2005-01-02 09:04:50

رسالة قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني بمناسبة الاحتفال بيوم السلام العالمي 1 كانون الثاني يناير 2005


لا تدع الشر يقهرك

بل كن بالخير للشر قاهرا

 

 

1. مع مطلع السنة الجديدة أتوجه من جديد إلى المسؤولين عن الأمم  وإلى جميع الرجال والنساء ذوي الإرادة الطيبة والمدركين ضرورة بناء السلام في العالم. لقد اخترت عنوانا ليوم السلام العالمي 2005 كلمات القديس بولس إلى أهل رومية:"لا تدع الشر يقهرك، بل كن بالخير للشر قاهرا" (رومية 21،12). لا يقهر الشر بالشر: فبهذه الوسيلة في الواقع، يقهرنا الشر بدل أن نقهره.

يوضح التطلع الذي رسمه الرسول حقيقة أساسية: السلام هو نتيجة لمعركة طويلة وملزمة تنتهي بانتصار الخير على الشر. أمام سيناريوهات عنف النزاع الأخوي المأسوية والدائرة في أنحاء عديدة من العالم وما تولده من آلام وظلم يبقى الخيار الوحيد والبناء قول القديس بولس تجنبوا الشر والزموا الخير (رومية 9،12). 

السلام خير لا بد من إنمائه بالخير: إنه سلام للأشخاص والعائلات وأمم الأرض والإنسانية بكاملها؛ لكنه خير يجب حمايته وتعزيزه عبر خيارات وأعمال خير. هكذا ندرك حقيقة قول بولس:"لا تجزوا أحدا شرا بشر" (رومية 17،12). السبيل الوحيد للشر للخروج من حلقة الشر المفرغة هو قبول كلمة الرسول:" لا تدع الشر يقهرك، بل كن بالخير للشر قاهرا" (رومية 21،12).

 

الشر، الخير والمحبة

2. لقد عرفت الإنسانية منذ الأصول خبرة الشر المأسوية وحاولت معرفة جذوره وشرح أسبابه. ليس الشر قوة مستترة تعمل في العالم بفعل آليات حتمية ومبهمة. إن الشر يمر عبر الحرية الإنسانية. وهذه الصفة بالذات التي تميز الإنسان عن سواه من الكائنات الأخرى على الأرض تقع في مركز مأساة الشر وترافقه باستمرار. للشر وجه واسم: وجه رجال ونساء يختارونه بحرية. جاء في الكتاب المقدس أنه في بداية التاريخ تمرد آدم وحواء على الله وقتل قاين أخاه هابيل (التكوين 3 - 4). كانت أولى الخيارات الخاطئة تلتها أخطاء أخرى عبر القرون. وكل خيار يحمل في طياته مفهوما أدبيا جوهريا يقتضي من صاحبه مسؤوليات معينة ويشرك علاقات الشخص الأساسية مع الله والآخرين والخليقة. وإذا بحثنا عن مركباته العميقة نرى أن الشر في نهاية المطاف هو التملص المأسوي من مقتضيات المحبة[1]. أما الخير الأدبي فيولد من المحبة ويظهر بشكلها ليتوجه نحوها. هو أمر واضح بالنسبة للمسيحي الذي يعي أن المشاركة في جسد المسيح السري تضعه في علاقة خاصة ليس فقط مع الرب بل مع الأخوة أيضا. إن منطق المحبة المسيحية الذي يشكل في الإنجيل القلب النابض للخير الأدبي يدفع، إذا ما تمطى نحو النتائج، إلى محبة الأعداء:"إذا جاع عدوك فأطعمه، وإذا عطش فاسقه" (رومية 20،12).

 

"قواعد" القانون الأدبي الشامل

3. إن نظرنا إلى الوضع الراهن في العالم لرأينا انتشارا مدهشا لانعكاسات الشر على الصعيدين الاجتماعي والسياسي: من الفوضى في المجتمعات إلى الشغب والحروب، من الظلم إلى العنف تجاه الآخر وقمعه. ولتوجيه مسارها بين معايير الشر والخير المتضاربة تحتاج الأسرة البشرية إلى العودة لإرث القيم الأدبية المشترك الذي وهبها إياه الله. ولهذا بالذات يقول القديس بولس للعازمين على قهر الشر بالخير واحرصوا على أن تعملوا الصالحات وسالموا جميع الناس (رومية 12،17-21).

