2006-08-15 15:49:12

عظة الكردينال روجيه إتشيغاراي في بازيليك سيدة لبنان حريصا: يا لبنان إنك لن تموت!


احتفل الكردينال روجيه إتشيغاراي صباح اليوم الثلاثاء في بازيليك سيدة لبنان في حريصا بالقداس الإلهي بحضور حشد غفير من المؤمنين. عن عظة نيافته وآخر المستجدات في لبنان، وافانا مراسلنا من بيروت بالتقرير التالي. RealAudioMP3

 

النص الكامل لعظة الكردينال روجيه إتشيغاراي:

إخوتي وأخواتي من لبنان،

من الأرض المقدسة،

من كل الأرض، من الشرق والغرب،

لنشكر معًا سيدة لبنان التي تستقبلنا في حريصا، وهي التي تحيطنا بحبها الأمومي، في الخامس عشر من آب، يوم عيدها، وتجعلنا نعانف العائلة البشرية جميعها، كما تراها من أعلى السماء، وكما يراها الله الثالوث الذي خلق كلا منا على صورته. عند الظهيرة يوم الأربعاء الفائت، طلب مني قداسة البابا بندكتس السادس عشر أن آتي باسمه لأحتفل بهذا القداس الإلهي وكنتُ مفعمًا بروح إنجيل الصباح (متى 15/ 28 ـ 21) الذي تحدث عن مجيء يسوع إلى ربوع صور وصيدون، ونقل صراخ تلك الأم الكنعانية:"حنانك، سيدي، ابن داود". وبهذا الصراح انتزعت شفاه ابنتها، فقال لها يسوع:"عظيم إيمانك، يا امرأة!". في الحقيقة كوني صديقًا قديمًا ومخلصًا للبنان، لم يكن بإمكاني أن أجد حجة أفضل من هذا الإنجيل لأستجيب لدعوة قداسة البابا.

نعم، أيها الشعب اللبناني، إن إيمانكم عظيم جدا، وأنا هنا للتأكيد أمامكم أن خليفة بطرس يودّ أن يثبّت إيمانكم اليوم، وقد إختُبر لدرجة أن البعض يطلقون كلمات النزاع التي وجهها يسوع إلى أبيه:"إلهي إلهي لماذا تركتني؟". في كثافة هذه الظلمة التي تغرقون فيها، عليكم أن تعترفوا أولا، وقبل كل شهادة، بمدى الترابط الحيوي بين السلام والصلاة. السلام؟ ومن لا يتحدث عنه؟ ومن لا يريده، حتى الذين يصنعون الحرب؟ ولكن إلى أي مدى هم حاضرون للتضحية بكل شيء في سبيله؟ الصلاة؟ وأي مؤمن لا يصلي "لله الكلي القدرة". ولكن، من منهم يرون فيه سوى ملجأ في ساعات الخوف، أو وسيلة هروب من المسؤوليات الشخصية؟ إن الصلاة من أجل السلام هي الإختبار الأكثر ثباتًا الذي نعتمده بصدق، والسلام والصلاة معًا أحدهما يتمم الآخر.

أي سلام متين، يُنبى مهما كان الثمن، بين شعوب يفتك بذاكرتها ماض وحاضر محفوفان بالثورات والإنتقامات! أي سلام خصب كندى الفجر، نجعله ينمو على هذه الأرض البيبلية التي تجد فوقها كل التناقضات التي تقسم العالم، تعابير لها ورموزًا! وبصورة أوضح: النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني هو أحد المآسي التي، إذا لم تجد بسرعة حلا عادلا، لا تستطيع أن تدع أي دولة سالمة أو مطمئنة إلى مستقبلها. إذا لم ينعم الشعبان بالعدالة والحقيقة، بشكل متساو، فلا عدالة وحقيقة إذا، ولا يكون هناك سلام دائم في العالم.

