2007-09-03 15:46:01

البطريرك صفير يتحدث عن العائلة وما أصابها من تفكك جراء التحرر المزيف


ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير قداس الاحد في كنيسة الصرح البطريركي في الديمان، وألقى عظة بعد الانجيل المقدس بعنوان :"ايمانك خلصك، اذهبي بسلام" ومما جاء فيها:

يتحدث الانجيل اليوم عن امرأة خاطئة، جاءت الى يسوع الذي كان مدعوا الى تناول الطعام على مائدة احد الفريسيين. وكان الفريسيون يتبعون مذهبا دينيا متشددا في الحفاظ على شريعة موسى، وسنة الاقدمين، في امور الطهارة، ومراعاة يوم السبت، واداء العشر، وما شابه. وكان ينتمي اليهم كثيرون من الكتبة. لكن يسوع اخذ عليهم رياءهم، وكبرياءهم، وتعلقهم بالالفاظ. دون المعاني، وقسوتهم على الشعب. وصادق الصالحين من بينهم لحفظهم الشريعة دونما كبرياء. وكان بولس الرسول من هذه الفئة، التي تضطهد الكنيسة، قبل اهتدائه الى المسيحية. وعمدت المرأة الخاطئة الى قارورة طيب كانت معها، فجلست عند قدمي يسوع، وراحت تغسلهما بدموعها، وتمسحهما بشعرها، وتقبلهما، وتدهنهما بالطيب. لكن الفريسي، مضيف السيد المسيح، قال في نفسه: "لو كان هذا الرجل، اي يسوع، نبيا، لعلم ان هذه المرأة التي تلمسه هي خاطئة". وعلم يسوع بما كان يفكر به مضيفه، فقال له: يا سمعان، ان احد الناس أقرض رجلا خمسمائة دينار، ورجلا آخر خمسين دينارا. ثم ترك لهما دينهما لعجزهما عن الدفع. وسأله: ايهما اكثر حبا للمدين. اجاب الفريسي: الذي ترك له المبلغ الاكبر. فاجابه يسوع: حكمت بالحق. وتابع يقول، بعد ان التفت الى المرأة، وقابل بين ما فعلت ليسوع لثلاث مرات، وما لم يفعله سمعان، وقال:" اولا: انت، يا سمعان، دخلت بيتك، فلم تسكب على قدمي ماء، واما هي فبلت قدمي بدموعها ومسحتهما بشعرها. ثانيا: انت ما قبلتني، وهي لم تكف عن تقبيل قدمي. ثالثا: انت ما دهنت رأسي بزيت، وهي دهنت قدمي بالطيب. واضاف:" لقد غفرت لها خطاياها الكثيرة، لانها احبت كثيرا". وغفر للمرأة خطاياها. اذ ذاك تذمر الجالسون على المائدة، وقالوا في انفسهم: من هذا حتى يغفر الخطايا؟ وقال للمرأة:" ايمانك خلصك، اذهبي بسلام". وننتقل الى الحديث عن العائلة، وما اصابها من تفكك من جراء التحرر المزيف.

التلاعب باللغة

في ما يدور من جدل حول احترام الحياة، وحول العائلة، والزواج، ان قضية اللغة يجب النظر اليها عن كثب. هناك عقبتان تجب مواجهتهما. وهو ان معاني الالفاظ يمكنها ان تتغير بحسب قصد المتكلمين. ولنأخذ مثلا: الاجهاض. ان تحديده يمكن ان يتغير بحسب قصد المشترع. والاجهاض يعني اخراج الجنين اراديا. ويجب الرجوع الى مفهوم لغة تخضع لوقائع واعمال تدل عليها. واذا كان الزواج واقعا طبيعيا. فلا يمكنه ان يكون "عقدا معلقا بارادة متغيرة". ولكن الصعوبة التي تكمن في اللغة في ما خص الزواج، نجدها ايضا على الصعيد اللاهوتي والعائلة. وعندما اراد الله ان يكشف عن ذاته للناس، استعمل لغة الناس، وهي لغة تعبر عن خبرة البشر لكي ينفسح لهم المجال ليحاولوا فهم شؤون الايمان على نوره تعالى، ويدركوا بعضا من سر الله. وقد اظهر الله ذاته أبا، ونعلم ما هي الابوة البشرية، ولكن الابوة الالهية هي اغنى بما لا يحد من الابوة البشرية. وبما ان اللغة قد اصبحت سلاح قتال، ضد العائلة والحياة، علينا ان نتوقف عندها، وان نرى كيف بامكاننا ان ندخل عليها روح الانجيل.

