2005-04-08 13:23:44

يوحنا بولس الثاني شكرًا لك

رائحة خشب نعشك المتواضع تشهد على تاريخ عبَقَ بحبريَّة بدَّلت التاريخ


لم تتسع ساحة القديس بطرس بالفاتيكان وشارع المصالحة والأزقة المجاورة لمئات آلاف الحجاج والمؤمنين القادمين من إيطاليا ومختلف أنحاء العالم تكريماً لرجل شاءت له العناية الإلهية أن يشارك في صنع تاريخنا المعاصر وأن يقود الكنيسة في زمن طُبع بتغيرات جذرية وأن ينجو من الموت بأعجوبة في عام 1981، ليُدخل الكنيسة في الألف الثالث، ويرعى شعب الله ويكون موجوداً بينه، في أي مكان من أقاصي الأرض إلى أقاصيها بجسده المتألم أحياناً كثيرة وبفكره المثقل بآلام البشرية ومآسيها.

ما يقارب مائتي ملك وملكة ورئيس دولة وحكومة حضروا الجنازة، التي قيل عنها إنها "أكبر جنازة في تاريخ البشرية" ... أكثر من مليون شخص تدفعهم محبتهم للبابا فويتيوا، تدفقوا إلى المدينة الخالدة، من إيطاليا، بولندا، والدول المجاورة والبعيدة، لحضور جنازة الأب الأقدس لكن وصولهم إلى ساحة القديس بطرس و الأزقة المجاورة كان مستحيلاً، فنُشرت في وسط العاصمة الإيطالية شاشات عملاقة لنقل هذا الحدث، الذي تابعه مباشرة مئات آلاف الأشخاص في مختلف ساحات المدينة الخالدة، والملايين عبر شاشات التلفزة في كافة أنحاء الأرض.

أنظار العالم كلّه توجّهت اليوم إلى الفاتيكان وتأثرت القلوب وعلا التصفيق لدى خروج جثمان الأب الأقدس من بازيليك القديس بطرس، داخل نعش خشبي بسيط ومتواضع، محمولاً على أكتاف اثني عشر رجلاً ليوضع على رتاج البازيليك الفاتيكانية أمام أقوياء الأرض وحكامها.  وكأن الحبر الأعظم شاء أن يوجه رسالة أخيرة لمن يؤمن بأن قوة الإنسان تكمن في جاهه وماله ولمن يعيش حياته سعياً وراء هذه القوة الزائفة والزائلة.

وُضع نعش الأب الأقدس على رتاج البازيليك، وقد حُفر عليه حرف الـ"ميم" دلالة على مريم العذراء التي قادت خطى فويتيوا منذ صغره وحتى وفاته، ووُضع على النعش الكتاب المقدس.  بعدها بدأت مراسم الجنازة التي ترأسها عميد مجمع الكرادلة نيافة الكاردينال جوزيف راتزينيغر، وألقى عظة جاء فيها ما يلي:

 

  "اتبعني" قال الرّب القائم من الموت لبطرس، كآخر كلمة تلفّظ بها لهذا التلميذ، المختار ليرعى الخراف. "اتبعني" – عبارة المسيح المقتضبة هذه يُمكن اعتبارها مفتاحاً لفهم الرسالة المتأتية عن حياة فقيدنا الحبيب البابا يوحنّا بولس الثّاني، الذي سنواري جثمانه اليوم الثرى كزرع طيّب للخلود ـ والقلب يغمره الحزن وفي الآن عينه يغمره فرح الرجاء والامتنان العميق.

