2006-09-18 12:39:44

من خطاب البابا في جامعة ريغينسبورغ تحت عنوان "الإيمان والعقل والجامعة: ذكريات وتأملات"


إنها خبرة مؤثرة بالنسبة لي أن أعود مرة أخرى إلى الجامعة وأن أحاضر مجددا. ويتجه فكري في الوقت نفسه إلى تلك السنوات التي بدأت خلالها نشاطاتي في مجال التعليم الأكاديمي في جامعة بون (بدءا من عام 1959) التي تفتخر بكليتيها للاهوت. وإن نشاط هاتين الكليتين حول منطق الإيمان كان جزءا من العمل الجامعي العلمي حتى ولو لم يقاسم الجميع الإيمان حيث التزام اللاهوتيين منصب على العلاقة بين الإيمان والعقل. وإن هذا الحس العميق بوحدة عالم العقل والمنطق لم يجد من يزعجه حتى عندما شاع نبأ مفاده أن أحد زملائنا قال إن هناك شيئا غريبا في جامعتنا: لأنها تخصص كليتين لأمر لا وجود له، ألا وهو الله. وعلى الرغم من هذا التشكك الجذري يبقى ضروريا ومنطقيا التساؤل حول الله عبر العقل وذلك في إطار تقاليد الإيمان المسيحي، وهو الأمر الذي كان محل قبول في هذه الجامعة ككل، دون تشكيك. كل هذه الأمور عادت إلى ذهني حين قرأت مؤخرا شطرا من كتابات للكاتب تيودور خوري (مونستير) عن حوار دار، ربما عام 1391 في الثكنات الشتوية قرب أنقرة، بين الإمبراطور البيزنطي واسع العلم مانويل باليولوغوس الثاني وفارسي متعلم حول مسألة المسيحية والإسلام وحقيقة كليهما. ومن الأرجح أن يكون الإمبراطور، خلال حصار القسطنطينية بين 1394 و 1402، قد تناول هذه المسألة. ويُفسر على هذا النحو كيف أن موقفه كان أكثر تفصيلا من موقف محاوره الفارسي. وامتد هذا الحوار بين الاثنين ليشمل بنيات الإيمان في الكتاب المقدس والقرآن وتوقف بخاصة على صورة الله والإنسان وكذلك أيضا على العلاقة بين "القوانين الثلاثة" أو "الأنظمة الثلاثة": العهد القديم ـ العهد الجديد ـ القرآن. أضاف البابا أنه لا يريد الكلام عن هذه المسألة إنما التطرق إلى موضوع واحد ـ هامشي في بنية الحوار ـ والذي، في إطار موضوع الإيمان والعقل، سحرني وسيكون لي نقطة انطلاق لتأملاتي حول هذا الموضوع. في المحاورة السابعة (الخلاف)، حسب ما ذكر الكاتب تيودور خوري، يتطرق الإمبراطور إلى مسألة الجهاد، الجهاد المقدس. ما من شك أن الإمبراطور كان على علم بالسورة 2،256  حيث جاء أن "لا إكراه في الدين". سورة تعود إلى الفترة الأولية، حسب الخبراء، حيث كان النبي محمد بدون سلطة ومهددا. وطبعا كان الإمبراطور على علم أيضا بالتوجيهات التي نمت لاحقا بشأن الجهاد المقدس. ودون الخوض في تفاصيل، من قبيل الاختلاف في المعاملة بين الذين تسبغ عليهم معاملة "أهل الكتاب" والذين يعاملون كـ "كفار"، واجه محاوره باقتضاب مذهل يبلغ مرتبة الفظاظة عند البعض وذلك في تناوله للمسألة المحورية حول العلاقة بين الدين والعنف عامة، إذ قال:"فقط أرني ما أتى به محمد وجاء جديدا، عندها ستجد فقط ما هو شرير ولا إنساني، كأمره نشر الدين الذي نادى به بالسيف". وبعد أن عبر الإمبراطور عن نفسه بهذه القوة انصرف ليشرح تفصيلا لماذا يعتبر نشر الإيمان بالعنف أمرا منافيا للعقل والمنطق. العنف لا يتوافق وطبيعة الله ولا يتوافق وطبيعة الروح. إنه يقول "إن الله لا يسر بالدماء، وإن التصرف بدون عقلانية مناقض لطبيعة الله. إن الإيمان هو ثمرة الروح وليس ثمرة الجسد. ومن يريد أن يهدي إلى الإيمان إنما