2005-10-02 11:21:41

البابا يفتتح أعمال الجمعيّة العامّة العادية الحادية عشرة لسينودوس الأساقفة بقداس إلهي في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان


   بالذبيحة الإلهيّة جوهر وغاية أسرار الكنيسة، افتتح قداسة البابا بندكتس السادس عشر في بازيليك القديس بطرس في الفاتيكان، أعمال الجمعيّة العامّة العاديّة الحادية عشرة لسينودوس الأساقفة وشعارها:"الإفخارستيا، ينبوع وذروة الحياة المسيحيّة".

   التفّ حول قداسته أكثر ثلاثمائة أب وخبير ومراقب سيشاركون في الأعمال التي تستمر لغاية الثالث والعشرين من الشّهر الجاري، وسيعالجون مواضيع أساسيّة تستوجب من الكنيسة أجوبة ملائمة عليها لمواجهة تحديات عالمنا الحديث وإظهار الكنيسة فتية ومتجدّدة بالرغم من مرور ألفَي عام على انطلاقة مسيرتها الخلاصية على أرض شقائنا.

   بعد تلاوة الإنجيل المقدّس ألقى البابا عظة استهلّها بشرح قراءات الكتاب المقدّس التي تضع نصب أعيننا إحدى أكبر صور الكتاب المقدّس، وهي صورة الكرمة. فالخبز يُمثّل في الكتاب المقدّس كل ما يحتاجه الإنسان لحياته اليوميّة. والماء يُعطي الأرض خصباً: إنها العطيّة الأساسيّة، التي تجعل من الحياة ممكنة. أما الخمر، أضاف البابا، فعكس لنا لذّة الخلق، ويمحنا العيد الذي نتخطّى فيه محدوديّتنا اليوميّة؛ والخمر أيضاً "يُفرِح قلب الإنسان". وهكذا صار الخمر ومعه الكرمة صورة لعطيّة الحب الذي نتذوّق فيه طعم الألوهيّة. وما قراءة النبي أشعيا التي سمعناها منذ قليل سوى نشيد حبٍّ عظيم يُخبرنا أن الله الذي خلق الإنسان على صورته سكبَ في قلبه قدرة المحبّة، محبّة الله خالقه. وبنشيد الحب للنبي أشعيا، أراد الله أن يتكلّم مع شعبه، بل ومع كل واحد منّا. "لقد خلقتُكَ على صورتي ومثالي" قال لنا الرّب، "أنا هو الحبّ وأنتَ صورتي بقدر ما تسطع فيكَ المحبّة وتجيب على ندائي بمحبّة". الله ينتظرنا ويريد محبّتنا... ولكنّ حياتنا المسيحيّة باتت خلاًّ أكثر منه خمراً وسط الصراعات واللامبالاة.

   ثمّ انتقل البابا لشرح الفكرة الثانية من قراءات هذا الأحد المقدّسة متوقّفاً عند معنى "طيبة خلق الله وعظمة محبّته لنا"، من ثمّ عند فشل الإنسان. الله زرع كرمة مختارة ولكنّها أعطت حصرماً. الثمرة الطيبّة التي كان ينتظرها الرّب من كرمته المختارة هي العدالة والاستقامة. أما الحصرم فهو العنف وذرف الدماء والقمع الذي يُرزِح الناس تحت نير الظلم. أما صورة الكرمة في الإنجيل فتختلف عن قراءة العهد القديم: الكرمة تعطي ثمراً طيّباً ولكنّ الكرّامين القيّمين عليها أرادوا الاستئثار بالثّمر ورفضوا تسليمها لصاحبها. ضربوا ونكّلوا برسل سيّدهم ثمّ قتلوا ابنه الوحيد وحجّتهم الوحيدة امتلاك ما ليس لهم، وحسب العهد القديم هناك اغتصاب العدالة الاجتماعيّة بسبب احتقار الإنسان لأخيه الإنسان، وبات احتقار التوراة، أي شريعة الله، احتقارا لله بذاته واكتفاء الإنسان بقدراته الشخصيّة: رفض الكرّامون قيام سيّد عليهم، وواقعهم ينعكس علينا اليوم أيضاً: نحن البشر من أسند إلينا الله مهمّة السّهر على البشريّة، نستغلّ السلطان المعطى لنا مدّعين السيادة عليها لوحدنا. نريد امتلاك العالم وحياتنا بطريقة لا محدودة. ولكن عائقنا الوحيد هو وجود الله: فإما أن نذكر اسمه في إطار التقوى الفارغة، وإمّا ننكره بالمُطلق ونمنعه من دخول الحياة العامّة فيفقد بذلك كلّ معنى. إن نزعة التسامح بحدّ الله في إطار الرأي الخاص ومنعه من دخول الشأن العام وواقع العالم والحياة، ليست تسامحاً بل خبثاً. فحيث يُنصّب الإنسان نفسه سيّداً أوحداً على العالم وعلى ذاته، لا مكان للعدالة. الإنسان قادر على امتلاك اعتباطيّة السلطة والمكاسب: فهو قادرٌ على طرد ابن الله خارج الكرمة وقلته، ليتذوّق بأنانيّة ثمار الأرض. ولكنّ تلك الكرمة ستتحوّل سريعاً إلى أرض تدوسها الخنازير والحيوانات النّجسة.