ان شرعة حقوق الانسان المعلنة 1948 قد دشنت عهدا جديدا في ما يخص الاعتراف بالحقوق الانسانية. ان البابا يوحنا بولس الثاني، في رسالته الاولى: فادي الانسان، لاحظ "ان اعلان حقوق الانسان بالارتباط مع مؤسسة تنظيم الامم المتحدة، لم يهدف فقط الى تجاهل الاختبارات المفجعة التي حدثت في الحرب العالمية الاخيرة، بل الى ايجاد قواعد لاعادة النظر باستمرار في المناهج، والطرق، والقواعد، انطلاقا من نقطة اساسية واحدة، وهي رفاه الانسان، او فلنقل الشخص في المجموعة، الذي، بوصفه عاملا اساسيا للخير العام، يجب ان يشكل النقطة الاساسية لجميع المناهج، والطرق، والانظمة.

ان عصرنا قد اعطى الشريعة اتجاها جديدا، على الصعيد الدولي، فجعل منها اداة موضوعة في متناول جماعات، وافراد، ترغب في صياغة مطالب محقة تعبر عن حقوق غير معترف بها بعد. وكان الاتجاه سابقا، في مثل هذه الحالة، يحدث تغييرا اساسيا في طابع القانون الدولي واهدافه. وكان هدف هذه الشريعة الاساسي حكومة الدول واستقلالها. والحال، ان القانون الدولي ركز مؤخرا على مسلك الاشخاص، وتصرفهم، ومواقفهم، وعلاقاتهم داخل الدول.

والعهد الجديد رافقه ظهور تعبير دولي جدي بغية تسهيل تقدم الحقوق المعنية. وتجدر الملاحظة، في هذا المجال، ان مؤرخين كثيرين ورجال علم وسياسة قد اعترفوا ان القسم الاول من القرن الثامن عشر عرف عددا من الفلاسفة استعملوا لغة القانون الطبيعي لبعدهم عن الله، وقد اصبحوا في النصف الثاني من القرن عينه ملحدين يستعملون لغة المنفعة.وكان منهج عصر الانوار يجمع العلمانية، والدهرية، والحرية، وكانت هذه تعني التحرر من السلطة المستبدة، فسادت حرية الكلمة، وحرية التجارة، وحرية تحقيق المواهب الخاصة، والحرية بالنسبة الى القواعد الجمالية، وبكلمة، حرية الانسان الادبي ليشق له طريقا خاصا في العالم. وساد، نوعا ما، الحق المزعوم بقطع الصلة بين الايمان والاخلاق. وهذا ما كان في اساس هذه الحرية: وكان الهدف من ذلك جعل المسلك الادبي لكل فرد مسلكا اكثر فاكثر فرديا, ومحررا من كل علاقة بقاعدة موضوعية خارجية. وحدثت قطيعة بينة ومتعمدة بين المسلك الادبي الفردي والجماعي من جهة, والميراث المسيحي العادي من جهة ثانية, وهي قطيعة تمت في مناسبة اعلان الكاتب الشهير روسو الذي قال "ان على الدولة ان تتحرر من مفهوم الزواج بوصفه سرا, وان تعتبره عقدا مدنيا قابلا للفسخ". وليكون الانسان حرا, على ما قال هؤلاء الفلاسفة, رجلا كان أم امرأة, يجب ان يتحرر من الآداب والقواعد الاجتماعية الملزمة التي فرضها الزواج, والعائلة, وما يوجبانه على الانسان من مسؤوليات.

 وفي هذه السنوات العشرين الاخيرة التي كانت مسرحا لتعاظم المطالبة بالحقوق تحت تأثير المنظمات الدولية, وبعض الافراد الذين طالبوا بالحرية الجنسية, واباحة العلاقات الزوجية, والقبول بتحديد العائلة التي لا تقوم على علاقة حصرية وأمينة بين الرجل وامرأته, راجت الحقوق التي لا ضابط لها باللجوء الى ما يمنع الحمل, والاجهاض, ووسائل الانجاب الاصطناعية. وكل هذه الحقوق المزعومة دافع عنها مروجوها, ولا يزالون يدافعون عنها, وذلك بلغة معسولة لا تخلو من ابهام وغموض.
وكل هذا النشاط الدولي شجعته, وعملت على نشره, فلسفة ثقافية وقانونية تعمل على رفع شأن حرية الفرد على حساب ما عليه من مسؤولية, وتمتدح الفردية والنفعية. وبكلمة, ان هذه الفترة برهنت عن رفض تام للحقيقة المعروفة التي تتعلق بقدسية الحياة البشرية, وبخاصة حياة الاولاد الذين سيولدون, والمعاقين, والشيوخ, وقداسة المحبة الزوجية البشرية, والعائلة المسيحية, التي تقوم عليها هذه المحبة. وكانت كل هذه الانحرافات, بالنسبة الى "الحقيقة", موضوع تنظيم تشريعي.