يحتاج إلى القدرة على التكلم حسنا والتعقل ولا إلى العنف والتهديد ... وبالتالي فإن إقناع روح عقلانية لا يقتضي بالضرورة اللجوء إلى القوة أو إلى وسائل للضرب أو إلى أية وسيلة أخرى يمكن بواسطتها تهديد شخص بالموت..." . إن التأكيد الحاسم في هذا الأمر ضد الارتداد عبر العنف هو أن التصرف بما لا يتماشى مع العقل إنما يناهض طبيعة الله ذاته. ويقول الكاتب تيودور خوري: بالنسبة للإمبراطور، كونه بيزنطيا شكلته الفلسفة الإغريقية، فإن هذا التأكيد واضح. ولكن بالنسبة للعقيدة الإسلامية فإن الله جل عن كل شيء. وإن إرادته غير مرتبطة بأي قالب بشري بما في ذلك العقل والمنطق. عند هذه النقطة، وبما يصل له فهمنا عن الله وبالتالي ما يخص الدين من ممارسات، نجد أنفسنا حيال معضلة لا مفك منها. هل قناعة أن التصرف بما يتنافى مع العقل يخالف طبيعة الله مجرد فكرة إغريقية أم أنها حقا قائمة بحد ذاتها؟ أعتقد أنه عند هذه النقطة يبرز التوافق العميق بين ما هو إغريقي بالمعنى الأفضل وبين ما هو إيمان بالله على أساس الكتاب المقدس. الرسول يوحنا بدأ إنجيله بالعبارة التالية:"في البدء كان الكلمة" "لوغوس". وهي الكلمة نفسها التي استخدمها الإمبراطور: الله يتدخل عبر الكلمة. و"لوغوس" تعني العقل والكلمة معا ـ عقل خلاق وقادر على الاتصال ـ ولكن، تحديدا، كعقل. وبالتالي لقد أعطانا يوحنا الكلمة النهائية لمفهوم الله في الكتاب المقدس. ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى نشأة ميول داخل اللاهوت في القرون الوسطى كسرت هذا التوافق بين الروح الإغريقي والروح المسيحي بشكل يتضارب مع ما يُعرف بالفكر الأغسطيني وفكر توما الأكويني. أمام فرضية أن يكون الإرث الإغريقي جزءا من الإيمان المسيحي نجد الإصرار على تجريد المسيحية من الطابع الإغريقي وهو طلب ساد بشكل متزايد منذ بداية العصر الحديث البحث اللاهوتي. لقد أدخل اللاهوت الليبرالي للقرنين التاسع عشر والعشرين مرحلة ثانية في عملية نزع الفلسفة الإغريقية. وكان أدولف فون هارناك الممثل الأبرز له. أود هنا إلقاء الضوء على هذه المرحلة نظرا إلى الأولى. في فكر هارناك تبدو العودة إلى يسوع الرجل البسيط إلى رسالته البسيطة التي تشكل ذروة النمو الديني للبشرية. يسوع وضع نهاية للعبادة لصالح البعد الأخلاقي. وفي نهاية المطاف أضحى أبا لرسالة أخلاقية إنسانية. إن هدف هارناك بالأساس هو إعادة المسيحية مرة أخرى إلى التوافق مع المنطق الحديث من خلال تحريرها من عوامل فلسفية ولاهوتية ظاهرية كالإيمان بألوهية المسيح وبثالوث الله. إن اللاهوت بالنسبة لهارناك هو شيء تاريخي جوهريا وبالتالي "علمي" بالمعنى الصرف. وفي إطار هذا التطلع فإن محاولة إعطاء اللاهوت طابعا علميا تنتقص الكثير من المسيحية. ولا بد من القول إنه إذا اقتصر العلم بحد ذاته على هذا البعد فإن الإنسان يتعرض لتنقيص. وقبل أن أصل إلى النتائج التي يصبو إليها هذا التفكير أريد أن أتوقف على المرحلة الثالثة لعملية نزع الفلسلفة الإغريقية المنتشرة حاليا. وباعتبار اللقاء مع تعددية الثقافات يقال اليوم إن التوافق مع الإغريقية، الذي تم في عهد الكنيسة القديمة، كاد ليكون أول تطعيم بالثقافة بدون ارتهان الثقافات الأخرى. وهذا يسمح بالعودة إلى الوراء لاكتشاف الرسالة البسيطة للعهد الجديد