2006-01-09 16:28:17

قداسة البابا يستقبل أعضاء السلك الديبلوماسي المعتمدين لدى الكرسي الرسولي لتبادل التهاني بحلول العام الجديد: الإلتزام من أجل الحقيقة هو روح العدالة ويقدِّم أساسًا وقوَّة للحقِّ في الحرية ويفتح الطريق أمام الغفران والمصالحة وأمام آمال جديدة


استقبل قداسة البابا بندكتس السادس عشر صباح الإثنين في الفاتيكان أعضاء السلك الديبلوماسي المعتمدين لدى الكرسي الرسولي، لتبادل التهاني بحلول العام الجديد، وألقى كلمة مسهبة استهلَّها معربًا عن سروره باستقبالهم، وقال: نشعر بأننا متَّحدون في رسالة مشتركة، تضعنا أمام مواجهة تحديات جديدة. رسالتنا المشتركة هي السَّلام وتواصل الكنيسة على الدوام نشْر رسالة المسيح الذي جاء، وكما يقول لنا القديس بولس في رسالته إلى أهل أفسس، ليبشِّر بالسلام الذين كانوا أباعِد وأقارب. ولكنَّنا نلاحظ بأسى، أنَّ السلام ما يزال معطلاً ومجروحًا أو مهدَّدًا في مناطق عديدة من العالم.

وتابع البابا كلمته متسائلا:"ما الطريق إلى السلام؟ ليذكِّر بما قاله في رسالته لمناسبة الإحتفال بيوم السلام العالمي لعام 2006:"إنَّ الإنسان عندما يستنير من تألق الحقيقة، يسلك بشكل طبيعي درب السلام." وبالنظر إلى الأوضاع الراهنة في عالم اليوم، حيث وإلى جانب سيناريوهات النزاعات المسلَّحة المفتوحة أو البطيئة، أو تلك الهادئة فقط ظاهريًا، نستطيع، وبفضل الله، تبيان جهد شجاع لصالح السَّلام، يقوم به العديد من الرجال والمؤسسات. ولذا، أضاف قداسته يقول، اودُّ، ومن خلال تشجيع أخوي، عرض بعض الأفكار، وأوَّلها أنَّ الإلتزام من أجل الحقيقة هو روح العدالة.

فَمَنْ يلتزم من أجل الحقيقة، قال الأب الأقدس، لا يستطيع إلاَّ أن يرفض حكم القوِّي على الضعيف الذي يعيش من الكذب، والذي، على الصعيد المحلي والدولي، طبع بالمآسي تاريخ البشر. والكذب موجَّه بطريقة أنانية لتحويل الإنسان لأداة، أضاف البابا يقول، والأنظمة السياسيَّة في الماضي، وليس فقط في الماضي، هي خير دليل على الخبرة الأليمة. ولكن، هناك بالمقابل الحقيقة والصدق اللذان يقودان إلى لقاء الآخَر والتعرّف إليه والتفاهم.

إنَّ خبرتكم كديبلوماسيين تؤكِّد أنَّه، وفي العلاقات الدولية أيضًا، ينجح البحث عن الحقيقة في إظهار التنوعات حتَّى في فوارقها الدقيقة، والمتطلبات التي تليها، وبالتالي الحدود التي ينبغي احترامها وعدم تخطّيها من أجل حماية جميع المصالح الشرعية للأطراف. وهذا البحث عن الحقيقة، يحملكم للتأكيد بقوَّة على ما هو مشتركٌ للجميع، ويخصّ كل شعب وثقافة، ويبنغى احترامه. وعندما يتمِّ الإعتراف بالتعديدية والمساواة، تستطيع المشاكل أن تجد حلولا لها وتهدأ الإنشقاقات وفقًا للعدالة. ولكن، وفي حال عدم الإعتراف بهما، قال البابا، يولد غياب التفاهم والنزاع والعنف وسوء استعمال السلطة.

وأضاف قداسة البابا يقول إنَّ هذه الملاحظات تنطبق على الأرض المقدَّسة. ينبغي على دولة إسرائيل أن تستطيع الوجود بسلام، وفقًا لقواعد القانون الدولي؛ وينبغى على الشعب الفلسطيني أن يتمكَّن من تنمية مؤسساته الديمقراطية من أجل مستقبل حرّ ومزدهر. وتستيطع هذه الملاحظات أن تنطبق بطريقة أوسع في الإطار العالمي الحالي، حيث نتكلَّم عن خطر صِدام الحضارات. هذا الخطر الذي أصبح أكثر حدِّة بسبب الإرهاب المنظَّم الذي ينتشر في الأرض.

