2007-12-19 16:36:12

رسالة الميلاد لبطريرك أنطاكية وسائر المشرق والاسكندرية وأورشليم للروم الملكيين الكاثوليك


الكلمة صار جسدا

المقدمـة
هذه العبارة هي البشرى القديمة الجديدة التي أَزفّها إليكم أيّها الأحبّاء في كنيستنا الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة وإلى كلِّ مسيحيِّ لا بل إلى كلِّ مؤمنٍ، في عيد الميلاد المجيد ومطلع رأس السنة الميلاديّة الجديدة. وردت هذه العبارة في مطلع إنجيل يوحنّا حيث يتكلّم عن البدء وعن الكلمة في البدء، في الأبديّة مع الله، عند الله، في الله، في جوهر الله. ينطلق يوحنّا من الأوّل، من الأبديّة إلى الزمان. ويصف بهذه العبارة باختصار وإيجاز وإعجاز، دخول الله الأبديّ الأزليّ في زمن الناس، في تاريخ الناس، كلِّ الناس. إنَّه لا يُحدِّدُ التاريخ الزمنيّ الذي فيه صار الكلمة جسدًا، بل يتكلّم عن ذلك بالمطلق، مطلق الزمان ومطلق الإنسان: صار جسدًا بشرًا! إنسانًا. كلِّ إنسان بدون استثناء، لا في الزمان ولا في المكان ولا في الجنس ولا في العرق ولا في اللون! في هاتين الكلمتين نرى النقلة الفريدة في علاقة الله بالإنسان! إنها نقلة أساسيّة وتاريخيّة. ولكنها لا تحصر في تاريخ. إذ إنّ الكلمة يصير جسدًا، مع كلِّ جسد. مع تاريخ كلِّ إنسان. مع زمان كلِّ إنسان. يدخل في الزمن المطلق. ويدخل في زمن الإنسان المطلق. كما يدخل في زمنٍ محددٍ وفي زمن إنسان محدّد، ومحدود، وهو غير المحدود.

هذه هي الأعجوبة الدائمة: إنه الله الغير المحدود، يدخل في خانة المحدود، في مقولة (Prédicat) محدودة، وفي معقولة المحدود. وهذا هو سرّ عيد الميلاد الذي نحتفل به: سرُّ طفلٍ جديدٍ هو إلهٌ قبل الدهور! إنَّ الأمر يبدو غير معقول! ومن هنا رفضُ عقيدة التجسّد عند غير المسيحيين (في الإسلام واليهودية). ولكننا نجدها بطريقة بدائيّة، وجسديّة في الوثنية: حيث تتجسّد الآلهة، وتخالط البشر، ولها آلام البشر وشهوات البشر، وانعطافات البشر.

أمّا في المسيحيّة فهدا التجسّد هو عجيبٌ غريب، يفوق مدارك الأفهام... فهو عملٌ إلهيّ وإنسانيّ. فالكلمة يبقى كلمة ولو أنّه صار جسدًا. والجسد هو جسدٌ حقيقيّ جسد ابن الإنسان. ولكنه مدعوٌّ إلى التسامي لا بل إلى التألّه.

الكلمة صار جسدًا

بالتجسّد تقدَّس جسدُ كلّ إنسانٍ: صينيًا وهنديًا وأحمر وأصفر وأسود... عربيًا، أوروبيًا، شرقيًا، غربيًا، شماليًا، وجنوبيًا! بالتجسّد تقدَّس جسدي بكلِّ أعضائه: يديَّ ورجليَّ وعينيَّ وقلبي وكليتيَّ... بالتجسّد دخل يسوع في أحوال الناس كلّهم: المرضى والمعاقين والمتألّمين والمجرَّبين واليائسين... والخطأة والأثمة واللصوص والكبار والصغار والملوك والأغنياء والفقراء…

هذا يحقق القول: ما لم تره عين! ما لم يخطر على قلب بشر ما أعدَّه الله للذين "يحبّونه" (1 كو 2: 9) أعني  للإنسان الذي لا يستطيع أن يكتشف أبدًا هذه السعادة. بل هي دومًا موضوع شوقه. كما يقول القدّيس أغوسطينوس: "السعادة تقوم في أن تكتشف بشوق دائم إلى ما تملك".

لا يكون الله إلهًا إذا جارى في وحيه شهواتنا. وإذا لم يرفعنا إليه. لأنّ الإنسان يتوق إلى الكمال والأكمل والأبهى والأقوى. فإذن لا بدّ أن يكون الله فوق كلّ هذه الأشواق، حتّى تبقى الأشواق أشواقًا، وتبقى الآمال آمالاً، والتوقُّعات توقُّعات... وهذا هو معنى: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماويّ كامل" (متى 5: 48). ينزل الله إلينا (والكلمة صار جسدًا). ولكنه يأخذنا إليه، كما نقول في ليترجيّا القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ: "وما زلتَ تصنع كلّ شيء حتّى أصعدتنا إلى السماء وأنعمت علينا بملكك الآتي"...

والذي نزل هو نفسه الذي صعد. والذي صار جسدًا، مادة، هو نفسه يرفعنا إلى علوِّ المراقي الإلهيّة، يرفعنا إلى علوِّ التجلّي الإلهيّ!

والكلمة صار جسدًا: أعني حضارةً، لغةً، ثقافةً، أدبًا... لكي يحوِّل كلّ هذه الأرضيّات إلى سماويات. أو بالحريّ لكي يعطي لهذه الأرضيّات معاني السماويات، ويصل فيما بينها!

يقول الكتاب المقدّس: "ليس حسنًا أن يبقى الإنسان وحده. فلنصنعنَّ له شبيهًا به"! هذا الشبيه يبدو في اللحظة الأولى حواء، وهذا حقّ. ولكن الشبيه الحقيقيّ هو آدم الجديد، المسيح الكلمة المتجسِّد، وكما نقول في صلواتنا: "وإذ جعل الإنسان شبيهًا به (بولس الرسول) أبطل عنه أوجاع الموت". (ليترجيّا القدّيس باسيليوس).

كلمة الله في الكتاب المقدّس

لنسر معًا في روضة الكتاب المقدّس ولنكتشف أبعاد معاني كلمة الله، وصفاتها، وقوَّتها ومفاعيلها، من خلال كلمة الله في كتاب الله، في الوحي الإلهيّ. مع العلم أنَّ الكلمة المكتوبة في أسفار العهد القديم والعهد الجديد ليست الوحي، إنّما تحمل هذا الوحي إلى الإنسان. ولكنّها لا تحصر هذا الوحي الإلهيّ الذي لا يزال الله يخاطب البشر كلّ حين من خلاله. أجل إنه يخاطب البشر، أعني كلّ إنسان من خلال الكلمة، وهذا هو معنى العبارة التي صدّرنا بها هذه الرسالة: "الكلمة صار جسدًا". يعني أن الوحي الإلهيّ وصل إلينا، تجسّد، صار جسدًا من خلال كلمة الله، السيّد المسيح. ومن خلال كلمة الله، أعني تعاليم السيّد المسيح الكلمة الإلهيّة، كما أوردها لنا الرسل القدّيسون حينما كتبوا الإنجيل المقدَّس، بكلمات بشريّة، وبوحي الروح القدّس، وكتبوا لنا الرسائل الجميلة، لكي يقدِّموا لنا وحي الكلمة، كلمة الله، تعاليم الله للبشر. ولأجل بلوغ هذه الغاية تصفحتُ الكتاب المقدّس وها أنا أنقل أهم ما ورد فيه حول كلمة الله المقدَّسة والمقدِّسة، والتي تجسَّدت بالابن كلمة الله الوحيد.