       في خطابي أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة لعشر سنوات خلت، تطرقت إلى العمل المشترك في خدمة السلام وأشرت إلى "قواعد" القانون الأدبي الشامل [2]، التي تطرقت إليها الكنيسة في مواقفها المتعددة في هذا المضمار. إن هذا القانون، إذ يوحي بقيم ومبادئ مشتركة، يجمع بين البشر على الرغم من اختلاف الثقافات ولا يتغير:"يبقى في أفق نمو الآراء والتقاليد ويدعم نموها ... لا يمكن تدميره أو انتزاعه من قلب الإنسان حتى ولو انتهكت مبادئه فهو ينتعش من جديد في حياة الأفراد والمجتمع"[3].

4. إن قواعد القانون الأدبي المشتركة تفرض التزاما مستديما ومسؤولية من أجل ضمان احترام حياة الأشخاص والشعوب وتعزيزها. وفي ظل هذه القواعد لا بد من التنديد بشدة بالشرور ذات الطابع الاجتماعي والسياسي التي يتخبط فيها العالم ولا سيما تلك التي يسببها انفجار العنف. كيف لنا، في هذا الإطار، ألا نتوجه بالفكر إلى القارة الأفريقية المحبوبة حيث تدور نزاعات حصدت ولا تزال تحصد ملايين الضحايا؟ كيف لنا ألا نشير إلى الوضع الخطير في فلسطين، أرض يسوع، حيث يصعب جمع خطوط التفاهم المتبادل، في الحقيقة والعدالة، التي قطعها نزاع تغذيه كل يوم بطريقة مقلقة اعتداءات وأعمال انتقام؟  وما القول عن ظاهرة العنف الإرهابي التي يبدو أنها تدفع بالعالم بأسره نحو مستقبل من الخوف والقلق؟ كيف لنا أخيرا ألا نشير بمرارة إلى استمرار المأساة العراقية وللأسف في أوضاع غاب فيها اليقين والأمن للجميع؟

       لتحقيق خير السلام لا بد من التأكيد، بوعي يقظ، على كون العنف شرا غير مقبول ولا يحل المشاكل. "العنف خدعة لأنه مخالف لحقيقة إيماننا وحقيقة إنسانيتنا. العنف يدمر ما يدعي بأنه يدعمه: الكرامة، الحياة، حرية الكائنات البشرية"[4]. لا بد بالتالي من إنماء تربية الضمائر على عمل الخير، وبخاصة لدى الأجيال الناشئة، في أفق نزعة إنسانية كاملة ومتينة تشير وتصبو الكنيسة إليها. استنادا إلى هذه الأسس بإمكاننا إطلاق نظام اجتماعي، اقتصادي وسياسي يأخذ بعين الاعتبار كرامة كل شخص وحريته وحقوقه الأساسية.    

 

خير السلام والخير العام

5. لتدعيم السلام، بقهر الشر بالخير، لا بد من التوقف عند "الخير العام"[5] وتبعاته الاجتماعية والسياسية. عندما يرسخ الخير العام على مختلف المستويات تزرع بذور السلام. أيمكن الشخص أن يحقق ذاته كليا بالتجرد عن طبيعته الاجتماعية أي عن كونه "مع" و "من أجل" الآخرين؟ الخير العام يتعلق به إلى حد بعيد وبجميع الأشكال التعبيرية للحياة الاجتماعية الإنسانية: العائلة، التجمعات، الرابطات، المدن، الأقاليم، الدول، جماعات الشعوب والأمم. إن الجميع، بطريقة أو بأخرى، ملتزمون في تحقيق الخير العام والبحث المتواصل عن خير الآخرين. وهي مسؤولية تقع بالأخص على عاتق السلطات السياسية في مختلف مستوياتها لأنها مدعوة إلى توفير الشروط الاجتماعية التي تسهل نمو الشخص الكامل لدى الكائنات البشرية[6].