بالتأكيد، لا يمكن أن يكون السلام في هذا الشرق الأدنى مختلفًا عن السلام الذي يُرجى في أي مكان آخر، فهو من عجين العدالة ذاتها، ومن الأخوة ذاتها بين الشعوب. ولكن أسباب السلام هنا، هي اكثر أثرًا وأكثر إلحاحًا لأنها مشبعة بالنظرة المسيحانية التي وصفها آشعيا، ويمثلها المسيح الذي أتي ليسكن بيننا ليعطينا منطلقًا جديدًا للسلام على الأرض. المسيح لا يعطينا السلام وحسب، فهو ذاته سلامنا. إن القديس بولس، في تشخيصه للسلام، جعله حياة أكثر من كونه رسالة، فهو حياة من هدم "جدار البغض"، "وفي جسده نقض العداوة... ليخلق الإثنين فيه إنسانًا واحدًا جديدًا". هذه الكلمات مستقاة من الرسالة إلى أهل أفسس. ولكن دعوة السيد ليست موجهة إلى المسيحيين وحدهم، جميع أفراد العائلة الكبرى من أبناء إبراهيم، وكذلك البشرية جمعاء التي وجدت ذاتها مختطلة في سفينة نوح لتنجو من الطوفان، بدأت اليوم تعي وحدتها العميقة، من خلال الفروقات العرقية، الحادة أحيانًا، والثقافية والدينية. إن العيش معًا هو تحد وبرنامج، في كل مكان، وخاصة هنا.

أتيتُ إلى لبنان، باسم قداسة البابا، كرسول سلام، ونحن نتلاقي مع من يجتمعون اليوم للإحتفال بالذبيحة الإلهية، في الحاضرة المريمية، في الناصرة. هناك وهنا نتقاسم الآلام القلق ورجاءات الشعوب الغارقة في دوامة حرب الإخوة، التي قال عنها قداسة البابا بندكتس السادس عشر :لا شيء يمكن أن يبرر هدر الدم البريء، من اية جهة أتى"، ولم ينقطع قداسته عن المطالبة بوقف إطلاق النار. لكن النزيف حاد خصوصًا بينكم، يا شعب لبنان، وثلاثون بالمائة من الضحايا لا تتجاوز أعمارهم الإثني عشر سنة. نصلي من أجل الأمهات اللواتي يمطرن بالدموع عائلاتهن الممزقة. ونواكب مليون نازح خلال شهر، هاربين فوق أرض مضيافة بطبيعتها. ونشكر كاريتاس لبنان والمنظمات الإنسانية من كل البلدان التي أبدت تضامنا فائقًا. ليس هنا مكان وزمان عمل تقرير كامل عن هذا الموضوع. لكن، أمام الله يمكننا أن نقدر فداحة الضرر والشر وثمن العلاج الشافي المرجو. لا يستطيع أي علاج أن يشفينا ما لم يذهب إلى جذور الألم، وما لم يعترف كل منا بتواضع، أن العدو ليس الآخر وحسب، بل كل فرد منا أيضًا. كل منا، وكل يوم، بطريقة تفكيرنا وعيشنا مع الآخرين. نحدد موقفنا من السلام أو ضده.

بالتأكيد، لا يمكن أن يظل تنشيط السلام عملا مصطنعًا، مقتصرًا على آلاف التصرفات الصغيرة. فلكي نقول وداعًا للحرب، لا يكفي أن نقول صباح الخير للسلام. فبالرغم من انتقاداتنا كلها، ونفاذ صبرنا كله، علينا أن نحترم المسؤولين في المجتمع، على اختلاف مواقعهم، أكانوا مواطنين أو دوليين، الذي يبذلون الجهود ليشقوا طريقًا سالكًا، في منحدرات السلام والحاد، لجميع شعوب المنطقة، حيث تتداخل أكثر فأكثر مشاكل العالم أجمع.