أمَّا الأسباب فهي عديدة ومعقدَّة، الأسباب الإيديولوجية والسياسيَّة الممزوجة بمفاهيم دينية شاذَّة. ولا يتردَّد الإرهاب أيضًا في ضرب الأشخاص الأبرياء، وبدون أيِّ تمييز، أو في ممارسة ابتزازات لا إنسانيَّة، مثيرًا الذعر لدى شعوب برمّتها، بهدف إجبار القادة السياسيين على إرضاء نيات الإرهابيين أنفسهم. وما من ظرف، أضاف قداسة البابا يقول، يبرِّر هذا العمل الإجرامي الذي يغطّي بالعار من يقوم به، ويصبح اكثر استحقاقًا للوم، حين يكون درعًا للديانة.

إنَّ التزام الديبلوماسيين لصالح الحقيقة، يستطيع أن يقدِّم إسهامًا أساسيًا، لأنَّ التنوعات التي ميَّزت شعوبًا من مختلف أنحاء العالم وثقافاتهم، تستطيع أن تجتمع ليس في تعايش مسامح فقط، إنَّما في مشروع إنسانيَّة أكثر غنى. وخلال العصور الماضية، أضاف البابا يقول، أثمرت التبادلات الثقافية بين اليهودية والهلينية، وبين العالم الروماني والجرماني والسلافي، وحتَّى بين العالم العربي والأوروبي، (أثمرتِ) الثقافة وشجعَّت العلوم والحضارات. ولذلك ينبغي أن نتمنَّى اليوم أولاً إزالة كل عائق أمام وصول المعلومات بواسطة الصحافة والوسائل المعلومانية المعاصِرة.

وانتقل قداسة البابا ليتحدَّث عن الفكرة الثانية: الإلتزام من أجل الحقيقة يقدِّم أساسًا وقوَّة للحقِّ في الحرية. إنَّ العظمة الفريدة للكائن البشري تجد جذروها الأخيرة في ما يلي: إنَّ الإنسان يستطيع التعرف على الحقيقة، لا بل يريد التعرف إليها. ولكنَّ الحقيقة يمكن بلوغها فقط في الحريَّة. وهذا الأمر يشمل كل الحقائق. وفي التطورات الحالية للقانون الدولي، نلاحظ بانَّ كل حكومة لا تستطيع الإمتناع عن واجب ضمان ظروف الحرية الملائمة لمواطنيها، بدون أن تجازف حتى بمصادقيتها، كمحاور في المسائل الدولية. فمن خلال حماية الحقوق الملازمة للإنسان، والمضمونة دوليًا، لا نستطيع إلاَّ أن نقيِّم أوَّلا الفضاء المُعطى للحقوق والحرية داخل كل دولة، وفي الحياة العامَّة والخاصَّة، وفي العلاقات الإقتصادية والسياسية، والعلاقات الثقافية والدينية.

وحول هذا الموضوع، أضاف البابا يقول، إنَّ النشاط الديبلوماسي للكرسي الرسولي موجَّه بطبيعته نحو التنمية، وفي مختلف المجالات حيث ينبغى أنْ تتحقق الحرية، وبينها الحرية الدينيّة. وللأسف، فإنَّ هذه الحرية، وفي بعض الدول التي تتغنَّى بتقاليدها الثقافية العريقة في القِدم، بعيدة كل البعد، لا بل تُنتهك، سيَّما في ما يخصّ الأقليات.

وبهذا الصدد، قال الأب الأقدس، أودُّ أن أذكِّر بما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:فالحقوق الأساسية للإنسان هي نفسها على جميع المستويات، ولا بدَّ من الإعتراف بالحق في الحرية الدينية، لأنَّها تتعلَّق بالعلاقة الإنسانية الأكثر أهمية، وهي العلاقة مع الله. وتوجَّه بعدها البابا لجميع المسؤولين عن حياة الشعوب بالقول: إذا كنتم لا تخشون الحقيقة، فليس عليكم أن تخافوا الحرية. فالكرسي الرسولي الذي يطالب بتوفير شروط الحرية الحقَّة للكنيسة الكاثوليكيَّة، يطالب بذلك أيضًا للجميع.