مفاعيل الكلمة

في الإنجيل الشريف كما كتبه لنا يوحنّا اللاهوتيّ الإنجيليّ، تعبير رائع عن الكلمة ورد في أوّل آية من مطلع الإنجيل: "في البدء كان الكلمة وكان الكلمة عند الله! وكان الكلمة الله. به (الكلمة) كُوِّن كل شيء! وبدونه (بدون الكلمة، بدون يسوع) لم يكوَّن شيء مما كوِّن! والكلمة (ابن الله يسوع المسيح) صار جسدًا (إنسانًا). ورأينا مجده (الكلمة المتجسّد) مجد وحيد من الآب (كما ورد في النشيد: "يا كلمة الله الابن الوحيد الذي لا يموت") مملوءً نعمة وحقًّا (يوحنّا 1: 14 ).

والكلمة تُشبَّه بالزرع. وهي كلمة الملكوت وتزرع في قلوب الناس كلّهم. منهم من يقبلها، أيّ يقبل المسيح الكلمة وكلمته وتعاليمه؛ ومنهم من يرفضها أي يرفض المسيح الكلمة وكلمته وتعاليمه (مثل الزارع في متى 13، مرقس 4 ولوقا 8). والذي يقبل كلمة الله، تثمر في حياته قداسة وبرًّا وأعمالاً صالحة، ثلاثين وستين ومئة! (متى 13: 23).

كلمة يسوع تغذِّي الإنسان: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فمّ الله" (متى 4: 4).

كلمة يسوع تشفي: "قلْ كلمة فيبرأ فتاي" (متى 8:8) وكلمته تُخرج الأرواح النجسة من الناس وتشفي مرضاهم (8: 16).

يسوع كلمة الله المتجسّد يخاطب الجموع "بالكلمة"، يعني بذاته. يكشف لهم ذاته وتعاليمه بالكلمة، بالتبشير بالإنجيل (البشارة الصالحة). فتصبح الكلمة بشارة! يسوع نفسه هو الكلمة، هو البشارة، وهو حامل البشارة وناقلها إلى مسامع الناس (مرقس 2:2). ولكن "هموم العالم وغرور الغنى والشهوات تخنق الكلمة فتصير بلا ثمر" (متى 13: 22)

ومن خلال سماع الكلمة يصبح الإنسان قريبًا إلى الله، إلى الكلمة المتجسّد، يصبح قريبًا من يسوع: "مَنْ أبي وأمي وإخوتي؟ هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (لوقا 8: 21) .

علاقة الكلمة بالرسول

الكلمة هي الأداة التي من خلالها يصل الإيمان إلى الناس (أعمال الرسل 4:4). وعلى الرسول، أن يتفرغ لنشر كلمة الله لخدمة كلمة الله. ولا ينهمك في خدمة الموائد (أعمال الرسل 6: 2 و4). ومن خلال الرسول، لا بل من خلال كل مؤمن، لا بدّ وأن تنموّ كلمة الله في الجماعة والمجتمع (أعمال الرسل 6: 7 و12: 24 و19: 20).
لا بل لا يجوز أن ينطلق الرسول، أو ينطق بالكلمة، إلاّ إذا كان قد نال الروح القدس وامتلأ منه: "لا تبرحوا أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من العلاء" (أعمال الرسل 1: 8 ولوقا 24: 49).

وإذا ابتعد الرسول والمؤمن عن المسيح، فإنه معرَّض لكي يحرِّف كلمة يسوع ويغشّها: "لأنّنا لسنا كالكثيرين الذين يغشُّون كلمة الله... بل كما من الله نتكلّم أمام الله في المسيح" (2 كور 2:7 و4: 2).

وهكذا تصبح كلمة الله كلمة الرسول، ينطق بها، يبشر بها، يمجِّدها، يشرحها، ينادي بها. فالكلمة متصّلة دائمًا بالسيّد المسيح، لا بل موضوع الكلمة والبشارة هو يسوع. لا بل يصبح الرسول واحدًا مع يسوع، ومع كلمته وبشارته.

"قبول الكلمة" عبارة تعني قبول الإيمان المقدّس (أعمال 8: 14) وأساس كلّ بشارة هي كلمة الله: كلمات يسوع، لا بل يسوع نفسه هو الكلمة الذي نطق بكلمة الله! (أعمال الرسل 10: 36).

وتتحوَّل الكلمة إلى إيمان لدى السامعين بحلول الروح القدّس: "وفيما بطرس يتكلّم بهذه الأمور، حلَّ الروح القدس على جميع الذين كانوا يسمعون الكلمة" (أعمال الرسل 10: 44).

لا بل تصبح الكلمة تعبيرًا عن كل الوصايا وتحويها كلّها. لأنَّ الوصية إذا لم تتصل بالمسيح وبتعاليمه وبه وبكلمته، فإنها تكون فارغة، لا بل تصبح عبوديّة: "إن الكلمة قريبة منك. في فمك. وفي قلبك: أي كلمة الإيمان التي نكرز بها" (روما 1: 8 و13: 9).

كلمة الله مهذِّبة الإنسان

لا بل كلمة الله تبعد المؤمن الذي قبل الكلمة عن الكلام غير اللائق: كلمة الله تُصلح كلمة الإنسان، تطهِّرها، تنقّيها، تهذِّبها: "لا تخرج كلمة رديئة من أفواهكم. بل كلّ ما كان صالحًا للبنيان حسب الحاجة لكي يعطي نعمة للسامعين" (أفسس 4: 29) "ولتسكن فيكم كلمة المسيح. وتحاوروا فيما بينكم بمزامير وتسابيح وأغاني روحيّة مترنّمين في قلوبكم للربّ" (كولوسي 3: 16).

وهكذا تكون كلمة الله في المؤمن حقًّا متجسّدة، وأقوى من كلمة السوء والشر ومن كلمات الناس الفاسدة: "إنكم تسلَّمتم منا كلمة خير من الله وقبلتموها لا ككلمة أناس بل كما هي بالحقيقة كلمة الله التي تعمل فيكم أنتم المؤمنين" (1 تسالونيكي 2: 13). وهكذا يتقوَّى المؤمن بكلمة الله ويبتعد عن الكلام الباطل والبذيء والمبتذل والسمج والسافل...

صفات كلمة الله

صفات كلمة الله كثيرة وهي تعبِّر عن قوَّتها وتأثيرها في المؤمنين وفي المجتمع: "إن كلمة الله لا تقيَّد" (2 تيم 2: 9) "وهي كلمة الحقّ والاستقامة" (2 تيم 8: 15) إنّها صادقة" (تيطوس 1: 9) "وهي حيَّة وفعّالة وأمضى من كلّ سيف ذي حدّين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميَّزة أفكارَ القلب ونيّاته" (عبر 4: 12). وعلى المؤمن أن يكون عاملاً بالكلمة وليس فقط سامعًا لها كما ورد في مثل الزارع: "كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسكم" (يعقوب 1 :22). وهي كلمة حيَّة وكلمة الحياة: "إلى أين نذهب يا ربّ فإنَّ كلمات الحياة الأبديّة عندك؟" (يو 6: 68). ويقول القدّيس يوحنّا الرسول في رسالته الأوّلى: "الذي كان في البدء (الكلمة) الذي سمعناه (في الإنجيل) الذي رأيناه بعيوننا (بالجسد) الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة به نبشركم" (1 يو 1:1). هذه الآية تشرح بطريقة رائعة رسالتنا: الكلمة صار جسدًا! وسكن فينا! اختبرناه بكلّ حواس جسدنا: السمع والنظر واللمس.

والكلمة صار جسدًا!

سنسير أيضًا في روضة الكتاب المقدّس لكي نكتشف معاني عبارة الجسد: جسدنا وجسد المسيح. الجسد خليقة الله بأعضائه وطبيعته الضعيفة. وهذا هو الجسد الذي اتخذه كلمة الله من أحشاء مريم العذراء، والذي به اتّحد كلمة الله بطبيعة البشر، بجسد الإنسان، لكي يقدِّس هذا الجسد ويرفعه ويؤلِّهه ويجعله هيكلاً للروح القدس. ومن هنا نكتشف لاهوت الجسد وكرامته وقيمته ودعوته وقدسيته وروحانيته. وقد أعادها كلَّها المسيح إلى الانسان بتجسّده، إذ اتّحد جسده بجسد الإنسان.

