2005-04-14 15:27:18

مقتطفات من رسالة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني بمناسبة يوم السلام العالمي الأول من كانون الثاني يناير 2004

"التربية على السلام التزام مستمر"


في السنوات الخمس والعشرين من الحبريَّة التي منحني إياها الله لغاية الآن، لم أتوقف عن رفع صوتي، تجاه الكنيسة والعالم، لدعوة المؤمنين وجميع الناس ذوي الإرادة الحسنة، لتبني قضية السلام، من أجل الإسهام في تحقيق هذا الخير الأولي، ضامنين بذلك للعالم عصرًا أفضل، من التعايش الهادئ والاحترام المتبادل.

أشعر بالواجب هذه السنة أيضًا بدعوة رجال ونساء كل قارة للاحتفال بيوم سلام عالمي جديد.فالبشرية، بالحقيقة، بأمسِّ الحاجة لإعادة اكتشاف طريق الوئام المتزعزعة بالأنانيات والأحقاد، وبالعطش للسيطرة والرغبة بالانتقام.

نشعر نحن المسيحيين أنَّ التزام تربية أنفسنا والآخرين على السلام يكمن في عبقرية ديانتنا. إعلان السلام لدى المسيحي، في الواقع، هو إعلان المسيح "سلامنا" (أفسس 2،14)، إعلان إنجيله، "إنجيل السلام" (أفسس 6،15)، ودعوة الجميع إلى الطوبى بأن يكونوا "صانعي سلام" (متى 5،9).

كنتُ قد أطلقت في رسالة يوم السلام العالمي في الأول من كانون الثاني /يناير/ عام 1979 هذا النداء:"لبلوغ السلام، يجب التربية على السلام". نحن بأمسِّ الحاجة اليوم لهذا النداء، لأنَّ الناس وحيال المآسي المستمرة بإيلام البشرية، يعانون تجربة السقوط في القدريَّة، وكأنَّ السلام بات مثالاً لا يُمكن بلوغه.

وخلافًا لذلك علَّمت الكنيسة دومًا ولا تزال تعلِّم حتى اليوم قاعدة سهلة وحاسمة: السلام ممكن. بالأحرى إنَّ الكنيسة لن تكلَّ من التكرار بأنَّ: السلام واجب. وهو يُبنى على الأركان الأربعة التي حدَّدها الطوباوي يوحنّا الثالث والعشرون في رسالته العامّة السلام في الأرض، أي على الحقيقة والعدالة والمحبَّة والحريَّة. إذًا يقع على عاتق جميع محبِّي السلام، واجب تربية الأجيال الجديدة على هذه المثُل، لإعداد حقبة أفضل للبشريَّة بأسرها.

تنخرط في واجب التربية على السلام ضرورة توجيه الأفراد والشعوب لاحترام النظام الدولي ومراقبة الالتزامات التي اتخذتها السلطات التي تمثِّلها شرعيًا. السلام والقانون الدولي مرتبطان بطريقة حميمة بين بعضهما البعض: القانون يراعي السلام.

منذ فجر الحضارة اعتنت التجمعات البشرية في تثبيت مفاهيم ومعاهدات بين بعضها البعض جنَّبت استعمالاً اعتباطيًا للقوة وسمحت بتجربة الحل السلمي للنزاعات الناشئة. وإلى جانب النظم القانونيَّة لدى كل شعب بمفرده، تشكَّلت تدريجيًا مجموعة قوانين عُرفت باسم (قانون الأمم). ومع مرور الزمن، راح هذا القانون ينتشر ويتضح في ضوء الأحداث التاريخية لدى مختلف الشعوب.

إنَّ الحرب العالمية الثانية، برعبها وعنفها في انتهاك كرامة الإنسان، قادت إلى تجديد عميق لنظم القانون الدولي. فبات الدفاع عن السلام وتنميته محور نظام قانوني ومؤسَّساتي جديد بكليَّته. وللسهر على السلام والأمن الشاملَين، وتشجيع مساعي الدول لحفاظ وضمان هذه الخيور الأساسية للبشرية، تنادت الحكومات إلى منظمة أُنشئت خصيصًا هي ـ منظمة الأمم المتحدة مع ـ مجلس أمن يتمتع بسلطات واسعة للتحرك. ووُضع كمحور لهذا النظام حظر اللجوء إلى القوة. وهو حظر، حسب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، يلحظ استثناءَين وحيدَين فقط.

