استقبل قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم الجمعة في قاعة كليمينتينا في القصر الرسولي بالفاتيكان المشاركين في مؤتمر نظمه مجمعا الأساقفة والكنائس الشرقية وشارك فيه الأساقفة الجدد الذين تم تعيينهم هذه السنة. وللمناسبة، وجه الأب الأقدس لضيوفه كلمة استهلها مرحبا بهم، وقال إن الله يسبقكم في معرفته المُحبّة! لقد "اصطادكم" بـ "خُطَّاف" رحمته، وشباكه قد التفّت حولكم بشكل سرّي فما كان بإمكانكم إلا أن تسمحوا له بأن يستحوذ على قلوبكم. كم هو جميل أن نسمح لمعرفة الله المُحبّة أن تخترق قلوبنا، وكم هو معزّي أن نعرف أنّه يعرفنا حقًّا كما نحن وبأنّه لا يخاف من ضعفنا. وكم هو مفرح أيضًا أن نحافظ في قلوبنا على ذكرى صوته الذي دعانا بالرغم من نواقصنا.
تابع الأب الأقدس يقول أدعوكم يوم الأحد المقبل، وخلال عبوركم للباب المقدّس ليوبيل الرحمة الذي جذب إلى المسيح ملايين الحجاج من مدينة روما والعالم، لتعيشوا بعمق شخصي خبرة امتنان ومصالحة وتسليم كامل لحياتكم إلى راعي الرعاة. من خلال عبوركم للمسيح، الباب الأوحد، ضعوا نظركم في نظره واسمحوا له بأن يبلغكم: "نظر إليه برحمة وأحبّه". إن الغنى الأثمن الذي يمكنكم أن تحملوه معكم من روما في بداية خدمتكم الأسقفيّة هو اليقين للرحمة التي من خلالها نظر بها الله إليكم واختاركم.
أضاف الحبر الأعظم يقول أطلبوا من الله الغني بالمراحم السرّ لتجعلوا رحمته راعوية في أبرشياتكم. إن الأمر لا يتعلّق بتخفيض المتطلّبات أو بيع لؤلؤاتنا بسعر زهيد، فلا تخافوا إذًا من أن تقدّموا الرحمة كملخّص لما يقدّمه الله للعالم لأن قلب الإنسان لا يمكنه أن يطمح لما هو أكبر من هذا. وكما علّم سلفي المكرّم والحكيم "إن الرحمة هي التي تضع حدًّا للشر، فيها تظهر طبيعة الله الفريدة – قداسته وقوة الحقيقة والحب. إنها الأسلوب الذي من خلاله يواجه الله سلطان الظلام بسلطانه الإلهي والمختلف، سلطان الرحمة" (بندكتس السادس عشر، عظة في 15 نيسان 2007).
تابع البابا فرنسيس يقول أريد أن أقدّم لكم ثلاثة تأملات صغيرة كمساهمة لهذه الرسالة الكبيرة التي تنتظركم وهي أن تجعلوا الرحمة من خلال خدمتكم راعويّة أي في متناول الجميع وملموسة. إجعلوا من خدمتكم أيقونة للرحمة القوة الوحيدة القادرة على جذب قلب الإنسان بشكل دائم ومستمرّ. حتى اللص في ساعته الأخيرة قد سمح لذلك الذي "لم يَعمَل سوءًا" بأن يجتذبه. يمكننا أن نتجاهل إلهًا بعيدًا وغير مبال ولكن ليس من السهل أبدًا أن نقاوم إلهًا قريبًا لهذه الدرجة وقد جُرح محبّة بنا، وبالتالي يمكننا أن نقدّم لهذا العالم المُستعطي الصلاح والجمال والحقيقة والمحبة والخير حتى في أوعية مُفتّتة بعض الشيء لأن الأمر لا يتعلق بأن نجذب الأشخاص إلينا لأن العالم قد تعب من "السحرة" الكاذبين. فالناس يشعرون ويبتعدون عندما يرون أشخاصًا نرجسيين يستغلّون الآخرين من أجل مصالحهم الخاصة، لذلك اسعوا دائمًا لكي ترضوا الله! إن عالم اليوم هو كصموئيل المضطرب ويحتاج لمن يمكنه أن يميّز، وسط الضجيج الذي يقلقه، صوت الله السريّ الذي يدعوه؛ يحتاج لأشخاص يعرفون كيف يُخرجون من القلوب المُضطربة ذلك التلعثم المتواضع: "تكلّم يا رب فإن عبدك يسمع".