وهكذا أراد الله بتدبيره الإلهيّ أن تكون علاقة الله بالبشر بواسطة الجسد. فيحبّهم  من خلال الجسد. إذ يخلِّصهم ويفتديهم من خلال آلام الجسد. ويشركهم بحياته الإلهيّة مرورًا بالجسد.

وهكذا يقول بولس الرسول: "عندما يُدخِلُ الابنَ إلى المسكونة (عند بداية التدبير الخلاصيّ للعالم) يقول: "ذبيحةً وقربانًا لم تشأ! بل جسدًا هيأتَ لي. فقلتُ هاءَنذا آتٍ لأعمل بمشيئتك يا الله" (لأتمِّم تدبيرك الإلهي) (عبر 10: 5).

وتبدأ قصَّة الجسد الفريدة في مطلع الخليقة في سفر التكوين، مرورًا بتاريخ البشريّة، حتّى تتمَّ آخر فصولها في الزمان: "وخلقهما ذكرًا وأنثى وجعلهما جسدًا واحدًا" (تكوين 1: 26، 27) "والكلمة صار جسدًا وحلَّ فينا" بحيث ما عاد الإنسان يولد بمشيئة رجل وامرأة، بل يصبح خليقة جديدة، إذ "إنّهم وُلدوا ليس من دمٍ ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله وُلدوا" (يو 1: 13) وهنا تكمن كرامة الإنسان ودعوته: إذ تشترك دعوة الانسان بدعوة كلمة الله المتجسّد. ويصبح حبّ الرجل والمرأة، ومشيئة الرجل والمرأة، وغريزة الجنس في الرجل والمرأة، تصبح كلُّها مشاركة في عمل الله الخالق، ومشروعًا نبيلاً في برنامج وخطَّة تدبير الله الخلاصيّ على البشر. ويتّحد جسد الإنسان بجسد ابن الله وكلمتِه المتجسّدة. وإذ ذاك يصرخ كلّ مولود من الجسد، من امرأة: أبّا أيها الآب! لأنّه ما عاد عبدًا ومستعبدًا للجسد، بل أصبح ابنًا ووارثًا لله بيسوع المسيح، الكلمة المتجسّد! (غلاطية 4: 4-7).

الكلمة صار خبزًا!

بعد أن أعلن يوحنّا في مطلع الإنجيل أن الكلمة صار جسدًا، تابع شرح الوحي الإلهيّ عن تجسّد الكلمة وأكّد في الفصل السادس أن الكلمة صار خبزًا. لا بل هو يسوع نفسه الكلمة المتجسّد أعلن قائلاً: "أنا الخبز الحيّ النازل من السماء! إن أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطيه هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يوحنا 6: 51).

ويضيف يسوع في خطابه في مجمع كفرناحوم، كلمات عن الجسد والخبز، لم تسمعها أذن بشريّة: "الحقَّ الحقَّ أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن البشر (أو ابن الإنسان) وتشربوا دمه، فلا حياة لكم في أنفسكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبديّة وأنا أقيمه في اليوم الآخير. لأنَّ جسدي مأكلٌ حقّ ودمي مشرب حقّ. من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه" (يو 6: 53 – 55). وتخاصم اليهود، وحتّى التلاميذ، حول معنى هذه الكلمات والتأكيدات قائلين: "كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكله؟" (يو 6: 52). ويأتي شرح يسوع ليؤكّد المعنى الحقيقيّ "الجسدي والروحي" لتعليمه حول الجسد: "الروح هو الذي يحيي. أما الجسد (وحده) فلا يفيد شيئًا. والكلام الذي كلمتكم به هو روح وحياة" (يو 6: 63) ويؤكّد لاحقًا: "أنتم تدينون بحسب الجسد" (يو 8: 15). وقبل آلامه يصلّي متوجهًا إلى أبيه: "لقد أعطيتَه (الابن) سلطانًا على كلّ جسد. لكي يعطي حياة أبديّة لكلّ من أعطيتَه" (يو 17: 2).

كلمة الله المتجسّد، يربط جسد الإنسان الذي اتخذه من أحشاء مريم، بجسده الإلهيّ. لا بل يجعل من جسده مأكلاً حقيقيًّا: "خذوا كلوا هذا هو جسدي" (لوقا 22: 19) وهكذا ترتبط كلمة الله المتجسّد بجسد الإنسان الضعيف، الذي يتقوَّى بروح يسوع: "إسهروا وصلّوا لئلا تقعوا في تجربة. لأنَّ الروح نشيط أما الجسد فضعيف" (مرقس 14: 38).

علاقة الانسان بالجسد

ويشرح يسوع علاقة الإنسان بالجسد، واضعًا القواعد للتعامل مع الجسد ليكون أداةً للروح ومرقاةً نحو كلمة الله المتجسّد. وهكذا يربط ما هنا (الأرضيّ) بما هناك (السماويّ). لا بل يربط حياته الإلهيّة بحياة الإنسان خليقته، ويدلُّ الإنسان بحكمة فائقة على السبيل الحقيقيّ لتنظيم علاقة الجسد بالروح، وحياة الأرض بحياة مجد السماء. فيقول لنا: "سراج الجسد العين. فإذا كانت عينكَ بسيطة فجسدك كلُّه يكون نيرًا. وإذا كانت عينك شريرة فجسدك كلُّه يكون مظلمًا. وإن كان جسدك كلُّه نيرًا ليس فيه جزء مظلم فيكون نيرًا كما حينما يضيئ لكَ السراج بلمعانه" (لوقا 11: 34 – 36). ويؤكد لاحقًا: "أقول لكم يا أحبّائي لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد. وبعد ذلك لا يمكنهم أن يفعلوا أكثر. ولكن خافوا ممَّن بعد أن يقتل الجسد يلقيه في جهنم" (لو 12: 4)

ويؤكد يسوع لنا عناية الآب بجسد الإنسان: "لا تسقط شعرة من رؤوسكم بدون إذن أبيكم الذي في السماوات (أعمال لوقا 12: 7). ويزيد: "الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس" (لوقا 12: 23). ونحن اليوم نفضِّل الطعام على الحياة، ونفضِّل اللباس على الجسد. يعني نقلب قيم الحياة رأسًا على عقب.

من خلال هذه الآيات المقدّسة ندرك عمق تعليم السيِّد المسيح الذي أخذ جسدنا (الكلمة صار جسدًا) لكي يعلّمنا الحياة في الجسد، وارتباط ما هو هنا (الأرض) بهناك (السماء) ارتباط الحياة بالطعام! وارتباط الجسد باللباس. وما هو موقع الطعام وما هو موقع الحياة، وما هو موقع اللباس وموقع الجسد. لا بل يربط حياة جسدنا هنا بحياته، بجسده من خلال سرّ الإفخارستيّا المقدّسة (القربان المقدّس). إذ بدون جسد المسيح لا حياة لنا في جسدنا هنا. وبدون خبز المسيح (جسده) وقيامته في الجسد، لا قيامة لنا ولا حياة لنا هناك. من هنا نفهم معنى سرّ الافخارستيّا التي نحتفل بها في الليترجيّا الإلهيّة وفيها نجد مائدتين أمامنا: مائدة الكلمة، وهي موضوع الاحتفال بليترجيّا الكلمة (المزامير والأناشيد وقراءَة الرسالة والإنجيل) ومائدة جسد الربّ يسوع، مائدة القربان، التي نشترك بها بعد اشتراكنا بمائدة كلمة الرب يسوع! وهكذا يتجسّد المسيح حقًّا كلّ مرّة نحتفل بالقداس الإلهيّ: يتجسّد أولاً بكلمته (نشيد يا كلمة الله الابن الوحيد) ويتجسّد في الخبز المقدَّس ونشترك بتجسّده من خلال المناولة المقدّسة.