       وبالتالي فإن الخير العام يقتضي احترام الشخص وتعزيز حقوقه الأساسية وكذلك أيضا احترام حقوق الأمم ضمن تطلع شمولي. يقول المجمع الفاتيكاني الثاني في هذا الصدد:"بما أن العلاقات البشرية أخذت تتأصل وتنتشر رويدا رويدا لتعم الكون بكامله، أخذ الخير العام ينتشر ويتسع أكثر فأكثر؛ ومن ثم فإنه يحوي ضمن طياته حقوقا وواجبات تتعلق بالجنس البشري بأسره. وعلى كل جماعة أن تحسب حسابا لحاجات ولتوق الجماعات الأخرى الشرعي، كما أن عليها أيضا أن تحسب حسابا للخير العام الذي يشمل العائلة البشرية بكاملها"[7].  إن خير البشرية بأسرها، بما فيها الأجيال الناشئة، يقتضي تعاونا دوليا حقا على كل أمة أن تساهم في تحقيقه[8].

       على كل حال، إن رؤى تنتقص من الواقع البشري من شأنها أن تحول الخير العام إلى بحبوحة اجتماعية واقتصادية مجردة من أي تطلع متسام وتفرغه من مبرر وجوده. لكن الخير العام يكتسب بعدا متساميا لأن الله هو الغاية النهائية لخلائقه[9]. زد إلى ذلك أن المسيحيين يعرفون أن يسوع ألقى النور على تحقيق الخير العام الحقيقي للبشرية. فالتاريخ يسير نحو المسيح وفيه يبلغ ذروته: بفضله وبواسطته وفي تطلع نحوه يتحقق كل واقع بشري ليبلغ كماله في الله.

 

خير السلام واستخدام خيرات الأرض

6. وبما أن خير السلام مرتبط بعمق بنمو جميع الشعوب فلا بد من اعتبار التأثيرات الخلقية لاستخدام خيرات الأرض. لقد ذكر المجمع الفاتيكاني الثاني بأن "الله أعد الأرض وكل ما فيها لخدمة جميع الأفراد والشعوب حتى أن خيرات الخليقة يجب أن تفيض بالإنصاف بين أيدي الجميع وفقا لشريعة العدل التي لا تنفصل عن شريعة المحبة"[10].

       إن الانتماء إلى الأسرة البشرية يمنح كل شخص مواطنية عالمية ويجعل منه صاحب حقوق وواجبات نظرا لما يجمع بين البشر من اتحاد في الأصل والمصير السامي. وللطفل منذ الحبل به حقوق واستحقاقات وعناية من قبل الآخرين. وليس التنديد بالفصل العرقي، وحماية الأقليات، والعناية باللاجئين وتعبئة التضامن الدولي لمساعدة المحتاجين إلا تطبيقا عمليا لمبدأ المواطنية العالمية.

7. يدخل خير السلام اليوم في علاقة وطيدة مع الخيرات الجديدة المتأتية عن المعرفة العلمية والتقدم التكنولوجي والتي تطبيقا لمبدأ توجيه خيرات الأرض للجميع تكون في خدمة حاجات الإنسان الأولية. وقد تساعد المبادرات الدولية على تطبيق مبدأ توجيه الخيرات للجميع  لتضمن للكل ـ أفرادا وأمما ـ الشروط الأساسية للمشاركة في النمو. وبالإمكان تحقيق هذا التطلع إذا ما هدمت الحواجز والاحتكارات التي تهمش شعوبا كثيرة[11].

       ولا غرو أن خير السلام سيكون مضمونا بشكل أفضل إذا تحمل المجتمع الدولي، بمزيد من روح المسؤولية، ما يعرف بالخيرات العامة أي تلك التي يتمتع بها جميع المواطنين بدون أن يختاروا في هذا المضمار. وهذا ما نراه على مستوى وطني شأن النظام القضائي ومسألة الدفاع وشبكة الطرقات أو السكك الحديدية. في عالم اليوم الذي شملته ظاهرة العولمة بشكل كامل تزداد الخيرات العامة ذات الطابع الشمولي ومعها المصالح العامة. يكفي التفكير بمكافحة الفقر والسعي لتحقيق السلام والأمن والقلق حيال التغيّرات المناخية ومراقبة انتشار الأمراض. أمام هذه المصالح لا بد للمجتمع الدولي أن يتجاوب عبر شبكة واسعة من الاتفاقات القضائية ترمي إلى تنظيم التمتع بالخيرات العامة انطلاقا من المبادئ الجامعة للمساواة والتضامن.

