2007-12-26 16:22:27

البطريرك صفير: لا يمكننا ان نصغي إلى الله الا اذا أسكتنا أصوات العالم التي تضج في أعماقنا


ترأس البطريرك الماروني الكردينال مار نصرالله بطرس صفير قداس الميلاد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي ـ لبنان، وألقى عظة بعد الإنجيل المقدس بعنوان "قد ولد لنا ولد ودعي اسمه الها جبارا رئيس السلام" قال فيها: "عيد ميلاد الرب يسوع المسيح بالجسد، هو ينبوع فرح ومجلبة رجاء ووعد بالسلام. وقد عبر آشعيا النبي عن هذه الاماني بقوله: "لقد ولد لنا ولد، اعطي لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفيه، ودعي اسمه عجيبا، مشيرا، الها جبارا، أبا الابد، رئيس السلام".

ميلاد يسوع المسيح هو ينبوع فرح، لقد كانت البشرية تنتظر هذا المولود العجيب، منذ نشأتها، وبعد ان سقط الانسان الاول في المعصية، وعد الله الناس بانه سيرسل اليهم مخلصا. لقد جاء في تعليم الكنيسة الكاثوليكية: "ان الانسان، ولو مشوها بالخطيئة والموت، ظل على صورة الله، وصورة الابن، لكنه حرم مجد الله، ومثاله تعالى. ودشن الوعد الذي قطعه الله لابراهيم عهد الخلاص الذي سيتخذ الابن بنهايته "الصورة"، ويصلحها لتكون على شبه الآب باعطائه اياهاالمجد، والروح، معطي الحياة". وهكذا عاشت البشرية آلاف السنين، وهي تنتظر مجيء المخلص الموعود، على ما جاء في الكتاب المقدس: "اقطري ايتها السماوات من فوق، ولتمطر الغيوم الصديق".
ووفى الله بوعده في ملء الزمن، على ما جاء في رسالة القديس يوحنا الاولى، حيث يقول: "المسيح الذي عينه الله قبل انشاء العالم، وأعلنه في آخر الازمنة، من أجلكم، وانتم بفضله تؤمنون بالله، الذي أقامه من بين الاموات ومجده، حتى يكون الله غاية ايمانكم ورجائكم".

وجاء المسيح، فكان مولده، كأحقر ما يولد انسان، لكنه كان ينبوع فرح للناس. وهذا ما بشر به الملاك مولده، عندما قال للرعاة، الذين كانوا يحرسون قطعانهم، ويسهرون عليها في هجمات الليل، قائلا:" لا تخافوا، فها انا أبشركم بفرح عظيم يكون للشعب كله". هذا الفرح لا يشعر به الا أنقياء القلوب الذين لا يضمرون حقدا وضغينة لاحد من الناس، ولا يتوخون من دنياهم الا العمل بارادة الله، مرددين ما علمنا السيد المسيح ان نقول في الصلاة الربية: "لتكن مشيئتك على الارض، كما في السماء". وهذا هو المهم، لا بل الاهم، اي ان نعمل بمشيئة الله، ونقبل منه ما يمن به علينا متمثلين بأيوب الصديق الذي عابت عليه امرأته صبره على الشدائد، فاذا به يقول لها: "انما كلامك كلام احدى السفيهات" أنقبل الخير من الله، ولا نقبل منه الشر"؟ وعلى الرغم من كل الضيقات التي تعرض لها بولس الرسول، كان يقول: "اني أفرح بالآلام التي أعانيها من أجلكم، وأتم في جسدي ما نقص من آلام المسيح، من أجل جسده الذي هو الكنيسة".

عيد ميلاد الرب يسوع هو مجلبة رجاء، مهما أدلهمت الغيوم وتلبدت في سماء حياة المؤمنين، فهم يعرفون انه لا يحدث أمر في الدنيا بدون اذن الله. والقديس بولس يقول: "أمين هو الله فلن يسمح ان تجربوا فوق ما تطيقون، بل يجعل مع التجربة مخرجا، لتستطيعوا ان تحتملوا". والانجيلي متى يقول مستشهدا بآشعيا النبي: "الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورا عظيما، والجالسون في بقعة الموت وظلاله، أشرق نور عليهم". ان الله أقرب ما يكون من المؤمنين، عندما يشعرون بانه قد ابتعد عنهم، واختفى. هذا ما كان يردده الكثيرون من القديسين الذين خبروا الحياة الروحية. ولا رجاء دو ايمان، ولا ايمان دون رجاء. فهما فضيلتان متلازمتان. والايمان هو هبة من الله للانسان. وبامكاننا ان نفقد هذه الهبة التي تفوق كل قيمة. وهذا ما حذر القديس بولس تلميذه تيموتاوس منه بقوله له:" جاهد الجهاد الحسن، متمسكا بالايمان والضمير الصالح، وقد رفضهما الناس فتحطمت سفينة ايمانهم".
وفقدان الرجاء والامل يأس، واليأس طريق الى الموت، والفناء. لذلك ينادي بولس الرسول بأعلى صوته قائلا:" وصار لنا افتخار برجاء مجد الله".و"مع قطع الرجاء، لا يعود الانسان يرجو من الله خلاصه، والمساعدات التي تمكنه من بلوغ هذا الخلاص، او مغفرة خطاياه. فهو يقاوم جودة الله، وعدالته - لان الله وفي لمواعيده -ورحمته". وهذا هو خطأ يهوذا الاسخريوطي، التلميذ الخائن الذي "اسلم السيد المسيح، بثلاثين من الفضة، لاعدائه ليصلبوه".وقد يكون "المرض مدعاة يأس، وسببا للانطواء على الذات، والثورة على الله، كما ان المرض بإمكانه ان يجعل الانسان ناضجا، ويساعده على اكتشاف ما ليس في حياته بالجوهري ليلتفت الى ما هو حقا جوهري. وفي غالب الاحيان، يدفع المرض الانسان الى البحث عن الله والعودة اليه".