بولس الرسول لاهوتيُّ الجسد

ويأتي بولس الرسول فيشرح لنا تعاليم يسوع عن الجسد. بحيث يمكننا أن ندعوه بحقّ "لاهـوتيّ الجسد" Le Théologien du corps و"فيلسـوف الجسد" Philosophe du coprs و"معلِّم الجسد" Maître du coprs .أساس تعليم بولس عن الجسد هو تأكيده: "أنتم جسد المسيح وأعضاؤه كلٌّ في منزلته" (1 كور 12: 27). "ونحن نحمل في الجسد إماتة الربّ يسوع. لكي تظهر حياة يسوع في جسدنا. لأنّنا نحن الأحياء نسلَّم دائمًا للموت من أجل يسوع. لكي تظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا المائت (2 كور 4: 10-11). وفي الرسالة إلى أهل غلاطية يقول: "لقد صلبتُ مع المسيح. وأنا حيٌّ لا أنا بل المسيح حيٌّ فيّ. وما أحياه الآن في الجسد إنما أحياه في الإيمان بابن الله الذي أحبَّني وبذل نفسه عني (بالجسد) (غلاطية 2: 20). "فلا يُعنِّني أحد في ما بعد، لأنّني حامل في جسدي سماتِ الربِّ يسوع" (2 غلاطية 6: 17) "ويمجَّد المسيح في جسدي سواء كان في الحياة أم في الموت" (فيليبي 1: 20) "فإنّ المسيح سيغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده" (فيليبي 3: 21). لأنّه أصبح بتجسّده رأس كلّ شيء وهو "البكر بين إخوته ليكون الأوَّل في كلّ شيء وهو رأس جسد الكنيسة" (كولوسي 1: 14-15). ويفرح بولس بآلامه التي هي آلام مع جسد المسيح: "إنّني أفرح في آلامي من أجلكم لكي أكمِّل ما ينقص من آلام المسيح في جسدي لأجل جسده الذي هو الكنيسة" (كولوسي 1: 24) "لا بل إنّه الرأس الأعلى في الكنيسة التي هي جسده والملء الذي يملأ الكلَّ في الكلّ" (أفسس 1: 23).

روحانيّة الجسد

إنطلاقًا من هذه الحقائق والمعطيات الأساسية حول علاقة جسدنا بجسد المسيح، وعلاقة جسد المسيح بجسدنا، نكتشف ونفهم روحانيّة الجسد وأخلاقيات الجسد وقواعد الحياة التي تنظِّم حياة الانسان المؤمن بالجسد. والمعلوم أن القدّيس بولس ينطلّق من الجسد آله الخطيئة، إلى الجسد آله النعمة.

وهذه بعض الآيات الرائعة التي هي أساس خلقية المسيحيّ المعتمد في جسد المسيح. وتخاطبه الكنيسة مع القدّيس بولس قائلة: "أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح (جسد المسيح) قد لبستم" (غلا 3: 27). وتقول له أيضًا "جسد المسيح خذوا والينبوع الذي ينضب ذوقوا" (ليترجيّا الفصح)

ويقول لنا بولس الرسول: "أيّها الإخوة لسنا مديونين للجسد لكي نعيش بحسب الجسد. لأنكّم إن عشتم بحسب الجسد فستموتون. وإن أمتم بالروح أعمال الجسد فستحيون" (رومانيون 8: 12 – 13).

ويدعونا قائلاً: "إلبسوا الربّ يسوع (جسده). ولا تصنعوا تدبير الجسد لأجل الشهوات" (رومية 13: 14). وأيضًا: "لقد دعيتم إلى الحرّيّة أيّها الإخوة. ولكن لا تجعلوا الحرّيّة فرصة للجسد، بل اخدموا بعضكم بعضًا بالمحبّة. وأقول لكم: أسلكوا بالروح ولا تكمّلوا شهوة الجسد. لأنَّ الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد. هكذا يقاوم أحدهما الآخر... وأعمال الجسد ظاهرة وهي الزنى والعهارة والنجاسة. لكنَّ الذين للمسيح فقد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات (غلاطية 5: 13-24). "ومن يزرع في الجسد فمن الجسد يحصد فسادًا. ومن يزرع بالروح فمن الروح يحصد حياة أبديّة" (غلاطية 6: 8). "وكلّ واحد سينال ما صنع بالجسد خيرًا أو شرًا" (2 كور 5: 10) "ولنا مواعيد كثيرة من الله. ولذا علينا أن نطهِّر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح مكمِّلين القداسة بمخافة الله" (2 كور 7: 1).

وهكذا فالجسد يمكن أن يكون آلة الخطيئة. ولكنه مدعوٌّ ليكون أداة وآلة للخلاص. "أما تعلمون أن جسدكم هو هيكل الروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم" (1 كور 6: 19). ولكنكم بعد جسديّين. "وأنا أيّها الإخوة لم أستطع أن أكلِّمكم كروحييِّن بل كجسدييِّن كأطفال بالمسيح. لأنكم بعد جسديّون. فإنّه إذ فيكم حسد وخصام وانشقاق ألستم جسدييِّن وتسلكون بحسب الجسد (أو البشر) (1 كور 3: 1و3).

ويستفيض بولس الرسول في الكلام عن التعاون والتضامن بين الناس متخذًا مثالاً لذلك علاقة أعضاء الجسد وحواسِّه فيما بينها. ويربط جسد البشر بجسد المسيح الذي هو رباط المحبّة بين البشر. فيقول: "كما أن الجسد واحد وله أعضاء كثيرة وكلّ أعضاء الجسد الواحد ولو كانت كثيرة فهي جسد واحد، كذلك المسيح أيضًا. لأنّنا جميعًا اعتمدنا في جسد واحد يهودًا كنا أو يونانيين، عبيدًا أو أحرارًا. وجميعًا سُقينا روحًا واحدًا. فإنَّ الجسد ليس عضوًا واحدًا بل أعضاء كثيرة..." (1 كو 12: 12-14).
ويعود إلى هذا التشبيه في الرسالة إلى الرومانيّين: "فكما لنا في جسدٍ واحد أعضاءٌ كثيرة، ولكن ليس لكلّ الأعضاء عملٌ واحد. هكذا نحن واحد في المسيح وأعضاء بعضنا لبعض كلّ واحد للآخر" (رومانيون 12: 4-5).

كرامــة الجسـد

من هذه الآيات ندرك كرامة جسدنا الذي اتَّخذه السيد المسيح، وقدّسه بتعاليمه وأسراره المقدّسة. لا بل الجسد هو موضوع إكرام خاصّ في إيماننا المسيحيّ. "أنت كريم لديَّ! عرفتك باسمك" (أشعيا). لا بل الجسد هو أداة التقديس وسبيل القدّاسة. فلا إنسان بلا كرامة أمام الله، ولا جسد مزدرى في عينيه. ولذا فكلّ إساءَة إلى الإنسان، هي إساءة إلى خالقه وإلى السيّد المسيح الذي اتخذ جسدنا وطبيعتنا البشريّة.  وأكرمها لأنّها أصبحت طبيعته. وهذا ما يقوله الأسقف وهو يرتدي الأموفوريون (أو القطعة من الثياب الأسقفيّة التي توضع على الكتف): "أيّها المسيح الإله لقد حملت الطّبيعة الضَّالة على منكبيك. ولما صعدت الى السماء قدّمتها للآب". وهذا ما ورد أيضًا في صلوات عيد الصعود الإلهيّ: "أيّها الإله جدَّدتَ بذاتك طبيعة آدم الهابطة إلى أسفل الأرض. وأصعدتها اليوم فوق كلّ رئاسة وسلطة. لأنك لحبِّكَ إيّاها أجلستها معك. ولتألمكَ فيها وأنتَ عادم التألم. مجدتها معك". (غروب عيد الصعود الإلهي).