أضاف الأب الأقدس يقول إن الله لا يستسلم أبدًا! أما نحن فقد اعتدنا على الاستسلام وغالبًا ما نفضل بأن نُقنع أنفسنا بأن الله ليس موجودًا ونبتكر لأنفسنا خطابات وتفسيرات لنبرّر الكسل الذي يكبّلنا. إن كل ما هو كبير يحتاج لمسيرة تُمكّننا من الدخول إليه، وهذا هو الحال أيضًا مع الرحمة الإلهيّة التي لا تنضب! فعندما تستحوذ علينا الرحمة تتطلّب منا مسيرة تنشئة، وبالتالي يكفي أن ننظر إلى الكنيسة الأم التي تلد من أجل الله والمعلّمة التي تُنشِّئ الذين تلدهم لكي نتمكن من فهم الحقيقة بكاملها. إن رحمة الله هي الحقيقة الوحيدة التي تسمح للإنسان بألا يهلك، وفيها يمكن للإنسان على الدوام أن يتأكّد بأنّه لن يسقط أبدًا في تلك الهاوية التي تجرّده من المعنى والأُفُق.
المسيح هو وجه الرحمة، تابع الأب الأقدس يقول، وفيه تبقى الرحمة تقدمة دائمة لا تنضب، وفيه تُعلن أن الهلاك لن يدرك أحدًا أبدًا، لأن كل شخص بالنسبة له هو فريد ومميّز! الخروف الوحيد الذي من أجله يخاطر في العاصفة؛ والدرهم الوحيد الذي اشتراه بدمه؛ والابن الوحيد الذي كان ميتًا فعاش. أسألكم ألا تنظروا إلى مؤمنيكم إلا من خلال هذه الرؤية التي تجعلهم فريدين ومميّزين! كونوا أساقفة قادرين على تنشئة كنائسهم على عظمة المحبّة هذه. فكروا بالضرورة الملحة للتربية ونقل القيم، بالجهل العاطفي وبالتمييز في العائلات وبالسعي إلى السلام جميع هذه الأمور تتطلّب منكم مسيرات تنشئة ومرافقة بصبر ومثابرة.
يأتي إلى ذهني في هذا السياق يسوع الذي يُنشّئ تلاميذه. خذوا الأناجيل ولاحظوا كيف يُنشِّئ المعلّم تلاميذه بصبر على سرّ شخصه، ولكي يطبع فيهم شخصه يمنحهم، في النهاية، الروح القدس الذي "يُعلّمهم جميع هذه الأمور". اعتنوا بعلاقتكم الحميمة مع الله، مصدر تسليم الذات والحريّة. وأسألكم أن تتحلوا بعناية خاصة بمؤسسات التنشئة في كنائسكم ولاسيما بالإكليريكيات ولا تسمحوا للأعداد والكميات بأن تغرّكم بل ابحثوا عن نوعيّة التتلمذ ولا تحرموا الإكليريكيين من أبوّتكم الحنونة والصارمة وساعدوهم لينموا في اكتساب حرية العيش في الله، كما يقول صاحب المزمور: "أُهَدِّئ نفسي وأُسكِتُها مِثلَ مَفطومِ في حِضنِ أُمِّهِ" (مز 131، 2).
وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول إسمحوا لي بأن أقدّم لكم نصيحة أخيرة كي تجعلوا الرحمة راعويّة، لكن علي أولاً أن أعيدكم إلى طريق أريحا لنتأمّل في قلب السامري الذي تمزّق كأحشاء أُمٍّ إذ لمسته الرحمة أمام ذاك الرجل الذي وقع بين أيدي اللصوص. أريد أن أتوقف عند أحد تصرفات السامري الذي ذهب بذلك الرجل الذي التقى به إلى الفندق واعتنى بأمره. لقد اهتم بشفائه وبمستقبله. لم يكتفِ بما كان قد فعله لأن الرحمة التي اخترقت قلبه تحتاج لأن تتدفّق وتنسكب. كونوا أساقفة قلوبهم تجرحها هذه الرحمة فلا تتعبوا من مرافقة الإنسان الذي يضعه الله على دربكم، وحيثما ذهبتم تذكّروا على الدوام أن درب أريحا ليست بعيدة أبدًا.
All the contents on this site are copyrighted ©. |