8. إن مبدأ خيرات الأرض معدة لجميع الناس يسمح بالتالي بمواجهة تحدي الفقر سيما إذا ما اعتبرنا أوضاع البؤس التي يعيش فيها أكثر من مليار كائن بشري. لقد وضع المجتمع الدولي نصب عينيه في مطلع الألف الجديد تخفيض هذا العدد خلال العام 2015. والكنيسة تدعم وتشجع هذا الالتزام وتدعو المؤمنين بالمسيح إلى التعبير، بشكل ملموس وفي كل الأطر، عن الحب المفضل للفقراء[12].

       تبدو مأساة الفقر مرتبطة أكثر فأكثر بمسألة الدين الخارجي للبلدان الفقيرة. على الرغم من التقدم الذي أحرز في هذا الصدد فإن المسألة لم تجد لها بعد حلولا ملائمة. لقد مرت خمس عشرة سنة على دعوتي الرأي العام بشأن كون الدين الخارجي للبلدان الفقيرة "مرتبطا بعمق بمجموعة من المشاكل مثل الاستثمارات في الخارج وحسن سير المنظمات الدولية الرئيسية  وسعر المواد الأولية وغيرها"[13]. ولا شك أن الآليات الحديثة لتخفيض الديون، والمرتكزة أساسا على احتياجات الفقراء، حسنت نوعية النمو الاقتصادي. مع ذلك فإن هذا الأخير يبدو، لعوامل كثيرة، غير كاف من ناحية الكم وبخاصة في ضوء تحقيق الأهداف الموضوعة في مطلع الألفية. فالبلدان الفقيرة تبقى سجينة حلقة مفرغة: الدخل المنخفض وتباطؤ النمو يحددان الادخار في ما الاستثمارات الضعيفة والاستخدام غير الفعال للادخار لا يسهلان النمو.

9. وكما أكد البابا بولس السادس وفعلت هذا أنا أيضا فإن العلاج الوحيد والناجع لتمكين الدول من مواجهة مسألة الفقر المأسوية ومدها بالموارد اللازمة يمر عبر تمويل أجنبي ـ عام وخاص ـ بشروط معقولة في إطار علاقات تجارية دولية تسودها المساواة[14]. من هنا ضرورة تعبئة أدبية واقتصادية، تحترم من جهة الاتفاقات الموضوعة لصالح البلدان الفقيرة، ومستعدة من جهة أخرى لإعادة النظر في تلك الاتفاقات التي قد تكون الخبرة أثبتت عبئها على بعض البلدان. في هذا التطلع لا بد من إعطاء دفع جديد لدور القطاع العام في النمو وتقصي المقترحات الجديدة لأشكال تمويل للنمو على الرغم من الصعاب التي قد تطرحها هذه المسيرة[15]. ولقد باشرت بعض الحكومات بدراسة آليات فعالة في هذا الاتجاه ومبادرات هامة ومشتركة ضمن احترام مبدأ التعاضد. ولا بد أيضا من مراقبة إدارة الموارد الاقتصادية الموجهة لنمو البلدان الفقيرة كي تعتمد معايير سليمة، أكان من قبل المانحين أم من قبل المنتفعين. إن الكنيسة تشجع هذه الجهود وتساندها. يكفي التذكير، على سبيل المثال، بالإسهام الثمين الذي قدمته وكالات كاثوليكية عديدة من أجل النمو.

10. في ختام سنة اليوبيل الكبير لعام 2000 وفي الرسالة الرسولية "الألف الجديد الذي بدأ" ألمحت إلى ضرورة موهبة المحبة[16] لنشر إنجيل الرجاء في العالم. ويبدو هذا بشكل خاص عندما نقترب من المشاكل الكثيرة والحساسة التي تعيق نمو القارة الأفريقية: أفكر بالنزاعات المسلحة، والأوبئة التي تزيد من حدتها أوضاع البؤس، وعدم الاستقرار السياسي الذي يرافقه غياب الأمن الاجتماعي. إنها وقائع مأسوية تقتضي مسيرة جديدة من أجل أفريقيا: لا بد من قيام أشكال تضامن جديدة، على المستويين الثنائي والمتعدد الأطراف، مع التزام أكبر من قبل الجميع ضمن الوعي الكامل بأن خير الشعوب الأفريقية يشكل شرطا لا غنى عنه لتحقيق الخير العام الشامل.