ومن هنا نفهم قساوة كلمات يسوع أمام أية إهانة يلحقها الإنسان بأخيه الإنسان: "إنّ كلّ من غضب على أخيه يستوجب المحاكمة. ومن قال لأخيه راقا (أحمق) يستوجب حكم المحفل. ومن قال يا معتوه يستوجب نار جنهم" (متى 5: 21-22). "وإيَّاكم أن تشكِّكوا هؤلاء الصغار" (متى 18: 6).

ومن هنا أيضًا نفهم حرص السيّد المسيح على كرامة الجسد، فلا يكون موضوع شكّ للإنسان نفسه أو للقريب. وكلّنا نعرف هذه الآيات الراديكالية: "إن شكَّكتك عينك فاقلعها... إن شكَّكتك يدك فاقطعها... (متى 5: 29-30).

انطلاقًا من هذا التعليم نفهم إكرام الإيقونات وبخاصة ذخائر القديسين. نكرِّم هذه الذخائر أعني بقايا أجساد القدّيسين، لأنّ القدّيسين أكرموا الله بأجسادهم وخدموا القريب بأعمالهم المبرورة وجهاد حياتهم. وعلينا أن نقتدي نحن بهم، متذكِّرين تعليم بولس الرسول: "أما تعلمون أنّ أجسادكم هي أعضاء المسيح؟ وأنها هيكل الروح القدس الساكن فيكم؟ فمجّدوا الله إذن في أجسادكم" (1 كو 6: 15-20).

توجيـهـــات عمليــّــة

بعد استعراض لاهوت وروحانيّة الكلمة المتجسّدة، أتطرق إلى بعض التطبيقات العمليّة.

تعلُّم آيات كلمة الله

هنا أحبّ أن أشير إلى أهمية تعلّم آيات مقدّسة بخاصّة من الإنجيل المقدّس والعهد الجديد عمومًا. هذه الآيات تتعلّق بحياتنا وهمومنا ومشاكلنا وصعوبات الحياة، وفهم معانيها. وبهذا المعنى علينا أن نتعلّم من إخوتنا المسلمين حيث جرت عادة تحفيظ القرآن غيبًا، وحيث تكثر العودة إلى آيات القرآن في المواعظ والأحاديث، وتكتب آياته في أماكن مختلفة، في البيت ومكان العمل. وأيضًا البروتستانت هم مثال لنا بهذا الصدد. بأسف هناك توجّه في التعليم المسيحيّ إلى الاعتقاد بأنّ تعليم الآيات المقدّسة غيبًا (وبصمها) ليس مناسبًا للتربية الحديثة! ولكننا نتعلّم غيبًا كلّ قواعد استعمال الكومبيوتر والهاتف النقال والأنترنيت! أجل تعلم آيات الكتاب المقدّس يساعدنا في أن نحقِّق خبرة القدّيس بطرس الذي أجاب السيّد المسيح قائلاً: "إلى من نذهب يا ربّ؟ إنَّ كلمات الحياة الأبديّة هي عندك" (يو 6 : 68).

لا بدَّ من الإشارة إلى أهمية تجسيد كلمة الله، بحيث تصبح قريبة إلى الناس، جميلة، جذابة، نيّرة ومنيرة ومحبوبة ومحبّبة، توصل إلى قلوب الناس سحرها وجمالها وبهاءَها وتألقها وقوَّتها وقوة الإقناع التي فيها. وهذا يبيّن أهمية الوعظ والإرشاد والسهرات الإنجيليّة والاجتماعات مع الأخوّيات والشباب وإرشادهم إلى اكتشاف كلمة الله بأنفسهم من خلال قراءَة كلمة الله، والتأمّل فيها. وهنا تبدو أهمية الكاهن الذي يصبح للمؤمن رفيقًا وأخًا وصديقًا ومرشدًا وأبًا روحيًا. وكأنه يمسكه بيده ليقوده في مواقع وفردوس وجنائن كلمة الله. حقًّا إنَّ كلمة الله تتجسّد من خلال الكاهن والراهب والراهبة ومعلم التعليم المسيحيّ وقادة الفرق والأخوّيات المختلفة الأسماء في رعايانا...

كلمة الله: كلمة الحياة

من الضروري أيضًا أن نختبر بذواتنا وفي حياتنا اليوميّة أن كلمات الكتاب المقدّس هي كلمات موجَّهة إلينا، إليًّ أنا شخصيًّا. وإنّني أجد فيها حقًّا أجوبة لكلّ تساؤلاتيّ ومناسبةً لكل ظروف حياتيّ الشخصيّة والعائليّة والمهنيّة والمجتمعيّة والعلميّة والوجدانيّة... وفي علاقاتي مع الآخرين، من ديني وغير ديني، وفي القضايا الأخلاقيّة والتعامليّة والحواريّة والعاطفيّة...

وهذا ما نجده في عظة الجبل، وفي أمثال يسوع وعجائبه وتعامله مع الناس، مع الخطأة والمهمَّشين والمرضى والمتشكِّكين والمتكبِّرين، والمهملين والوحيدين والمنعزلين والمعوَّقين والمقعدين والفرِّيسيين والصدّوقيين والوثنيين واليونان والرومان والحكَّام والظَّالمين والفقراء والأغنياء والتجَّار وأصحاب البنوك ورجال الأعمال والموظَّفين وجباة الضرائب والجمارك. ومع قيم ومفاهيم الصلاة والصوم والصدقة والإيمان والثقة والمحبّة والرجاء والخدمة والعطاء والتعاون والتضامن والإبداع والكمال والأكل والشرب، والزواج والبتوليّة والألم والمرض والموت والبغض والحقد والنميمة، والعناية الإلهيّة والمحبّة الأخويّة، والخصام والمحاكم، والأهل والأقارب، والثأر والتسامح والمسامحة والغفران ومحبة الأعداء، والتعامل مع الطبيعة ومع الزهور والثمار والحصاد والزرع والأشجار والقطاف والعنب والزيتون... والماء والنار والنور والخمر والزيت، والخلوة مع الذات والتعامل البشريّ مع الناس، ومع الخصم ومع العدو ومع الصديق والحكم والحاكم الظالم... والسلسلة طويلة شاملة جامعة مانعة...

لكلِّ هذه نجد آية مناسبة في كلمة الله!

خبرة كلمة الله

علينا أن نكتشف كلّ ذلك بذواتنا، من خلال قراءَة الكتاب المقدّس، وشروحاته، والرجوع إليه باستمرار وتواتر والتأمّل فيه. علينا أن نكتشف أن الكلمة صار جسدًا، حقًّا جسدًا! إنّه كلمة لي! إنه أخذ جسدًا كجسدي! إنه تأنس! تجسِّد! إنه يعرف ما في الإنسان، ما في فكره، في قلبه. يعرف همومه، إهتماماته، حاجاته، ضعفه، طموحاته، آماله، تطلعاته، عواطفه! إنه يحبّ الإنسان، يكرِّمه، يقدِّره، يفهمه، يريد له الخير والحرّيّة والتقدّم والنّجاح والكمال والسعادة والفرح... ونقول في صلوات عيد الجسد "إنَّ المسيح أحبَّ خاصته وإلى الغاية أحبّهم..."(يو 13: 1) ونردّد في صلواتنا أنه الإله الرحيم العطوف أبو المراحم المحبّ البشر... إنّه الصديق والأخّ والمخلِّص والشافي والمرشد...