لكن الطريق الصحيح هو روحي أكثر من كونه سياسيا. لا يصمد أي سلام تحدده اتفاقيات ما لم يرافقه سلام في القلوب. الله وحده يستطيع أن يلين القلوب المتحجرة، خاصة في زمن أصبح السلام فيه ميالا إلى الخصام، تاركًا العنف يتسرب إلى الحياة اليومية، ومسببًا الخوف الذي يجعل النزعة الحيوانية تسيطر على الإنسان، فيعوي عوضًا عن طلب النجدة. لا دين يستطيع أن يحتجز الله دون إغضابه، فكم بالحري إذ أسر الله، ووضعه في عشيرته هو، ضد الآخر. فكل ديانة مدعوة اليوم بالحاح لأن تدعو الله الرحوم الغفور. إن بؤسنا البشري عميق جدا، ونحن بحاجة إلى رأفة إلهية أعمق. ففي جو البغض الذي نتنفسه غالبًا، الغفران وحده يمكن أن يوصلنا إلى المصالحة، إنه الغفران الذي لا يؤدي ضريبة الزمن، ولا ينبع من النسيان، ولا من حسابات الربح والخسارة، ولا من الضعف المتواطئ، ولا حتى من الشفقة والتنازل. إنه غفران لا يجرؤ الإنسان المجروح، المهان، المحتقر أن يعطيه إلا على مثال إله المحبة الذي، منذ خطئية الإنسان الأول، لا يمكنه أن يحب دون أن يسامح، لدرجة أن يصير الإنسان ذاته رحيمًا. وحينئذ فقط، يطيب هواء الأرض، ويسكنها سلام يفيض بالفرح.

نصلي من أجل كل الحروب التي تشوه وجه الخالق، الحروب المنفرد والحروب المنسية والحروب المخفية. وكيف لا نعبر هنا عن تعاطفنا مع إخوتنا في العراق، حيث تتكدس الضحايا: 1800 قتيل في شهر تموز فقط!  إذا صح أن محبتنا لشخص ما هي قولنا له: "إنك لن تموت"، فاليوم بعد مرور 21 سنة على المهمة التي أرسلني بها قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، إلى لبنان المعذب، أود أن أقول بصوت عال: يا لبنان إنك لن تموت! يا شعب لبنان، اسمع المسيح القائل: "لا تخافوا من يقتل الجسد ويعجز عن قتل النفس". لن تموت أيها الشعب! فتحتَ الركام الملتهب من العنف والنار، ووراء جراحات جسدك المهان، نكتشف روحك المصانة دائمًا، ولا نفقد أملنا بك. فبالرغم من كل تهديدات الخارج والداخل، تبقى ما أنت عليه في قرارة ذاتك، أرض اتحاد ومشاركة. فلن تضيّع الجبل والبحر: الجبل لتسرخ هويتك والبحر لتحاور العالم. كن وفيًا لرسالتك التاريخية، في تلاقي الحضارات والديانات، كمنوذج مختصر، تشوبه الهشاشة، ولكنه حي، تقدمه إلى تخيلات مخدرة أو لاهثة، تحل ببشرية فقدت أسباب الحياة معًا. أنت لا تدافع عن نفسك وحدك، بل عن كل شعوب الأرض.

أيها الشعب اللبناني تطلع بحنو إلى الشبيبة. إن الرعب واليأس ينهشها، فتقع فريسة أنواع الإغراءات، ومنها إغراء الهجرة. إن الشبيبة تنتظر من الكبار ومن الجماعات الكنسية أن يعلموهم تذوق الحياة الحقيقية التي تستمد عصارتها الربيعية من ينبوع التطوبيات.

يا سيدة لبنان، ها هو شعبك. إنهم أبناؤك الذي يعتصرهمم البغض، والذين يتعلمون المساحمة. إنهم أبناؤك الذي يحتجزهم الخوف ويبدأوان رحلة الرجاء. يا سيدة لبنان، ها هو شعبك. وإذا كان الله أب البدايات، فأنت أم البدايات الجديدة. فهبي لمن فقدوا طعم الحياة، قوة العيش أيضًا من أجل الآخرين. يا سيدة لبنان، ها هو شعبك، فساعدي الإنسان الذي انهكته الخطيئة على أن يستعيد زاوية مزهرة من طفولته وساعدي الإنسان الثائر بسبب العنف لكي يضع أمام الله سلاح مصيره. يا سيدة لبنان، إحفظي شعبك، إحفظيه حرا حرا حرا في وحدة جسده وروحه لمجد إله إبراهيم واسحق ويعقوب، ولمجد ابنك الإلهي يسوع، ولخدمة الشعوب في المشرق والمغرب. ليحيا لبنان بلبنان، من أجل أن يحيا العالم كله بسلام.

 








All the contents on this site are copyrighted ©.