وتثقيفه وفقا للمجالات والفضاءات. لكن هذه الفرضية خاطئة وغير دقيقة. فكتاب العهد الجديد كتب باللغة اليونانية ويحمل في طياته اتصالا مع الروح الإغريقي. وهو اتصال نضج خلال نمو كتاب العهد القديم. ما من شك أن هناك عوامل في الكنيسة القديمة يجب تحاشي دمجها في جميع الثقافات. لكن القرارات الأساسية المتعلقة تحديدا بعلاقة الإيمان مع البحث عن المنطق البشري هي جزء من الإيمان نفسه ونموه طبقا لطبيعته. بهذا التفكير أصل إلى الخاتمة. إن هذه المحاولة، التي جرت بخطوطها الكبيرة، لانتقاد العقل الحديث من داخله لا تشمل مطلقا فكرة العودة إلى الوراء إلى ما قبل مذهب الإشراق مع رفض اقتناعات العصر الحديث. إن تفسير العلم ليس إلا إرادة الطاعة للحقيقة وبالتالي تعبيرا لتصرف يشكل جزءا من القرارات الجوهرية للروح المسيحي. فالنية إذا ليست تراجعا إلى الوراء ولا انتقادا سلبيا؛ فالأمر يتعلق بتوسيع مفهومنا للعقل واستخدامه. ذلك لأنه أمام الإمكانات الواسعة المطروحة أمام الإنسان نرى أيضا تهديدات تتأتى من هذه الإمكانات وعلينا أن نتساءل كيف يمكننا أن نضبطها. وسوف ننجح في هذا القصد فقط إذا التقى العقل والإيمان بوسيلة جديدة؛ وإذا تخطينا الحدود التي يفرضها العقل. وفي هذا المعنى فإن اللاهوت وليس فقط كمادة تاريخية وبشرية ـ علمية إنما كلاهوت حق أي كتساؤل حول منطق الإيمان يجب أن يكون له مكان في الشمولية وفي حوار العلوم الواسع.  بهذه الطريقة فقط نصبح قادرين على حوار بين الثقاقفات والأديان بتنا بحاجة ماسة إليه اليوم. في العالم الغربي إن الاعتقاد السائد على نطاق واسع هو أن المنطق الوضعي والأشكال الفلسفية الناتجة عنه شمولية تصلح للكل. لكن الثقافات المتجذرة في الدين في هذا العالم ترى في هذا الاستبعاد لما هو إلهي من محيط العقل وشموليته تهجما على أشد قناعاتها. إن منطقا يصم آذانه عما هو إلهي ويرفض الدين في إطار شبه الثقافات إنما هو منطق عاجز عن الولوج في حوار الثقافات. مع ذلك فإن المنطق الحديث للعلوم الطبيعية يحمل، في عامله الأفلاطوني، تساؤلا يتخطاه إلى جانب الإمكانات المنهجية. وعليه أن يقبل البنية العقلانية للمادة والعلاقة بين الروح البشري والبنيات العقلانية في الطبيعة كأمر واقع تستند إليه منهجيته. لكن السؤال هو لماذا يوجد هذا الأمر الواقع الذي أوكلته العلوم الطبيعية إلى مستويات أخرى أو وسائل للتفكير ـ إلى الفلسفة واللاهوت. بالنسبة للفلسفة، وبطريقة أخرى، بالنسبة للاهوت، فإن النظر إلى الخبرات الكبرى وقناعات التقاليد الدينية للبشرية، وبخاصة الإيمان المسيحي، يشكل منبع معرفة؛ والابتعاد عنه يعني تنقيصا غير مقبول لنظرتنا وجوابنا. إن الغرب مهدد منذ زمن بالنفور تجاه التساؤلات الأساسية حول العقل. وإن جرأة الانفتاح على وسعة العقل ولا رفض عظمته هو البرنامج الذي يخوض فيه لاهوت ملتزم في التأمل بالإيمان البيبلي نقاش زمننا الحاضر. "لا تتصرف حسب العقل، لا تتصرف بالكلمة، لأنه مخالف لطبيعة الله"، قال مانويل الثاني، انطلاقا من صورته المسيحية، لمحاوره الفارسي. ولهذه الكلمة الكبيرة، ولوسعة العقل، ندعو محاورينا إلى حوار الثقافات. أن نجده نحن أنفسنا من جديد هو مهمة الجامعة الكبرى.                            








All the contents on this site are copyrighted ©.