ما أجمل الساعة التي فيها يمكن أن نصرخ حقًّا بقناعة شخصيّة مردِّدين قول بطرس "إلى من أذهب يا ربّ؟ إن كلمات الحياة الأبديّة هي عندك" (يو 6: 68).
ولا يجب أن نقلِّل من أهمية الأهل والبيت في هذا المضمار. فإنهم هم المربُّون الأوَّلون، وخصوصًا من خلال التربيّة على الصلاة والإشارات والرموز الدينيّة وإكرام الإيقونة في البيت ومرافقة الأولاد إلى الكنيسة أو إلى اجتماعات روحيّة أو للمشاركة في الأخوّيات.

أجل كلنا بمجرّد قبولنا كلمة الله في الإيمان والمعمودية المقدّسة وباقي الأسرّار، أصبحنا مسؤولين عن كلمة الله وعن نشرها وحملها إلى الآخرين، ابتداءًا من البيت، وإلى الحارة والجار والأقرباء والمعارف وإلى الذين ليسوا من ديننا...

كلمة الله: كلمة للناس

في العنصرة حدث عجيب! حلَّ الروح على التلاميذ وشعر بالحدث حجاج كثيرون من اليهود أتوا القدس بمناسبة عيد العنصرة والأسابيع اليهوديّ. وتدفقوا إلى علِّية صهيون حيث كان التلاميذ مجتّمعين بعد صعود السيد المسيح منتظرين موعد الآب أي حلول الروح القدس. وانطلق لسان الرسل بعد أن حلَّ عليهم الروح بهيئة "ألسنة ناريّة" دلالة على أهمية اللسان والنطق واللغة والكلام في حمل بشارة يسوع: "في كلّ الأرض ذاع منطقهم وإلى أقاصي المسكونة كلامهم" (مز 18/19: 1).
وكلَّم الرسلُ الجموعَ المحتشدة حولهم بكلام الله، ولكن بلغةٍ واحدة. ولكن الحاضرين وهم من جنسيات وبلاد ولغات مختلفة، يقول لوقا الرسول، "سمعوهم يتكلّمون كلّ واحدٍ بلغته التي ولد فيها..." فكلمة الله واحدة ولكنها لكلّ الناس، وتطالهم كلاً في حضارته ولغته وثقافته وخصوصيته.

وعندما تكون الكلمة حقًّا كلمة الله، فإنّها تطال كلّ الناس وتصبح كلمة للناس. وهذا هو التحدّي الأكبر في الوعظ والإرشاد، وكتابات الرعاة ومواعظهم، ووثائق السلطة الكنسية... التحدّي الأكبر هو كيف نفهم كلمة الله، وننقلها للناس، بحيث تبقى حقًّا كلمة الله (بدون غش أو تشويش أو تحويل...) ولكنها تلامس كلام الناس، وتصل إلى مفهوم الناس وعقليتهم، وفكرهم... ومع ذلك ترفع هذا الفكر وتغيِّر هذه العقليّة، بحيث تنسجم كلمة الناس مع كلام الله، وتلامس كلمةُ الناس كلامَ الله. ويتمّ ما قاله بولس الرسول: "أمّا نحن فعندنا فكر المسيح" (1 كو 2: 16).

الكلمة ليست لي بل للذي أرسلني! الكلمة ليست ملكي، بل الكلمة التي أوحِيَت لي! ويجب أن لا أتكّلم بها وكأنها من عندي!

الكلام الذي أتكلّم به هو حياة: إذهبوا واكرزوا بالكلمة!

كلمة الله الموجهة إلينا تحتاج إلى تحويل Epiclèse  لكي تصبح كلمتي وكلمة الآخر وكلمة العالم والمجتمع. الروح القدس يحوِّل كل شيء.

التحويل هو سرّ المسيحيّة!

لا بل الكلمة تُوحِّد بين الناس. وهذا معنى الكلمة صار جسدًا. الجسد ضعيف. ممزَّق. مبعثر. فيه تجاذبات مختلفة، لا بل متناقضة. ولذا يصرخ بولس الرسول: "من ينقذني من جسد الموت هذا" (رو 7: 24). الكلمة صار جسدًا "ليجمع ما قد تفرَّق ويخلِّص ما قد هلك" (يو 11: 52). يعني يجمع أشلاء الجسد. أعضاء الجسد، يوحِّد الجسد. الجسد يحتاج إلى كلمة الله، لكي يوحِّد قواه ويوجِّهها نحو الله. الكلمة إذًا تعني الوحدة والقوّة الموحِّدة وتعني الأزليّة والأبديّة (في البدء كان الكلمة). الكلمة تعني ما هنالك، ما بعد هنا. والجسد يعني ما هو هنا. ولهذا فإنّ تجسّد الكلمة هو عمل جمع ما هنا إلى ما هناك.

الليترجيّا: الاحتفال بكلمة الله المتجسّد

لا بدّ من الإشارة إلى علاقة الكلمة والجسد بالليترجيّا الإلهيّة وبباقي الصلوات الطقسيّة. فإنّ الصلاة مهما كان نوعها هي تواصل مع كلمة الله. وفي الواقع صلوات المسيحيّين الأوائل كانت مركَّزة خصوصًا على المزامير وعلى قراءَة الأسفار المقدّسة والإنجيل المقدّس وأعمال الرسل والرسائل. وكان الكاهن يشرح كلمة الله في أثناء الصلوات وبخاصّة القداس الإلهيّ. ومع الوقت وضع ناظمو الأناشيد أناشيدهم وهي تأمّل إنشاديّ في كلمة الله.

ويمكننا أن نضع هذا التسلسل: الآباء القدّيسون قرأوا كلمة الله. تأمَّلوها. تغذَّوا منها. وعظوا الشعب بها في مواعظهم ومؤلفاتهم. وأتى الرهبان خاصّة فوضعوا كلمة الله وبعض المواعظ الشهيرة بصيغة أناشيد مختلفة في أعياد السيّد والسيّدة وأحداث الخلاص وأعياد القدّيسين ومدائحهم. ويمكننا أن نظهر هذه العلاقة بأن نضع هوامش لكلّ صلواتنا مشيرين إلى مراجعها الكتابية. وقد فعلنا ذلك في كتاب الليترجيّات الإلهيّة. وهذا يُظهر بوضوح رائع العلاقة بين صلاة المؤمن وكلمة الله المقدَّسة.
من هنا أهمية الاحتفال الجميل واللائق والواضح والحيّ والمنعش والمنتعش والجذّاب بمجمل الصلوات الطقسيّة، بحيث تكون حقًّا غذاء روحيًّا جوهريًّا للكاهن وللشعب بكلّ فئاته.

من هنا بنوع خاصّ أهمية اللفظ الجميل والقراءَة الواضحة الفصيحة والترنيم المتقن الفنّي الجمالي، للأناشيد وللرسائل والانجيل المقدس. وعادة في طقسنا يغلب الترنيم على القراءَة. حتى عبارة قراءَة تفترض نمطًا من الموسيقى أو الإيقاع الكلامي، مما يساعد على فهم كلمة الله وتذوّقها والتأمُّل فيها.

من هنا أهميّة الانعاش الليترجيّ الذي ما فتئنا نشدِّد عليه منذ استلامنا رئاسة اللجنة الليترجيّة منذ عام 1986، وبعد انتخابنا بطريركًا، وعلى أثر نشر الكتب الطقسيّة بحلَّة جميلة، في النصوص والترانيم الطقسيّة المختلفة. بحيث تتوفَّر لدينا عناصر "موسوعة طقسيّة" للروم الملكيّين الكاثوليك. وهذا تراث نشكر الله عليه ونفتخر به ونريد أن يكون حقًّا غذاء روحيًّا جوهريًّا لجميع المؤمنين إكليروسًا وشعبًا.