 

   هذه هي مشاعر نفوسنا، إخوتي وأخواتي بالمسيح، الحاضرين في ساحة القدّيس بطرس والطرقات المحاذية لها وفي أماكن أخرى من مدينة روما المكتظة في هذه الأيام بحشود عظيمة صامتة ومصلية. إلى الجميع أوجّه تحياتي القلبيّة. وباسم مجمع الكرادلة أريد التوجّه إلى رؤساء الدول والحكومات والبعثات الرسميّة. أحيّي سلطات وممثّلي الكنائس والجماعات المسيحيّة ومختلف الأديان. أحي أيضاً رؤساء الأساقفة والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين القادمين من كلّ القارّات؛ وبنوع خاص أحيّي الشباب الذين كان يوحنّا بولس الثّاني يحب أن يصفهم بأنهم مستقبل ورجاء الكنيسة. وأبلّغ التحيّة أيضاً، جميع من يتّحدون معنا اليوم في مختلف أنحاء العالم من خلال الإذاعة والتلفزيون في هذا الاحتفال الطقسي المهيب بمأتم الحبر الأعظم الحبيب.

 

   اتبعني ـ منذ أن كان تلميذاً شاباً تميّز يوحنّا بولس الثاني بحماسته للأدب، المسرح، والشِّعر. وأثناء عمله في مصنع كيميائي محاطاً بالخطر والإرهاب النازي، سمع صوت الرّب يقول له: اتبعني! في هذا الإطار المميّز بدأ بقراءة كتب في الفلسفة واللاّهوت، ثمّ دخل إلى المدرسة الإكليريكيّة السريّة التي أسّسها الكردينال سابييها، وبعد الحرب تمكّن من إتمام دروسه في كليّة اللاّهوت بجامعة ياجيلّونيكا في كراكوفيا. حدّثنا مراراً عديدة عن كهنوته في رسائله إلى الكهنة وفي كتبه التي تسرد قصّة حياته، وسيم كاهناً في الأوّل من تشرين الثّاني نوفمبر من عام 1946.

في هذه النّصوص يفسّر يوحنّا بولس الثاني معنى كهنوته منطلقاً بنوع خاص من عبارات ثلاث للسيّد المسيح، الأولى هي:"لستم أنتم من اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتنطلقوا فتُثمِروا ويبقى ثَمَرُكم" (يوحنّا: 16,15)؛ والعبارة الثانية هي:"الراعي الصالح يبذل نفسه في سبيل الخراف" (يوحنّا: 11,10). والعبارة الأخيرة:"كما أحبّني الآب كذلك أنا أحببتكم. فاثبتوا في محبّتي" (يوحنّا:9,15).

تتجلّى لنا في هذه الكلمات نفسية البابا بكاملها. لقد ذهب حقيقة إلى كلّ مكان وبدون كلل ليحمل الثمار، ثمار تبقى. "هلمّوا لنذهب!"، هو عنوان كتابه ما قبل الأخير. "هلمّوا لنذهب!" بهذه الكلمات أيقظنا من إيمان تَعِبٍ ومن سبات تلاميذ الأمس واليوم. "هلمّوا لنذهب!" يقولها لنا أيضاً اليوم.

لقد كان قداسة البابا كاهناً حتّى أقصى الحدود، لأنّه وهب حياته لله من أجل خرافه ومن أجل العائلة البشرية جمعاء، في فعل عطاء يومي لخدمة الكنيسة وخصوصاً في محن الأشهر الأخيرة الصّعبة. صار هكذا واحداً مع المسيح، الراعي الصالح الذي يحبّ خرافه. وأخيراً "اثبتوا في محبّتي": البابا الذي سعى إلى لقاء الجميع، وكانت عنده المقدرة على الغفران وانفتاح القلب على الجميع، يقول لنا اليوم أيضاً بكلمات الرّب يسوع هذه:إن ثبتنا في محبّة المسيح نتعلّم في مدرسته فنّ الحبّ الحقيقي.