واضاف البطريرك صفير: "الحقيقة الراهنة التي لا تقبل الجدل، هي ان الانسان لا يمكنه ما دام على قيد الحياة ان يواصلها دون رجاء. والروح القدس هو الذي يعلمنا ان نحتفل بالطقوس بانتظار مجيء المسيح، وهو الذي يعلمنا ان نصلي بالرجاء. وعلى العكس من ذلك، ان صلاة الكنيسة، والصلاة الشخصية، تغذيان فينا الرجاء. والمزامير هي لنا ينبوع رجاء عندما تقول: "انتظرت الرب انتظارا، فالتفت الي، واستمع الى استغاثتي".
ان السيد المسيح هو من وعدنا بالسلام، لا بل انه سلامنا.ان الانجيلي يوحنا يقول: "السلام أستودعكم، سلامي خاصة أعطيكم، لا كما يعطيه العالم أنا أعطيكم. لا يضطرب قلبكم ولا يخف"، وكم نحن في حاجة الى سماع مثل هذه الاقوال المطمئنة، خاصة عندما تصدر من فم الله، القدير على كل شيء، والصانع السلام. لا بل انه هو سلامنا، على ما يقول القديس بولس: "المسيح هو سلامنا، وهو من جعل الاثنين واحدا، وفي جسده نقض الجدار الفاصل بينهما، اي العداوة، اي ان العالم قبل المسيح كان مقسوما الى شعبين منفصلين متناقضين، يستحيل الجمع بينهما، الشعب اليهودي والشعب الوثني. اي الامم الباقية كلها، والمسيح هو الفادي وحده جمعهما شعبا واحدا، وهيكلا جديدا واحدا، وانسانا جديدا واحدا.

يقول البابا بنديكتوس السادس عشر في مؤلفه الجديد: يسوع الناصري:" لم يرد يسوع ان ينقل الينا معارف مجردة لا تتعلق بنا، ولا تذهب الى أعماقنا، فهو يريد أولا ان يقودنا الى سر الله، صوب النور الذي لا تطيقه عيوننا، والذي نهرب منه لهذا السبب. ولكي يسمح لنا بان نصل الى هذا النور، فهو يظهر لنا شفافية النور الالهي في شؤون هذا العالم، وفي وقائع يتألف منها كل يوم من ايامنا، فهو من خلال وقائع كل يوم، يريد ان يظهر لنا ما في كل الاشياء من عمق حقيقي، وبالتالي الاتجاه الصحيح الذي يجب ان نتخذه كل يوم لنكون في الطريق الصحيح، فهو يظهر لنا الله، ليس الها مجردا، بل الله الذي يعمل، ويدخل في حياتنا، والذي يرغب في ان يقودنا باليد. فهو من خلال كل يوم، يظهر لنا من نحن، وما علينا ان نفعل. وهو ينقل الينا معرفة متطلبة، لا تكتفي بمعرفة جديدة، ليس هذا قصده الجوهري، بل معرفة تغير حياتنا:ان الله هو في الطريق اليك. ولكنها معرفة تتطلب امرا لا بد منه: كن مؤمنا، ودع الايمان يقودك، وإمكانية الرفض هي واقع ظاهر، لان المثل هو خلو من الوضوح الذي نحن في حاجة اليه".

وتابع: "اجل ان الله هو أقرب الينا من ذاتنا، ويبقى علينا ان نكتشفه في أعماقنا، وان نصغي اليه، ولا يمكننا ان نصغي اليه، الا اذا أسكتنا أصوات العالم التي تضج في أعماقنا، وأرهفنا السمع، ولنقل علم الرب صموئيل ان يقول للرب يوم خاطبه: "تكلم يا رب: ان عبدك يسمع.

وختم البطريرك صفير: "انا، اذ نهنئكم بهذا العيد، نسأل الله، بشفاعة والدته البتول، ان يعيد عليكم عديد امثاله، وقد عاد وطننا لبنان الى سابق عهده في الاستقرار والازدهار والطمأنينة والسلام.








All the contents on this site are copyrighted ©.