وبعد ذلك تحدَّث البابا عن فكرة ثالثة وهي أنَّ الإلتزام من أجل الحقيقة يفتح الطريق أمام الغفران والمصالحة وقال إنَّ الكنيسة الكاثوليكية تدين الأخطاء الجسيمة التي حصلت في الماضي، ولم تتردَّد في طلب الصفح. وأضاف قداسته يقول إنَّ طلب المغفرة وعطيَّة الغفران عنصران أساسيان من أجل السلام، مذكِّرًا بكلمات يسوع :"من كان منكم بلا خطيئة، فليكن أوَّل من يرميها بحجر!" كما وذكَّر قداسته بكلمات السعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته ليوم السلام العالمي 2002 :"لا سلام بدون عدل، ولا عدل بدون غفران." وقال:ببساطة ومحبَّة كبيرة، أكرر هذه الكلمات أمام قادة الأمم، سيَّما تلك حيث جراح النزاعات هي الأكثر التهابًا، وحيث الحاجة إلى السَّلام هي الأكثر الحاحًا.

وأضاف قداسته يقول: يتَّجه بفكري بنوع خاص نحو الأرض التي وُلد فيها يسوع المسيح، أمير السلام؛ ونحو لبنان حيث ينبغي على شعبه أن يجد ثانية وبدعم التضامن الدولي، دعوته التاريخية لصالح التعاون الحقيقي والمثمر بين جماعات إيمان مختلف؛ ونحو الشرق الأوسط بأسره، سيَّما العراق، مهد الحضارات الكبرى، الذي يلبس الحداد يوميًا خلال هذه السنوات بسبب أعمال إرهابية دامية. ويتَّجه فكري أيضًا نحو أفريقيا، سيَّما بلدان منطقة البحيرات الكبرى، ونحو سكَّان درفور ومناطق أخرى من الأرض، مسرح نزاعات دامية.

ومن بين المهام الكبرى للديبلوماسية، أضاف البابا يقول، إفهام جميع الأطراف المتنازعة، بأنَّه، وإنْ كانت تحبُّ الحقيقة بالفعل، لا تستطيع إلا أنْ تعترف بأخطائها، وليس بأخطاء الآخرين فقط، ولا تستطيع أيضًا رفْض الإنفتاح على الغفران. إنَّ الدماء المهرقة، لا تطلب الإنتقام إنَّما الدعوة إلى احترام الحياة والسَّلام. وأمام هذا المطلب الأساسي للبشرية، تمنَّى قداسة البابا ان تتمكَّن لجنة توطيد السَّلام، التي أسَّستها الأمم المتَّحدة حديثًا، الإجابة عليه، عبر التعاون الكامل من قِبل الجميع.

وانتقل البابا أيضًا للحديث عن فكرة جديدة وهي أنَّ الإلتزام من أجل السلام يفتح الطريق أمام آمال جديدة. فالسلام ليس فقط صمت الأسلحة، قال الأب الأقدس، إنَّما سلام يعزِّز إنشاء ديناميَّة جديدة في العلاقات الدولية. ولذا لا يسعنا الكلام عن السلام حيث الإنسان محروم من العيش بكرامة. وأفكِّر بالأعداد الهائلة من الأشخاص الذين يعانون الجوع، وبمخيمات المهاجرين أو اللاجئين في مناطق عديدة من العالم، وبجميع الذين تدفعهم أوضاع حياة غير لائقة للهجرة بعيدًا عن بلادهم وأقاربهم، آملين بحياة أكثر إنسانيَّة. ولا يسعنا أيضًا نسيان آفة الإتجار بالأشخاص التي تبقى وصمة عار في زمننا الحاضر.

وأمام حالات "الطوارئ الإنسانيَّة" هذه ومشاكل أخرى، أضاف البابا يقول، تحرَّك العديد من الأشخاص ذوي الإرادة الحسنة إضافة إلى المؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية، ولكنَّنا نطالب بمزيد من الجهود لتخطي العراقيل التي تقف عائقًا أمام حلول فعَّالة. واستنادًا إلى معطيات احصائية متوفرة،نؤكِّد أن أقل من نصف الأموال الهادفة للتسلّح ستكون كافية لمساعدة الفقراء، وبشكل مستمر.

وفي ختام كلمته إلى أعضاء السلك الديبلوماسي المعتمدين لدى الكرسي الرسولي لتبادل التهاني بحلول العام الجديد، قال البابا: بميلاد المسيح، ترى الكنيسة نبوءة صاحب المزامير تتحقَّق:"الرحمة والحق تلاقيا، البِرّ والسلام تعانقا، ومن الأرض نبتَ الحق ومن السماء تطلَّع البِّر."








All the contents on this site are copyrighted ©.