 

   اتبعني! في شهر تمّوز يوليو عام 1958 بدأت للكاهن الشاب كارول فويتيلا مرحلة جديدة في السير مع الرّب يسوع ووراءه. توّجه كارول في أحد الأيام كعادته مع فريق من الشباب المولعين برياضة "الكانوا" إلى بحيرات "ماسوري" لإمضاء العطلة معاً، وكان يحمل معه رسالة تدعوه للقاء كبير أساقفة بولندا، الكردينال فيشيسكي، وكان مدركاً لغاية اللقاء: وهو تعيينه أسقفاً مساعداً على أبرشيّة كراكوفيا. أن يترك التعليم الأكاديمي وهذا الاتحاد المثير مع الشباب، واللّهفة العقليّة الكبيرة لمعرفة وشرح سر الإنسان المخلوق، ليُجسّد في عالم اليوم المفهوم المسيحي لكينونتنا ـ وكان قد ظهر له كلّ ذلك ضياعاً لذاته، للهوية الإنسانيّة لهذا الكاهن الشّاب.

اتبَعني ـ قبل كارول فويتيلا الدعوة وأصفى من خلال نداء الكنيسة لصوت المسيح. ثمّ أدرك كم هي صحيحة كلمات الرّب يسوع القائل:"من أراد أن يستبقي حياته يفقدُها، ومن فقد حياته يُخلّصها" (لوقا: 33,17). قداسة البابا نعرفه جميعاً، لم يرغب إطلاقاً في إنقاذ حياته والاحتفاظ بها لذاته، بل أراد أن يبذل ذاته بلا هوادة، حتّى آخر لحظة، من أجل المسيح ومن أجلنا أيضاً. بهذه الطريقة تحديداً استطاع أن يختبر كيف أن كلّ ما وضع بين يدَي الرّب عاد إليه جديداً: حبّه للكلمة، للشّعر وللآداب، كان جزءاً أساسياً من رسالته الراعويّة، وأعطى حيويّة جديدة لإعلان الإنجيل عندما كان علامة للتناقض.

 

   اتبَعني! في تشرين الأوّل أكتوبر عام 1978 سمع الكردينال فويتيلا من جديد صوت الرّب. وتجدَّد الحوار مع بطرس الذي تحدّث عنه إنجيل هذا الاحتفال:"يا سمعان ابن يونا أتحبّني؟ إرعَ نعاجي!". وعلى نداء الرّب له: يا كارول أتحبّني؟، أجاب رئيس أساقفة كراكوفيا من أعماق قلبه:"يا ربّ أنت تعلم كلّ شيء: أنتَ تعلم أنّي أُحبّكَ. لقد كانت محبّة المسيح الطاقة التي اجتاحت كيان حبيبنا الأب الأقدس، فمن رآه يُصلّي، ومن سمعه يُبشّر، يعلم بذلك. وهكذا وبفضل هذا التجذّر العميق بالمسيح استطاع أن يحمل حملاً ترزح قوى الإنساني تحت وطأته: أي أن يكون راعي قطيع المسيح، وكنيسته الجامعة.

 لسنا هنا بصدد الحديث عن تفاصيل هذه الحبريّة الغنية جدّا. ولكن أريد فقط أن أقرأ مقطعَين من ليتورجيّة اليوم تظهر فيهما عناصر أساسيّة من رسالة البابا التبشيريّة. في القراءة الأولى يقول القديس بطرس ـ ويقول البابا مع القديس بطرس ـ لنا جميعاً:"تيقّنتُ حقّا أنّ الله لا يُفضّل أحداً على أحد، فمن خافه من أيّة أمّة كانت وعمل البرّ كان عنده مرضياً. أرسل كلمته إلى بني إسرائيل وبشّر بالسّلام والأمان، على يد يسوع المسيح وهو ربّ الجميع" (أعمال:34,10 ـ 36). وفي القراءة الثانية للقديس بولس ـ مع بولس الرّسول يحثّنا قداسة البابا الراحل بصوت عال قائلاً:"أيها الإخوة الذين أُحبّهم وأودّهم وهم فرحي وإكليلي، اثبتوا على ذلك كلّه في الربّ، يا أحبّائي". (فيليبّي: 1،4).