الاستثناء الأول يؤكد على الحق الطبيعي بالدفاع المشروع عن النفس، ويُطبَّقُ حسب الأصول المتَّبعة في إطار الأمم المتحدة: وبالتالي أيضًا ضمن الحدود المعهودة للضرورة والنسبية.  الاستثناء الثاني يتمثَّل بنظام الأمن المشترك، الذي يمنح مجلس الأمن صلاحية ومسؤولية الحفاظ على السلام، وسلطة قرار وقدرة واسعة على التحرك.

يلاقي القانون الدولي اليوم صعوبة في تقديم حلول للصراعات الناتجة عن تغيرات العالم المعاصر الظاهرية. وفي الواقع إنَّ هذه الصراعات لا يقتصر أبطالها على دول، إنَّما على كيانات متأتِّية عن تفكك الدول أو مرتبطة بادعاءات استقلالية أو بمنظمات إجرامية. إنَّ نظامًا قانونيًا مؤلفًا من قواعد صيغت عبر العصور لتنظيم العلاقات بين دول سيِّدة يجد صعوبة في مواجهة صراعات تحركها كيانات لا علاقة لها بطابع الدول التقليدي. وهذا ينطبق بنوع خاص على الفرق الإرهابية.

باتت آفة الإرهاب في هذه السنوات أكثر إيذاءً وخلَّفت مجازر وحشية، ملأت بعوائقها طريق الحوار والتفاوض، مغيظة النفوس ومثيرة المشاكل، خصوصًا في الشرق الأوسط.

مع ذلك، وكي ينال الصراع ضد الإرهاب الغلبة لا يجب استنفاده فقط في عمليات قمعية وتأنيبية. فمن الجوهري أن يترافق اللجوء الضروري إلى القوة بتحليلات جريئة وواضحة للأسباب الكامنة وراء الهجمات الإرهابية. كما ويجب في الوقت عينه التعبير عن الالتزام ضد الإرهاب على الصعيدين السياسي والتربوي: من جهة، بإزالة حالات الظلم التي تنبع منها غالبًا دوافع أكثر العمليات يأسًا ودموية؛ ومن جهة أخرى، بالإصرار على تربية مستوحاة من احترام الحياة البشرية في كل ظرف: إنَّ وحدة الجنس البشري، في الحقيقة، هي واقع أقوى من كل الانقسامات الطارئة التي تفرق أناسًا وشعوبًا.

تُعلِّم الأحداث التاريخية أنَّ بناء السلام لا يمكنه تجاوز احترام نظام أدبي وقانوني، وكما يقول المثل القديم:"حافظ على النظام فيُحافظ النظام عليك". على القانون الدولي أن يحول دون سيطرة شريعة الأقوى. وهدفه الجوهري إبدال "قوة السلاح المادية بقوة القانون الأخلاقية"، محدِّدًا عقوبات مناسبة للمخالفين، وتعويضات ملائمة للضحايا. وهذا يصلح أيضًا لكل الحكام الذين ينتهكون بلا عقاب حقوق الإنسان، مُتخفِّين وراء حجة مرفوضة بأنّ الأمر يتعلق بشؤون داخلية في بلادهم.

في ختام هذه الاعتبارات، أرى من الواجب التذكير بأنَّ شرط قيام سلام حقيقي في العالم هو أن تجد العدالة كمالها بالمحبة ... تظهر المحبة والعدالة، في بعض الأحيان، قوَّتَين متخاصمتَين، وفي الحقيقة ليستا سوى وجهَين للواقع نفسه، وبُعدَين للوجود البشري، عليهما إكمال بعضهما البعض.

لهذا السبب ذكَّرت، مرارًا عديدة، المسيحيين والأشخاص ذوي الإرادة الحسنة بضرورة الغفران لحل مشاكل الأفراد والشعوب. لا سلام بدون غفران! أكرِّرها أيضًا في هذه المناسبة، وحاضرة نصب عينيَّ بنوع خاص، الأزمة التي لا تزال تعبث بفلسطين وبالشرق الأوسط: لن يوجد حل للمشاكل الخطيرة التي تعانيها شعوب تلك المناطق منذ زمن بعيد، طالما لم يقرَّر بعد تخطي منطق العدالة المجردة، للانفتاح على منطق الغفران.

 

 


 








All the contents on this site are copyrighted ©.