دور الثقافة الحديثة وانتقادها

تعتبر الثقافة التقليدية ذات اربعة ابعاد: عقلية, وادبية, ومادية, وعملية او مؤسساتية. والثقافة تبدو هكذا كأنها "نظام مفاهيم موروثة, وهذا هو البعد العقلي, ومجموعة نماذج مسلكية, وهذا هو البعد الادبي, ونظام مفاهيم تمثلها رموز, وهذا هو البعد المادي, وسلسلة اتفاقات تحكم العلاقات البشرية, وهذا هو البعد المؤسساتي, الذي تتواصل عبره الكائنات البشرية, وتستمر. ولكنها تبدل معارفها ومواقفها بالنسبة الى الحياة وتطورها. ويبدو من تعليم البابا يوحنا بولس الثاني في "طريقة نشر الانجيل الجديدة" ان الثقافة والافراد الذين يضعونها وضع العمل يجب ان يبشروا بالانجيل. ويشدد البابا بالطريقة عينها على اهمية انتقاء الكلمات المناسبة, مثل مفهوم الجسد الزواجي, وكرامة الانسان, والامانة, والمحبة, والمسؤولية, لكيلا نذكر غير بعض مفاهيم يعاد النظر فيها.
وفي هذه السنوات الاخيرة, شجعت الثقافة الغربية تقدم الحقوق بفصلها عن النظام الاخلاقي التقليدي المتناسق المعروف في المسيحية. واستطاع الاخصائيون ابراز بعض خصائص تمتاز بها الثقافة الحديثة مثل الفردية, ودمج النظري والعملي في الاقتصاد, واولوية الشعور, وفقدان الحرية الحقيقية, واصبح المجتمع شيئا فشيئا تعاهديا, اي في العهد الجديد, راح الناس يجتمعون لكي يفكروا ويناقشوا في اطار نوع جديد من المواصلات. في مجتمع تعاهدي, تكون الحقيقة الاجتماعية مطلقة, ولو كانت قابلة للتغيير في الزمن.

وقد حاولت الكنيسة, على كل المستويات, ان تقاوم كل هذه الاتجاهات التي استقرت في الثقافة, والفلسفة, والقانون, والسياسة. وقد دافع البابا يوحنا بولس الثاني, مثلا, دفاعا مستميتا في سبيل الخير العام, وخير الفرد.

أ - عن وجوب حقيقة موضوعية, وعلاقة صحيحة بين الضمير والحقيقة. (تألق الحقيقة).

ب- وعن ضرورة حماية كل حياة بشرية حماية يوجبها القانون, وكل وسيلة اخرى, وذلك منذ الدقيقة الاولى لتكوينها, وحتى نهايتها الطبيعية. (انجيل الحياة)
وعن ضرورة الزواج والعائلة بوصفهما الاساس اللاهوتي والبنية الشرعية للعلاقات داخل الجماعة, وكمعبد اساسي للحياة (المجتمع العائلي والسنة المائة)
ج- وعن الحاجة الى جمع رئتي الحياة - وجهها اللاهوتي ووجهها الفلسفي - اي اعادة اللحمة بين الايمان والعقل (الايمان والعقل).

ان أثمن ما حبا الله به الانسان انما هو الحرية, ولكن الحرية تقابلها مسؤولية. وللحرية حدود تقف حيثما تبدأ حرية الآخر. وكل مسؤول عن اقواله واعماله. وان ما نراه ونسمعه في هذه الايام, وهو يتكرر, ويتعالى, اصبح يدل على فقدان الضوابط, اكثر مما يدل على الحرية. لذلك قيل: كم من الجرائم ترتكب باسم الحرية.

ومنذ يومين زارنا محامو الضباط الموقوفين قيد التحقيق منذ سنتين, وقالوا لنا ان موكليهم الموقوفين منذ سنتين لم يجرموا او يبرروا. وقالوا: هذا ظلم فادح. فاذا ثبتت عليهم التهم الموجهة اليهم, فلتصدر بحقهم الاحكام, واذا لم تثبت, فمن حقهم ان يطلق سراحهم. اما ان يظلوا قيد التحقيق دون ان ينظر في قضيتهم. فهذا ما لا يمت الى العدالة في شيء. فعسى ان تبقى العدالة عندنا عدالة.








All the contents on this site are copyrighted ©.