 

   اتبعني! بالإضافة إلى مهمّة رعاية الخراف، أعلن المسيح لبطرس عن استشهاده. بهذه الكلمة الختامية والموجِزة للحوار حول محبّة ومهمّة الراعي الجامع، يُذكرنا الرّب يسوع بحوار آخر، حصل أثناء العشاء الأخير. قال يسوع حينها:"حيث أنا ذاهب لا تستطيعون أن تأتوا". فقال له سمعان بطرس:"ربّ، إلى أين تذهب؟" أجاب يسوع:"لا تستطيع اليوم أن تتبعني حيث أنا ذاهب، ولكن ستتبعني ذات يوم" (يوحنّا:36.33,13). ذهب المسيح من العشاء إلى الصّليب، ذهب إلى القيامة ـ دخل في السرّ الفصحي؛ ولكن بطرس لا يستطيع الذهاب إليه. والآن ـ بعد القيامة ـ جاء هذه اللحظة، جاءت "لاحقاً".

فبرعايته قطيع المسيح، دخل بطرس في السرّ الفصحي، وذهب نحو الصّليب والقيامة. وبهذه الكلمات قال له الرّب يسوع:"...كُنتَ وأنتَ شابٌ، تشدُّ المنطقة بيدَيك، وتذهب إلى حيث تشاء. فإذا صرت شيخاً بسطتَ يديكَ، وشدّ غيرُك لك المنطقة وذهب بك إلى حيث لا تشاء". (يوحنّا: 18،21). في المرحلة الأولى من حبريّته عندما كان الأب الأقدس لا يزال شاباً ومليئاً بالحيويّة، ذهب بإرشاد المسيح إلى أقاصي العالم، وفهم أكثر فأكثر حقيقة كلام يسوع القائل:"وغيركَ يشدّ لك المنطقة...". وبهذا الاتّحاد مع يسوع المتألّم أعلن بلا كللٍ وبتجدّد دائم الإنجيل، سرّ الحبّ الذي يبلغ إلى الغاية.

 

       لقد فسر لنا السر الفصحي بأنه سر الرحمة الإلهية، وقد كتب في كتابه الأخير أن الرحمة الإلهية تضع حداً للشر.  وكتب عن محاولة الاغتيال التي تعرّض لها يقول: إن المسيح الذي تألّم من أجلنا جميعاً أعطى معنى جديداً للألم وبعداً آخر، وهو بُعد المحبة ... الألم يحرق الشر بواسطة شعلة المحبة، ويستخرج الخير من الخطيئة.  لقد شارك البابا المسيح ألمه ومحبته، لذا أصبحت رسالة ألمه وصمته خصبة إلى هذا الحد.

       لقد وجد الأب الأقدس الانعكاس الأنقى لرحمة الله في أم الله.  لقد تعمق في حبّه الأم الإلهية، هو الذي فقد والدته عندما كان طفلا.  لقد أصغى إلى كلمات يسوع المصلوب وكأنها موجّهة إليه شخصياً: "هذه هي أمّك!".  وفعل كما فعل التلميذ الذي أحبّه يسوع، فعانقها في أعماق ذاته: "كلّي لكِ".  وتعلم أن يمتثل بالمسيح من خلال والدة الله.

       لا يُمكننا أن ننسى، كيف أطل قداسة البابا من على نافذة القصر الرسولي ليمنح بركته مدينة روما والعالم في أحد الفصح الأخير من حياته، على الرغم من ألمه ومعاناته.  إننا واثقون بأن هذا البابا الحبيب، يطل علينا الآن من نافذة بيت الآب، يرانا ويباركنا.  نعم، باركْنا أيها الأب الأقدس!  إننا نوكل نفسك الحبيبة إلى والدة الله، والدتك، التي قادت خطاك في كلّ يوم، وتقودك اليوم باتّجاه مجد ابنها الأبدي، مجد يسوع المسيح ربّنا، آمين.


 








All the contents on this site are copyrighted ©.