       فلتكن الشعوب الأفريقية رائدة مصيرها ونموها الثقافي والمدني والاجتماعي والاقتصادي! كفى لأفريقيا أن تكون مصبا للمساعدات. ولتصبح طرفا مسؤولا في عملية تقاسم الثروات الإنتاجية! ولتحقيق هذه الأهداف لا بد من ثقافة سياسية جديدة وبخاصة في إطار التعاون الدولي. أود أن أكرر مرة أخرى أن النقص في تنفيذ الوعود بشأن مساعدة القطاع العام للنمو ومسألة عبء الدين الدولي للبلدان الأفريقية وغياب اعتبار خاص تجاه هذه الأخيرة في العلاقات التجارية الدولية، تشكل عوائق خطيرة أمام السلام وبالتالي لا بد من مواجهتها وتخطيها. ولتحقيق السلام في العالم يكتسب اليوم دورا حاسما وهاما الوعي بالترابط بين البلدان الغنية والفقيرة. لهذا "إما أن يشمل النمو جميع أجزاء العالم، وإما أن يمسي عرضة للانحسار حتى في المناطق المعروفة بحركة تطور مستمر"[17].

 

شمولية الشر والرجاء المسيحي

11. أمام المآسي العديدة التي يتخبط فيها العالم يعترف المسيحيون بثقة متواضعة بأن الله وحده يسمح للإنسان والشعوب  بتخطي الشر والبلوغ إلى الخير. لقد افتدانا المسيح بموته وقيامته "فقد اشتريتم وأُدِّيَ الثمن" (1قورنتس 20،6؛ 23،7) وكان الخلاص للكل. بإمكان الجميع بعونه قهر الشر بالخير.

       إن المسيحي، إذ هو على يقين بأن الشر لن ينتصر، إنما يزرع رجاء لا يقهر  يكون سندا له في إنماء العدالة والسلام. وعلى الرغم من الخطايا الشخصية والاجتماعية التي تميز تصرف البشر فإن الرجاء يعطي وثبة متجددة للالتزام من أجل العدالة والسلام إلى جانب ثقة حازمة بإمكانية بناء عالم أفضل.  فإذا كان "سر الإلحاد" (2 تسالونيكي 7،2) حاضرا في العالم ويعمل فيه فلا ننسى أن الإنسان المفتدى يملك طاقات كافية لمواجهته. الإنسان المخلوق على صورة الله والذي افتداه المسيح "الذي اتحد نوعا ما بكل إنسان"[18]، بإمكانه أن يساهم بشكل ناشط في انتصار الخير. "إن روح الرب ملأ المسكونة" ( الحكمة 7،1). على المسيحيين، ولا سيما منهم المؤمنين العلمانيين، ألا يخبئوا هذا الرجاء الخفي في قلوبهم بل بالأحرى عليهم أن يظهروه أيضا بارتدادهم المستمر ومحاربتهم ضد "ولاة عالم الظلمة وضد الأرواح الشريرة" (أفسس 12،6) وحتى من خلال بنى الحياة العلمانية"[19].

12. لا يمكن الرجال والنساء من ذوي الإرادة الطيبة أن يتقاعسوا عن واجب محاربة الشر بالخير. إنها معركة تستخدم سلاح المحبة. عندما يقهر الخير الشر تسود المحبة وحيث هناك المحبة يسود السلام. إنه تعليم الإنجيل اقترحه من جديد المجمع الفاتيكاني الثاني:"إن الشريعة الأساسية للكمال الإنساني ولتحويل العالم هي وصية المحبة الجديدة"[20].

وهذا صحيح حتى في الإطار الاجتماعي والسياسي. في هذا الصدد كتب البابا لاون الثالث عشر أن من يقع على عاتقهم واجب تحقيق السلام في العلاقات بين الشعوب عليهم أن يشعلوا في داخلهم ويغذوا في الآخرين "المحبة، سيدة وسلطانة جميع الفضائل"[21].

