2015-10-21 12:55:00

الإنجيل وقفة تأمل عند كلمة الحياة


في ذَلِكَ ٱلزَّمان، وَبَينَما يَسوعُ خارِجٌ مِن أَريحا، وَمَعَهُ تَلاميذُهُ وَجَمعٌ كَثير، كانَ ٱبنُ طيماوُسُ (وَهُوَ بَرطيماوُسُ) ٱلأَعمى جالِسًا عَلى جانِبِ ٱلطَّريقِ يَستَعطي. فَلمّا سَمِعَ بِأَنَّهُ يَسوعُ ٱلنّاصِريّ، أَخَذَ يَصيح: "رُحماكَ، يا ٱبنَ داوُد، يا يَسوع!" فَٱنَتَهَرَهُ أُناسٌ كَثيرونَ لِيَسكُت، فَصاحَ أَشَدَّ ٱلصِّياح: "رُحماكَ، يا ٱبنَ داوُد!" فَوَقَفَ يَسوع، وَقال: "أُدعوهُ". فَدَعوا ٱلأَعمى، وَقالوا لَهُ: "تَشَدَّد وَقُم! فَإِنَّهُ يَدعوك". فَأَلقى عَنهُ رِداءَهُ، وَوَثَبَ وَجاءَ إِلى يَسوع. فَقالَ لَهُ يَسوع: "ماذا تُريدُ أَن أَصنَعَ لَكَ؟" قالَ لَهُ ٱلأَعمى: "رابوني، أَن أُبصِر". فَقالَ لَهُ يَسوع: "إِذهَب! إيمانُكَ خَلَّصَكَ". فَأَبصَرَ مِن وَقتِهِ وَتَبِعَهُ في ٱلطَّريق (مرقس 10، 46- 52).

للتأمل

يقدّم لنا إنجيل هذا الأحد نص القديس لوقا حول أعمى أريحا، ويظهر إيمان أعمى أريحا، من كونه كان يستعطي خبزًا أو نقودًا من المارّة، أمّا من يسوع فطلب البصر. وهذا ما يحتاج إليه كل واحد منّا، وفي كل يوم. نلتمس نور المسيح، مثلما نلتمس نور الشمس. فيسوع قال عن نفسه: "أنا نور العالم. مَن يتبعني لا يمشي في الظلام، بل يكون له نور الحياة". يسوع نور الإنسان بشخصه وكلامه وآياته وأفعاله. ليس نور يسوع نورًا خارجيًّا لعيوننا، بل هو نور داخلي لنفوسنا: نور للعقل يقوده إلى معرفة الحقيقة، ونور للإرادة الحرّة يساعدها على حسن اختيار قراراتها وأفعالها والمبادرات، ونور للضمير يجعله يقظًا لتمييز صوت الله في أعماقه، الذي يدعوه لفعل الخير وتجنّب الشرّ، ونور للقلب ينعشه ويحيي فيه المحبّة والحنان وسائر المشاعر الإنسانية.

آمن الأعمى وأدرك أنّ يسوع الناصري هو ابن داود، المسيح الآتي، الحامل الرحمة الإلهيّة للبشر. ولهذا هتف وازداد صياحًا: "يا ابن داود، ارحمني". كان مُدركًا أن قد أتى، مع يسوع، الزمان المسيحاني الذي تنبّأ عنه الأنبياء، وكان يسمع قراءة النبوءة وهو على باب الهيكل يستعطي. عن هذا الزمن المسيحاني تكلّم الربّ يسوع مع البعثة المُرسلة إليه من يوحنّا المعمدان وهو في السجن لتسأله من قبله: "هل أنت المسيح الآتي، أم ننتظر آخر؟" فأجاب يسوع: "إذهبا وقولا ليوحنّا ما تريان وتسمعان: العميان يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشّرون، وطوبى لمن لا يشكّ فيّ". لقد كان الأعمى المبصر الحقيقي. أمّا الذين "انتهروه ليسكت" فكانوا هم العميان، الذين لم يروا في يسوع الناصري، إلا إنسانًا.

إن الأيمان، عطيّة الله لكلّ إنسان، هو نور داخلي لكل مَن يقبله. مصدر هذا النور هو الله نفسه الذي يكشف ذاته ويعطيها للإنسان، فيصبح الإيمان جواب الإنسان، أعني قبول الله في كيانه الداخلي مع ما يوحي من حقائق، والثقة الكاملة به. ولمّا سأل يسوع الأعمى: "ماذا تريد أن أصنع لك؟" أجاب من دون تردّد: "يا معلّم، أن أُبصر!" فقال له يسوع: "إذهب إيمانك خلّصك". ولساعته أبصر وانطلق معه في الطريق". تُبيّن الآية أن الإيمان لقاء شخصي بيسوع، يشفي الإنسان من عماه الداخلي، ويخرجه من الظلمة التي يتخبّط بها، ظلمة الألم والفقر والحزن، ظلمة الخطيئة والكبرياء ومحبّة الذات، ظلمة الظلم والاستبداد والعنف، ظلمة الحقد والبغض، ظلمة الكذب والازدواجيّة... لأنّ نور المسيح يعطي معنًى وبُعدًا لكلّ حالةٍ يمرّ فيها الإنسان.

بهذا اللقاء الشخصي مع الله في الإيمان، يسلّم الإنسان ذاته لله بحريّة كاملة، كما فعل الأعمى. ولمّا مشى معه في الطريق، كما يقول الإنجيل، فذاك يعني أنّه راح يبحث عن معرفته أكثر، وأن يعمل مشيئة الله. يكتب بولس الرسول: "البارّ بالإيمان يحيا": يؤمن بالله، ويقبل كل ما قال وأوحى، وكل ما تُعلّمه الكنيسة وتعرضه لكي نؤمن به. هذا الإيمان الموصوف هو فضيلة إلهيّة، يتولّد منها فضيلة الرجاء الذي هو ثباتٌ في الإيمان، وثقة بمواعيد الله، وتوق وانتظار لتجلّيات العالم الآتي. ومن الإيمان تولد فضيلة المحبّة التي نحبّ بها الله فوق كلّ شيء، ونحبّ كل إنسان كأنفسنا، حبًّا لله.

أيها الرب يسوع، يا نور العالم، افتح عقولنا وضمائرنا والقلوب لقبول أنوارك، كما منحت البصر لعيني الأعمى. لقد جئت لكي تشفي كل إنسان من عمى البصيرة، العمى الداخلي، وأعطيت البرهان على ذلك بآية شفاء أعمى أريحا. لقد أعطيت النور لعينيه المنطفئتين، فأعط عقولنا وإراداتنا والقلوب أنوار الحقيقة المثلّثة، حقيقة الله والإنسان والتاريخ، فنقبلها بالإيمان والرجاء والمحبة، ونغتني بالفضائل الإنسانية التي تُبنى عليها حياة الإنسان. 








All the contents on this site are copyrighted ©.