثلاث تجارب ينعكس فيها كفاح يسوع الداخلي من أجل رسالته، وفي الوقت عينه تظهر المسألة المتعلقة بما يحسب له حساب حقا في حياة الناس. وهنا يظهر بوضوح قلب كل تجربة: وضع الله جانبا الذي، أمام كل ما يظهر في حياتنا أنه ملح، يبدو ثانويا وحتى نافلا ومزعجا. تنظيم الانسان العالم بذاته من دون الله، والاعتماد فقط على الذات، والتسليم كوقائع راهنة بالوقائع السياسية والمادية، باقصاء الله كوهم، هذه هي التجربة التي تتهددنا تحت وجوه كثيرة.

ان طبيعة التجربة تحتوي على مسلك أدبي: فهي لا تدعونا مباشرة الى الشر، وهذا يكون أمرا غليظا. فهي تدعي أنها تظهر لنا ما هو أحسن: التخلي أخيرا عن الأوهام، واستعمال ما لنا من قوى استعمالا جيدا لتحسين العالم. وتحضر الينا أيضا مدعية بالواقع الصحيح. والواقع هو ما نتأكد منه: السلطة والخبز. وفي المقابل، ان أشياء الله تبدو كأنها غير واقعية، وكعالم ثانوي، لا حاجة بنا اليه.

والحال، ان ما في الأمر هو الله: هل هو، نعم أم لا، الواقع بذاته؟ هل هو الخير، أم علينا أن نخترع بذاتنا ما هو خير؟ ان مسألة الله هي المسألة الأساسية التي تضعنا أمام مفترق طرق الوجود الانساني. وماذا على مخلص العالم أن يفعل، أو الا يفعل؟ هذه هي الاسئلة التي تكمن في تجارب يسوع. لدى متى ولوقا، ان التجارب الثلاث متماثلة، غير أن تتابعها مختلف فقط. ولنتبع صيغة متى لما في بنيتها المتصاعدة من تناسق.

ان يسوع "بعد أن صام أربعين يوما واربعين ليلة، اخيرا جاع". وفي زمن يسوع كان الرقم أربعين له معنى رمزي فيه غنى لاسرائيل. فهو يذكرنا أولا بالأربعين سنة التي أمضاها اسرائيل في الصحراء، والتي كانت سني تجربته، وفي الوقت عينه سني اقترابه الخاص من الله. وعلينا أيضا أن نفكر بالأربعين يوما التي أمضاها موسى على جبل سيناء، قبل ان يتمكن من قبول كلام الله، وألواح العهد المقدسة. ويمكن ذلك أن يذكر ايضا بالرواية الربينية التي بموجبها امتنع ابراهيم عن كل طعام وشراب طوال أربعين يوما وليلة، وهو في الطريق الى جبل حوريب حيث كان عليه أن يضحي بابنه، واكتفى بأن يقتات برؤية الملاك الذي كان يرافقه، وبكلامه.

والآباء أيضا، بتمديدهم رمزية الأرقام تمديدا فيه بعض المبالغة، اعتبروا ان الرقم أربعين هو رقم كوني، رقم العالم بمجمله: الجهات الرئيسية الأربع تحدد كل شيء، وعشرة هو عدد الوصايا. والرقم الكوني المضروب بعدد الوصايا يصبح التعبير الرمزي عن تاريخ العالم. ويسوع يجتاز مجددا نوعا ما خروج اسرائيل، وتيه جميع التواريخ وفوضاها. والأربعون يوما التي صام فيها يسوع تشمل مأساة التاريخ التي أخذها يسوع على عاتقه، وتحملها حتى النهاية.

"ان كنت ابن الله، فقل كلمة فتصير هذه الحجارة أرغفة"، هكذا ابتدأت أول تجربة. "ان كنت ابن الله"- وانا سنسمع هذه الكلمات من أفواه الذين سيهزأون من يسوع عند أقدام الصليب: "ان كنت ابن الله، انزل عن الصليب". وقد سبق لسفر الحكمة أن واجه مثل هذه الحالة: "ان كان هذا الصديق ابن لله، فهو ينصره". سخرية وتجربة يسيران هنا معا: على المسيح أن يبرهن من يدعي أنه هو ليكون صادقا. وطلب البرهان هذا اجتاز كل حياة يسوع، وكان يعاب عليه دائما أنه لا يثبت بوضوح من هو. فكان عليه أن يأتي الأعجوبة الكبيرة التي تقضي على كل ابهام وكل تناقض، وتظهر لكل من الناس، بطريقة حاسمة، أنه من هو، أو ليس هو.

هذا الطلب هو ما نوجهه نحن أيضا الى الله، الى المسيح وكنيسته على مدى التاريخ: ان كنت، يا رب، موجودا عليك أن تظهر. وعليك اذن أن تمزق الغيم الذي يحجبك، وأن تعطينا النور الذي لنا حق فيه. اذا كنت أنت، ايها المسيح، حقا ابن الله، ولست أحد المهووسين الذين ظهروا باستمرار في التاريخ، وجب عليك اذن ان تظهر بوضوح اكثر مما تفعل. اذذاك، عليك أن تعطي كنيستك، اذا كانت هي حقا كنيستك، درجة من الوضوح مختلفة عن الدرجة التي هي تعتمد عليها حاليا.

رضي يسوع بأن يجربه الشيطان، ليعلمنا أن نتغلب على التجربة بما وضع في متناولنا من وسائل، وهي الصلاة، والتقشفات، وممارسة الأسرار. غير أن المجرب لا يرتدع بسهولة.

وان ما نشهده من تجاذبات بين أهل الحكم، وما يستندون اليه من حجج واهية للإبقاء على الأوضاع على ما هي عليه من تدهور، يكاد يوقع اليأس في قلوب المواطنين. والمهم هو البحث عن كيفية تلبية مطالب هؤلاء المواطنين المحقة، وهي تتكاثر كل يوم، وكأن البلد صائر الى التفكك والزوال. وما من لبناني فيه ذرة من مواطنية صادقة وشعور صادق بالكرامة، يرضى بأن يصبح وطنه في هذه الحالة المزرية التي يتخبط فيها. لنعد اليه تعالى بالصلاة، ولنصارح بعضنا بعضا، ولنشبك الأيدي لننهض معا بوطننا ليعود فيقتعد مقعده بين الأمم، وفي التاريخ".








All the contents on this site are copyrighted ©.