وليكن المسيحيون شهودا مقتنعين لهذه الحقيقة؛ وليعرفوا أن يظهروا في حياتهم أن المحبة هي القوة الوحيدة القادرة على بلوغ الكمال الإنساني والاجتماعي، ودفع التاريخ نحو الخير والسلام.

       وليجد أبناء الكنيسة، في هذه السنة المكرسة للقربان المقدس، في سر المحبة العظيم ينبوع كل اتحاد: الاتحاد بيسوع الفادي، وبواسطته، بكل الكائنات البشرية. لقد تحررنا من الشر وأضحينا قادرين على فعل الخير بواسطة موت المسيح وقيامته الحاضرين في كل احتفال إفخارستي.


وبفضل الحياة الجديدة التي وهبنا إياها بإمكاننا أن نتآخى بغض النظر عن الفوارق اللغوية والانتماء الوطني والثقافي. بكلمة، وبفعل المشاركة في الخبز والكأس نفسهما بإمكاننا أن نشعر بأننا "عائلة الله" ونساهم معا في بناء عالم يرتكز إلى قيم العدالة والحرية والسلام.

 

 

عن الفاتيكان، 8 ديسمبر 2004

يوحنا بولس الثاني



[1]  يقول القديس أغوسطينوس في هذا الصدد:"محبتان أسستا مدينتين: محبة الذات إلى حد الازدراء بالله والتي أسست المدينة الأرضية؛ ومحبة الله إلى حد احتقار الذات والتي أسست المدينة السماوية" (حضارة الله، 28).

[2]  يوحنا بولس الثاني، الخطاب أمام الجمعية العمومية الخمسين للأمم المتحدة (5 أكتوبر 19953؛ تعاليم البابا يوحنا بولس الثاني  18/2 (1995)، 732.

[3]  التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1958.

[4]  يوحنا بولس الثاني، من العظة في دروغيدا، إرلندا (29 سبتمبر 1979)،9.

[5]  وفقا لمفهوم لغوي واسع فإن الخير العام هو:"مجموعة أوضاع وظروف اجتماعية تسمح للجماعات ولكل فرد من أفرادها بالوصول إلى الكمال بطريقة أكثر شمولا سهولة" (دستور راعوي "فرح ورجاء"، 26).

[6]  يوحنا الثالث والعشرون، الرسالة العامة "أم ومعلمة" (1961417.

[7]  دستور راعوي "فرح ورجاء"، 26.

[8]  يوحنا الثالث والعشرون، الرسالة العامة "أم ومعلمة" (1961421.

[9] يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المائة"،41 (1991 844.

[10] دستور راعوي "فرح ورجاء"، 69.

[11]  يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المائة"،35 (1991837.

[12]  يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الاهتمام بالشأن الاجتماعي"، 42 (1988572.

[13]  خطاب إلى المشاركين في أسبوع الدراسة للأكاديمية البابوية للعلوم (27 أكتوبر 19896: تعاليم (1989)، 1050.

[14]  بولس السادس، الرسالة العامة "في ترقي الشعوب"، (1967) 56، 61؛ يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الاهتمام بالشأن الاجتماعي"، 33 ـ 34 (1988)،  557ـ 560.

[15]  رسالة إلى رئيس المجلس البابوي عدالة وسلام؛ صحيفة أوسيرفاتوري رومانو 10 يوليو 2004، صفحة 5.

[16]  الرسالة العامة "الألف الجديد الذي بدأ" رقم 50 (2001)، 303

[17]  يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الاهتمام بالشأن الاجتماعي"، 17؛ (1988)، 532.

[18]  دستور راعوي "فرح ورجاء"، 22.

[19]  دستور عقائدي "نور الشعوب"، 35.

[20]  دستور راعوي "فرح ورجاء"، 38.

[21]  البابا لاون الثالث عشر، الرسالة العامة "في الشؤون الجديدة"، 11 (1892)، 143؛ البابا بينيديكتوس الخامس عشر، الرسالة العامة "سلام الله" (1920)، 215.








All the contents on this site are copyrighted ©.