2004-10-29 15:47:31

قداسة البابا يوحنا بولس الثاني وأوروبا


"ألم يشأ المسيح ربما، أو لم يدبّر الروح القدس ربما، أن يُظهر هذا البابا البولندي، البابا السلافي، والآن بالضبط، وحدة روحية لأوروبا مسيحية؟"

كلمات أعلنها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني يوم الثالث من حزيران يونيو 1979 في مدينة نيزنو، أرضِه، أثناءَ زيارته الرسولية الأولى إلى بولندا، بعد مرور أقل من سنة على انتخابه حبرا أعظم.

أثناءَها كان العالم يعيش الحرب الباردة، وكانت أوروبا منقسمة إلى كتلتين، وكانت بولندا تشكّل إحدى دول الستار الحديدي الذي كان يقسم  القارة القديمة إلى شطرَين، وبصورة غير طبيعية.  وضع أوروبا هذا كان يعكس خيارات المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.  وكانت هذه القسمة نتيجة مساومة مؤتمر يالطا، غير أن يوحنا بولس الثاني كان يفكّر بقارة أوروبية مختلفة.  إنّه ساند منذ بدء حبريته فكرة ضرورة بنيان "بيت مشترك" للشعوب الأوروبية يمتد من الأطلسي وحتى جبال الأورال.

تحدّث دائماً عن إعادة التوحيد، لا عن التوسيع، وحين سقط جدار برلين، وتحطّمت الإمبراطورية السوفيتية، لفت البابا البولندي الانتباه ومن نيزنو، أيضاً إلى أنّ أوروبا ستكون بلا نفس من دون الإيمان المسيحي.

في العقد الأول من حبريتِه، كانت لفظتا الشرق والغرب تظهران متناقضتَين، وعلى الرغم من ذلك سطّر يوحنا بولس الثاني ضرورة أن تعود أوروبا لتتنفس برئتيها.  وأعلن من هذا السياق التاريخي القديسَين كيريلوس وميتوديوس مبشّرَي الشعوب السلافية، شفيعَين لأوروبا.  وخصص لهذين الأخوين اللذين حملا الديانة المسيحية إلى أوروبا الشرقية عام 1985 رسالته العامة "رسولا السلافيين".  وإلى جانب التزامِه هذا من أجل أوروبا الموحّدة، تابع البابا معتنقاً طريق الحوار المسكوني، الصعب أحياناً، وبرهن عن ذلك في مبادرة مزدوجة تركت علامة مميّزة للتاريخ وحياة الكنيسة.       دعا عام 1989 إلى عقد جمعية لسينودوس الأساقفة خاصة بأوروبا، تمّت أعمالُها في الفاتيكان تحت شعار "معاً شهودٌ للمسيح الذي حرّرنا"، ووجّه دعوة مشاركة إلى الكنائس الأرثوذكسية.

يوحنا بولس الثاني، باني الجسور العظيم، وهادم الجدران المرتفعة، حدّد وبصورة متواصلة النجمة القطبية، التي كان ينبغي أن تتبعها أوروبا.  وهذه النجمة هي الجذور المسيحية المشتركة التي لا يمكن فصمها إذا لم تشأ أوروبا أن تفقد هويتَها الشخصية.  وما يزال خالداً النداءُ المؤثّر الذي وجّهه الحبر الأعظم عام 1982 من سانتياغو دي كومبوستيلا إلى أوروبا: "استرجعي ذاتَكِ ... اكتشفي من جديد أصولَك ... وأحيي من جديد جذورَك".  توصية كرّرها قداسته مراراً وتكراراً في عبارات وكلماتٍ اختلفت في الشكل والصورة ولكن بنفس الحمية والمحبّة.

إنّه أكّد تكراراً على التزام الكنيسة من أجل بناء مدينة تكون جديرة بالإنسان في أوروبا. مدينة تتغذى من "ثقافة التضامن" لتنعش قيم الحياة المسيحيّة. ثمّ دعا إلى أن تشكّل أوروبا الجديدة سمفونيّة دول، لا قلعة منغلقة على ذاتها. تتجاوب مع حاجات الأكثر ضعفاً. من أفريقيا القريبة جدا منها، والبعيدة كثيراً أحياناً بدافع اهتمامات الأوروبيّين. وحذّر بهذا الصدد مكرّراً: إنّ مسيرة الدّمج لا تستطيع أن تراعي فقط نواح جغرافيّة واقتصاديّة، بل أن تترجم في توافق قيم مُتجدّد يُعبّر عنه في القانون والحياة.

إنّ الجذور المسيحيّة تولّف الفكرة المهيمنة في الخطابات والرسائل التي رغب البابا في تكريسها لأوروبا. وفيما كانت تجري في بروكسيل أعمال وضع صيغة تحرير الدستور الأوروبي، أكّد يوحنّا بولس الثّاني وبقوّة يقينه: أنّ الديانة المسيحيّة وسمت دائماً تاريخ أوروبا، وفنها وثقافتها... وأن من أراضيها وأديارها وكاتدرائياتها، وكنائسها، ارتفع دوماً التسبيح للمسيح، سيّد الزّمن والتاريخ.

وفي حزيران يونيو عام ألفين وثلاثة، أصدر يوحنّا بولس الثاني إرشاده الرّسولي لفترة ما بعد سينودوس "الكنيسة في أوروبا" وكتب فيه يقول:"تلفت الكنيسة اليوم الانتباه، وبمسؤوليّة متجدّدة، إلى ضرورة أن تبني أوروبا ذاتها مُجدّداً من خلال إحياء الجذور المسيحيّة علّة وجودها. وفي الرابع والعشرين من شهر آب أغسطس، عام ألفين وثلاثة، وأثناء تلاوة صلاة التبشير الملائكي، وجّه قداسته توصية ضمنها تمنياته الحارّة "بأن يتم الاعتراف في الدستور الأوروبي الجديد بجذور أوروبا المسيحيّة، التي هي ضمانة رئيسيّة لمستقبل القارّة.

وحين تمّ التوقيع على مسودّة الدستور الأوروبي من دون أية إشارة إلى الإرث المسيحي المشترك، لم يُخفِ يوحنّا بولس الثّاني مرارته وأكّد يقول:"لا تقطع جذور ولدنا منها". وعلى الرّغم من ذلك، لم يفقد شجاعته، فعهد بآماله إلى الشبيبة، كما فعل مراراً خلال سنوات حبريّته الست والعشرين الماضية، وروى أثناء تسلّمه جائزة شارلمان في الرابع والعشرين من أيار مايو الماضي حلمه الأوروبي، وقال:"إنّي أفكّر دائماً بأوروبا موحدة بفضل الشبيبة لأنها تتفاهم مع بعضها البعض بسهولة كبيرة وبغض النظر عن الحدود الجغرافيّة. وفي أوروبا التي أتصوّرها، يضع المسيحيّون ذواتهم في خدمة الجميع من أجل أوروبا الإنسان الذي يسطع وجه المسيح على محيّاه.

الوحدة الأوروبيّة إذاً حلم رافق البابا يوحنّا بولس الثّاني طوال سنوات حبريّته، لم يعرف الكلل والعناء في المطالبة بقارة موحدة ومتضامنة وقويّة بفضل جذورها المسيحيّة.

 

 








All the contents on this site are copyrighted ©.