كلمة الله والحوار الديني والإيماني

المجمع الفاتيكانيّ الثاني أعطانا القاعدة الذهبيّة للحوار الدينيّ أعنى اكتشاف الخيور عند الآخر. وهذا ما ورد في وثيقة المجمع:

العلاقة بالديانات الوثنيّة

"على هذا المنوال تجتهد أيضًا سائر الديانات الموجودة في العالم كلّه في أن تجيب بطرق متنوعة على قلق قلوب البشر، بعرضها السبل أي التعاليم وقواعد الحياة وطقوسها المقدّسة".

"فالكنيسة الكاثوليكية لا ترذل شيئًا مما هو حقّ ومقدّس في هذه الديانات. بل تنظر بعين الاحترام والصراحة إلى تلك الطرق، طرق المسلك والحياة، وإلى تلك القواعد والتعاليم التي غالبًا ما تحمل شعاعًا من تلك الحقيقة التي تنير كل الناس، بالرغم من أنها تختلف في كثير من النقاط عن تلك التي تتمسَّك بها هي نفسها وتعرضها. ولذا فهي تبشِّر وعليها أن تبشِّر بالمسيح دون انقطاع، إذ إنّه هو "الطريق والحقّ والحياة" (يو 14/6) "فيه يجد الناس كمال الحياة الدينيّة وبه صالح الله في كلّ شيء" (2 كو 5: 18-21). فهي تحثُّ أبناءها على أن يعرفوا ويصونوا ويعزّزوا تلك الخيور الروحيّة والأدبيّة، وتلك القيم الاجتماعيّة والثقافيّة الموجودة لدى الديانات الأخرى، وذلك بالحوار والتعاون مع أتباع هذه الديانات بفطنة ومحبة وبشهادتهم للإيمان وللحياة المسيحيّة".

العلاقة مع الإسلام

"وتنظر الكنيسة بعين الاعتبار أيضًا إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد الحيّ القيوم الرحيم الضابط الكلّ خالق السماء والأرض المكلّم البشر. ويجتهدون في أن يخضعوا بكليتهم حتّى لأوامر الله الخفيّة، كما يخضع له إبراهيم الذي يُسند إليه بطيبة خاطر الإيمان الإسلاميّ. وأنهم يجلّون يسوع كنبيّ وإن لم يعترفوا به كإله، ويكرّمون مريم أمه العذراء كما أنهم يدعونها أحيانًا بتقوى. علاوة على ذلك إنهم ينتظرون يوم الدين عندما يثيب الله كلّ البشر القائمين من الموت، ويعتبرون أيضًا الحياة الأخلاقيّة ويؤدّون العبادة لله لا سيّما بالصلاة والزكاة والصوم.

"وإذا كانت قد نشأت، على مرّ القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيّين والمسلمين، فالمجمع المقدّس يحضّ الجميع على أن يتناسوا الماضي وينصرفوا بإخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعزّزوا معًا العدالة الاجتماعيّة والخيور الأخلاقيّة والسلام والحرّيّة لفائدة جميع الناس".

العلاقة مع اليهوديّة

"إنّ المجمع المقدّس، إذ يتقصى سرّ الكنيسة يذكر الرباط الذي يربط روحيًّا شعب العهد الجديد بذرية إبراهيم".

"وبما أن للمسيحيّين ولليهود تراثًا مشتركًا وساميًا، يريد هذا المجمع المقدّس أن يوصي بالمعرفة والاعتبار المتبادلين وأن يعزّزهما بين الاثنين؛ ويحصل ذلك خصوصًا بالدروس الكتابيّة واللاهوتيّة وبالحوار الأخويّ".

الحوار بين المسيحيّين والمسلمين

هلّموا إلى كلمة سواء! فلنتخاطب بكلمات إيماننا الجميل. لأنّ الكلمة التي أعطاني إياه الله في إيماني المسيحيّ هي لي. ولكن ليست لي فقط! هي لمجتمعيّ، لإخوتيّ البشر! عليَّ أن أحملها لهم نورًا! محبّة! إشعاعًا! دعوة محبّة! علامة رجاء للآخر لكي ينموّ في دينه ومعتقده ويتعمّق فيه، وليس لكي يحتقره أو أنا أحتقره!
إنه من الأهمية على جانب كبير أن يُحبَّ كل إنسان دينه، "كلمة الله" له. ويتعرّف عليه، ويتعمّق فيه، ويحافظ عليه ويدافع عنه. ولكن عليه أن يكون منفتحًا على الآخر وعلى معتقده وإيمانه. وإلاّ وقعنا في النسبيّة التي هي أكبر أعداء الإيمان.

يسوع يدعونا إلى التبشير به قائلاً: "إذهبوا إلى العالم أجمع. وتلمذوا جميع الأمم" (متى 28: 19). ويحرّضنا بولس الرسول مخاطبًا تلميذه ثيموتاوس: "بشِّر (بالكلمة) في حينه وفي غير حينه" (1 تيم 4: 2).

لا احتكار لكلمة الله! إنها لي وللآخر! عالمنا المسلم يخاف التبشير! ولكنّه يدعو إلى التبشير بالإسلام. هذا موقف غير معقول. إننا نطالب مواطنينا المسلمين أن تعطى لنا حرّيّة حمل البشارة الصالحة إلى الآخر، بمحبّة واحترام، وتقدير لإيمان الآخر. ولا نطلب من الآخر أن يعتنق إيماننا! يكفي أن يكتشف إيماننا، ويقدّره، ويحبّه. أما الهداية فهي عمل الله. لا تهدِ حبيبًا! الله يهدي من يشاء!

كلمة الله لي هي وحيُه لي! ولكنها ليست لي فقط! بل علينا أن نشارك الآخر فيها. علينا أن يكون بيننا خبز وملح! ولا يُهمّني الخبز والملح والقهوة بيننا! بل يُهمّني كيف نتقاسم كلمة الله في المسيحيّة والإسلام واليهوديّة. كيف نغذّي بعضنا بعضًا بكلمة الله! لأنّ كلمة الله هي الخبز الجوهريّ (أعطِنا خبزنا الجوهري). صلاة الأبانا هي دعوة إلى المشاركة بكلمة الله!

نشكر الله على العلاقات الكثيرة الجميلة بين المسيحيّين والمسلمين، بخاصّة في الحياة اليوميّة. ولكنّني أطلب أن نشارك بكلمة الله! هذا ما يجمعنا! و يوحِّدنا! ويقوّينا! ويقوّي إيماننا! لا نخف أن نحبَّ كلمة الله عند أخينا! لا نخف من الآيات القرآنيّة ولا نخف من آيات الإنجيل المقدّس! أو التوراة! إنّها كلمة الله لنا كلّ حسب دعوته. وأقول لإخوتي المسلمين لا تخافوا من إيماننا. بل بالحريّ علينا أن نخاف من كلماتنا الحاقدة! الناقدة! المتكبرة! المتعالية! كلمة الله لا تحتقر! لا تتكبر! لا تنتفخ! لا تتباهى. لا تفرح بالسوء بل تفرح بالحقّ. لا تحبّ الإساءة! لا تفرح بالظلم! بل تفرح بالحب! تصدّق كل شيء (1كو 12).

كلمات الله وكلمات الناس

لنحبَّ كلمة الله. فإنَّ كلمات الله لنا جميعًا! فلنتقاسمها ولنتغنِّ بها! ولنحبّها! ولتكن لنا كلمات لودّنا وعيشنا المشترك وتعايشنا! وتواصلنا! بدل أن نتغنّى بكلمات المجاملة الفارغة والكاذبة والمتملّقة. فلنتغذَّ بها ولنغذِّ بعضنا بعضًا بأجمل كلمات الأرض، ألا وهي كلمات السماء! كلمات الله لأبناء البشر. فالله غنّي وكلماته كلمات منعشة لنا كلنا! لا نخف من كلمات الله بل لنخف من كلمات الناس! ولنعمل لكي تتحوّل كلمات الناس إلى كلمات الله!