   ثمّ انتقل البابا في عظته لشرح العنصر التعليمي الثالث لقراءات الكتب المقدّسة لهذا الأحد، مُضيفاً أنّ الله في العهدَين القديم والجديد يُعلن للكرمة الخائنة اقتراب دينونتها. فالدينونة التي تحدّث عنها أشعيا في العهد القديم تحقّقت بالحروب والنّفي إلى بلد أشور وبابل. أما الدينونة التي تحدّث عنها المسيح في إنجيله فتعود لدمار أورشليم في العام سبعين بعد الميلاد. ولكن خطر الدينونة يدهمنا نحن أيضاً، الكنيسة في أوروبا، أوروبا والغرب عموماً. في إنجيل اليوم يصرخ الرّب يسوع أيضاً في آذاننا كلمات كتاب الرؤيا إلى كنيسة أفسس قائلاً:"إن لم تتوبوا أتَيتُكُم وحوّلتُ منارتَكم عن موضعها". نحن أيضاً يُمكننا أن نفقد النّور، أضاف البابا، ونصنع خيراً إن أصغينا لإنذار الرّب بكل جدّيته في أعماق نفوسنا صارخين في الآن معاً:"أعنّا يا ربّ على التوبة والارتداد! امنحنا نعمة التجدّد الحقيقي! ولا تسمح بأن ينطفئ نورُك فينا! قوّي إيماننا ورجاءنا ومحبّتنا لكيما نحمل ثماراً صالحة!".

   ولكن أمام هذا الواقع، أضاف البابا، نتساءل في داخلنا قائلين:"ليس هناك أي وعد، ولا كلمة تعزية في قراءة إ نجيل اليوم؟ هل التهديد هو آخر كلمة؟ كلاّ! الوعد حاضر وهو الكلمة الأخيرة والجوهريّة، ونسمعها في آية الهللويا من إنجيل القديس يوحنّا القائلة:"أنا الكرمة، وأنتم الأغصان. من يثبت فيّ وأنا فيه يُعطي ثماراً كثيرة". بكلمات الرّب يسوع هذه يُبيّن لنا يوحنّا الإنجيلي آخر مشهد من قصّة الكرمة الإلهيّة. الله لا يفشل البتّة، والنصر له في النهاية، نصر المحبّة... إن موت ابن صاحب الكرم في إنجيل اليوم لا يعني نهاية التاريخ، "فالحجر الذي رذله البناؤون صار رأساً للزاوية...". من موت الابن تنبعث الحياة، ويرتفع هيكل جديد وتُغرس كرمة جديدة. فهو من حوّل الماء خمراً في عرس قانا الجليل، حوّل الخمر دم محبّته الحقيقيّة فصار الخمر دمه. استبق يسوع في العليّة موته وحوّله عطية لذاته بفعل حبٍّ عميق. دمه عطيّة ومحبّة، لذا فهو الخمر الحقيقي الذي يريده الخالق، وهكذا أصبح المسيح ذاته الكرمة التي تعطي ثماراً طيّبة على الدوام: وصار حبّه الذي لا يقهر حاضراً معنا إلى منتهى الدهور.

   إنّ هذه الأمثال الإنجيليّة، أضاف البابا في ختام عظته، تصبّ كلّها في النهاية في سرّ القربان المقدّس، الذي يمحنا فيه الرّب خبز الحياة وخمر المحبّة ويدعونا إلى وليمة الحب الإلهيّة. نحن نحتفل بالقداس الإلهي مدركين أن ثمنه كان دم الابن ـ ذبيحة الحياة الحاضر فيها دوماً. فكلّ مرّة نأكل من هذا الخبر ونشرب من هذه الكأس، نُتذكّر موت الرّب ونعترف بقيامته حتّى مجيئه. كما ونُدرك أيضاً أن موت الابن حمل لنا الحياة التي حوّلها يسوع تقدمة حبٍّ غلب الموت. في الذبيحة الإلهيّة يرفعنا المسيح المصلوب إليه ويجعلنا أغصان الكرمة، أعضاء جسده السرّي، فإن بقينا مُتّحدين به نعطي ثماراً طيّبة نحن أيضاً ثماراً لا تعصر خلّ الاكتفاء الذاتي والضجر من الله وخلائقه، بل خمر الفرح الطيّب ومحبّة القريب. ثمّ سأل البابا في ختام عظته الرّب يسوع أن يمحنا نعمته لنعيش أسابيع السينودوس الثلاثة مُتشدّدين بالقربان المقدّس لصنع خير الكنيسة، ثم طلب شفاعة العذراء مريم ليتمكّن آباء السينودوس من الإصغاء الوديع لإلهامات الروح القدس كي يتمكّنوا من مساعدة العالم أن يصير بالمسيح كرمة الله الخصبة. آمين.








All the contents on this site are copyrighted ©.