2016-06-18 13:54:00

الإنجيل وقفة تأمّل عند كلمة الحياة


إتَّفَقَ أَنَّ يسوعَ كانَ يُصَلِّي في عُزَلةٍ والتَّلاميذُ مَعَهُ، فَسأَلَهم: "مَن أَنا في قَولِ الجُموع؟" فأَجابوا: "يوحَنَّا المَعمَدان". وبَعضُهم يَقول: "إِيلِيَّا". وبَعضُهم: "نَبِيٌّ منَ الأَوَّلينَ قام". فقالَ لَهم: "ومَن أَنا في قَولِكُم أَنتم؟" فأَجابَ بُطرس: "مسيحُ الله". فَنهاهم بِشِدَّةٍ أَن يُخبِروا أَحدًا بِذلك. وقال: "يَجِبُ على ابنِ الإِنسانِ أَن يُعانِيَ آلامًا شَديدة، وأَن يَرذُلَه الشُّيوخُ والأحبارُ والكَتَبَة، وأَن يُقتَلَ ويقومَ في اليَومِ الثَّالِث". وقالَ لِلنَّاسِ أَجمَعين: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفسهِ ويَحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يَومٍ ويَتبَعْني. لأنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حياتَه يَفقِدُها. وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَه في سَبيلي فإِنَّه يُخَلِّصُها".

للتأمُّل

في عمق قلب يسوع، يسمع كلمة الآب التي تناديه "أنت ابني الحبيب"، وفي قلب صلاته يستقبل الروح القدس الذي يملأه ويمسحه ليعلن عن محبّة الآب للمساكين والعميان والمأسورين والمظلومين (لو4: 18)، لكلّ من يشعر في حياته بالعرج أو الوجع أو النقصان. تجسّدت كلمة الله تمامًا في حياة يسوع، وصارت حياته كلّها تنبض بحبّ الله وحبّ البشر. يعرف يسوع تمام المعرفة أنّ الآب معه، يسكن فيه وهو يسكن في الآب، وأنّ طريق الحبّ يحوّله إلى خادم وديع ومتواضع للبشر. في الصلاة، تتأصّل علاقة يسوع بالآب، ويستقبل آنات وأحلام الناس في كلّ زمان ومكان. فالحبّ هو تيّار من الروح القدس، ينبع من قلب الآب ويتدفّق في قلب يسوع ليجمع في جسد واحد شتات البشر على مرّ الأجيال.

ولكن من يدري بما يحدث في صلاة يسوع؟ ومن يعلم سرّ قلبه؟ يعتقد كثير من الناس أنّه رجل صالح، إنسان مُرسل من الله، فهو يوحنا المعمدان وقد عاد من الموت، أو إيليا وقد رجع بعد ارتفاعه للسماء، أو أحد الأنبياء الأوّلين وقد قام. وبالفعل فشعور الناس صحيح، فلا يعرف الله إلا من غلب الموت، ولا يُعلن عن الله إلا من عبر الليل والخوف والوَحدة. ولكن تبقى معرفة الناس على مستوى خارجيّ فحسب، يُعجبون بيسوع، يقدّرون أعماله ويستحبّون تعاليمه، ولكن لا يؤمنون به. على مستوى الإعجاب، يردّد الناس شائعات عن يسوع، قد تقول شيئًا عنه، كأنّه يأتي من الله، على نهج الأنبياء، يرتوي من الروح نفسه الذي غذّى إيليا ويوحنا المعمدان، ولكنّ الحقيقة تظلّ غائبة.

إنّ معرفة الله ليست إدراكًا ذهنيًّا لمعلومات قيّمة، أو إعجابًا بقدرات حكميّة أو عجائبيّة. الله محبّة والعلاقة به تقوم على الإيمان، ويعني هذا أنّ الإنسان يلقي بذاته تمامًا بين يديّ الله، نبع كلّ أبوّة في السماء والأرض، واثقًا كلّ الثقة بأنّ حياته تجد قيمتها ومعناها، مبدأها وغايتها في قلب الآب. وحينئذ يستنير العقل ويستضيء الذهن بالمعرفة الشخصيّة التي تجمع الإنسان بالله أبيه، وفي نور حبّ الله يستجمع الإنسان كلّ ذاته وتاريخه، شخصيّته وكيانه، فرِحًا بألوان حياته الجميلة وغير خائف أو هارب من ظلالها. وبالتأكيد أسلم يسوع حياته وذاته، حاضره ومستقبله، بين يديّ أبيه، مات عن أن يحيا بنفسه ليحيا بالآب الذي أرسله (يو6: 57)، فعرف الآب وثبت في محبّته (يو15: 10)، وصار قادرًا أن يقول "كلّ ما هو لي فهو لك، وكلّ ما هو لك فهو لي" (يو17: 10).

وحين يسأل يسوع التلاميذ عن ما يقوله الناس عنه، يبلغوه بالآراء المتداولة. غير أنّ يسوع ينتظر من أصدقائه أن يدركوا شيئًا ممّا يجيش به قلبه وينعش حياته ووجوده. ويعلن بطرس عن إيمانه بأنّ يسوع هو المسيح، من مسحه الله بروحه القدوس. إنّ إيمان بطرس هو ثمرة صلاته وتأمّله اليوميّ لشخص يسوع، وبالإيمان يربط بطرس بين ما هو مكتوب في الكتاب المقدّس والواقع الشخصيّ ليسوع الإنسان، المعلّم والرفيق. إنّها قفزة وجوديّة عظيمة، فالروح القدس الذي يفتح الذهن لفهم كلمة الله هو ما يجعل بطرس يؤمن بأنّ يسوع هو من يحقّق هذه الكلمة ويجسّدها في حياته. بالإيمان، يعرف بطرس "أنّ الكلمة صار بشرًا وعاش بيننا" (يو1: 14)، فهو يسوع، ابن يوسف، الممتلئ من الروح، ذاك الذي يفيض من فمه كلام النعمة (لو4: 22).

وهنا يقود يسوع بطرس والتلاميذ إلى سرّ قلبه العميق، إنّه سرّ الحبّ الذي لا يمكن أن يتصوّره إنسان أو أن يدركه. فالله الآب هكذا أحبّ العالم حتى "أنّه وهب ابنه الأوحد، فلا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو3: 16)، أحبّ الله العالم حتى الموت حبًّا. سيمضي يسوع "المسيح" في طريق الحبّ والتضامن مع الإنسان حتى الموت، متجرّعًا كأس الرفض والكذب والعنف، ولكن مؤمنًا حتى النهاية بأنّ الحبّ هو سرّ حياة الإنسان، وبأنّه الكلمة الأخيرة على حياة البشر. وعندئذ يأخذنا الإيمان إلى اتحاد أعمق بشخص يسوع بنعمة روحه القدّوس، فنتعلم معه أن نتخلّى عن صور النجاح والسعادة الزائفة، أن نموت عن أصوات العالم الكاذبة والخادعة، وأن نمشي ضدّ تيار الأنانيّة والغرور والكبرياء، نُصبح حمقى في نظر العالم لأنّنا نفقد حياتنا ولكنّ في الحقيقة نخلّصها، نجد الفرح والسلام اللذين لا يعرفهما العالم، لأنّه لا يعرف الحبّ، ولا يعرف سرّ قلب الله الذي يعلنه لنا يسوع المسيح.








All the contents on this site are copyrighted ©.