أقترح أن نؤسس منتدى باسم "منتدى كلمة الله" حيث يجتمع مسيحيّيون في ما بينهم ومسيحيّون ومسلمون. ويتحاورون حول كلمة الله.

غيرتنا على كلمة الله يجب أن تكون أولاً أداة لتقديسنا وتعمُّقنا في إيماننا. ولا يجوز أن تتحوّل غيرتنا على كلام الله وتعاليمه أداة وسلاحًا لاستغلال الآخر، أو الحكم عليه أو اضطهاده أو إرغامه على اعتناق ديننا. كما لا يجوز أن تصبح كلمة الله مصدر صراع بين المؤمنين وأصحاب المعتقدات المختلفة، ولا أن تصبح أداة إرهاب أو مفاضلة باطلة.

فكلمة الله هي الحَكَمُ وليس نحن، بالنسبة لمن لا يؤمن بإيماننا.

ولماذا نخاف من الكنائس والجوامع! إذا كانت علامة تحدٍ فهي تُخيف! ولتكن علامات إيمانٍ! تبعث الأمل والرجاء بدل الخوف.

ولماذا تخاف السعودية من كنيسة أو من الإنجيل عندها؟ أو من صلاة المسيحيّين في الجماعة؟ من هو في النور لا يخاف شيئًا!

لا نخف! النبي محمد لم يخف من الوجود المسيحيّ واليهوديّ! بل حارب الوثنية علنًا. واليوم كلنا، مسيحيّين ومسلمين، علينا أن نحارب الوثنية المعاصرة، والشرك والكفر.
وأقول لإخوتي المسلمين لا تخافوا من إيماننا. بل خافوا من عدم إيماننا! من عاداتنا التي لا تحبّونها. ولاخوتي المسيحيين أقول: لا تخافوا من المسلمين المؤمنين الذين يحفظون كلمة الله!

عيد الميلاد: عيد الكلمة المتجسِّدة!

لا يكفي أن نتغنّى بأعيادنا، وبإيماننا، وبطقوسنا، ولا بعيد الميلاد بالذات، ولا بهذه العبارة موضوع رسالتنا الميلادية لهذا العام 2007 "الكلة صار جسدًا".
عيد الميلاد هو عيد الكلمة، يسوع، الذي صار جسدًا. السؤال لا بل التحدّي لنا جميعًا: كيف يصبح الميلاد عيدًا لي، حقيقةً في حياتي؟ كيف تتجسّد كلمة الله في نفسي وعقلي وضميري وفكري وأخلاقي وحياتي؟ يعني كيف تتحقّق كلمة الله في حياتي، فتصبح لي جسدًا، أي لحمًا من لحمي وعظمًا من عظامي؟ كيف تصبح كلمة الله المتجسّدة، حقًّا جزءًا من قناعاتي الشخصيّة الوجوديّة؟ والتحدّي الآخر المماثل للتحدّي الأوّل: كيف أصبح أنا كلمة متجسّدة في مجتمعي؟ كلمة روحية للآخر؟ كلمة خلاص وتعزية ومحبّة وحدبًا وفداء، خبزًا وغذاء؟ كيف أصبح أنا سبب خلاص لأخي؟
كيف نُجسِّد الكلمةَ للآخر؟ كلمة الله – الكتاب المقدّس – لاهوتنا، عقائدنا، قانون إيماننا، عباداتنا الشعبية، لكي لا تفهم بنوع خاطئ ولا تُحرَّف!
إنَّه لمجهود كبير على المؤمن أن يشرح إيمانه، أن يقدّمه للآخرين. للمسلم، لليهوديّ، للبوذي... لغير المؤمن، للملحد، للعائش على هامش الكنيسة، وينتقدها وتعاليمها وأسرارها ورموزها.

كيف نعبِّر عن "الرجاء الذي فينا" (1 بطرس 3: 15) لكي يصبح رجاءً للآخرين، ليس شكًا وعثرة (الصليب عند الهالكين جهالة... عند المخلّصين قوة الله وحكمته) ( 1كو 1: 23-25) كيف نتحاشى هذه المأساة؟

مع العلم أن شرح إيماننا للآخر يقوّي إيماننا ويعطينا الأمن والأمان... إلى هذا تدعونا صلواتنا: "على المؤمن أن يشرك الجاهل بالكلمة. وهكذا نكون وكلاء أمناء للنعمة" (سحر الثلاثاء من الأسبوع العظيم المقدس). هذه هي المحبّة الحقيقيّة للقريب: أن نحبّ خيره الروحيّ. تقدُّمَهِ في محبّة الله، في الإيمان، في الرجاء، في المحبّة، في الحياة الروحيّة، في الفضيلة.

وإذ ذاك تتحسن علاقاتنا مع الآخر، وتتوطَّد، وتتعمّق، وتكون حقًّا للبنيان (كما يقول بولس الرسول: كلُّ ما يصلح للبنيان...) (2 كو 10: 8)
الميلاد في العالم

كيف أدخل أنا في معاني عيد الميلاد الحقيقيّة، وأصبح أنا عامل ميلاد جديد في مجتمعي، في أسرتي، في حارتي، في مكان عملي؟ كيف أصبح عيدًا حقيقيًّا للآخر، كلّ آخر حولي؟ وكيف تصبح وتصير الكلمة جسدًا! هذه الآية تطرح اليوم في مجتمعنا حيث التطلعات والآمال والأشواق والرغبات والمشاريع والأماني كثيرة والقرارت الدوليّة والاقليميّة والمحليّة كثيرة، على مستوى العالم والدول ومجتمعنا العربي، وفي الكنيسة وفي كل مجتمعاتنا، وبخاصّة لدى الشباب! كيف تصبح هذه كلّها جسدًا؟ كيف يصبح السلام جسدًا؟ كيف تصبح العدالة جسدًا؟ كيف تصبح المصالحة بين الشعوب جسدًا؟ كيف يصبح السلام بين اليهود والعرب والفلسطينيين جسدًا؟ كيف تصبح آمال شبابنا جسدًا؟

لا يمكننا أن نجيب على هذه الأسئلة. ولكننا وضعنا أُسسًا لإيجادها كلٌّ في محيطه. وفي ختام هذه الرسالة الميلاديّة أصوغها دعاءً وأماني وبرامج عمل، ونرفعها كلّها إلى طفل مغارة بيت لحم، لكي يباركها، ويحوِّلها إلى جسد، إلى حقيقة!

ونرفع هذه النيّات المذكورة إلى رؤساء الدول العربيّة لكي تكون لهم برامج عمل في روزنامة العام 2008! وبخاصة برنامج سلام في فلسطين والعراق. وكلّنا نعرف أنّ سلام القدس وسلام الأرض المقدّسة هو مفتاح الحرب والسلم في المنطقة وفي العالم أجمع.

إنَّ شعوبنا كلّها، وبخاصّة الشباب، بحاجة إلى تجسيد أماني السلام والعدالة والأمن والأمان، وإلى ترجمتها إلى واقع حياتيّ. وإلاّ فإنّ المزيد من العنف والإرهاب والأصوليّة السلبية، والقتل والدمار والاغتيالات سيكون نصيب العالم، وسبب الويلات والحروب والنزاعات والعداوات والصراعات والأزمات.
نطلب من يسوع المخلّص طفل المغارة الإلهيّ المتجسّد لأجلنا ولأجل خلاص جميع البشر، إنه هو أمير السلام ومانح السلام، أن يحقّق أمانينا جميعًا وأماني قرائنا وكل رعايانا، ويعطينا أن ننشد بفرح وأمل وإيمان ورجاء نشيد الميلاد المقدس:

"المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة"

غريغوريوس الثالث

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريّة وأورشليم








All the contents on this site are copyrighted ©.