2015-07-07 18:22:00

البابا فرنسيس: نحن إخوة لأن الله أرسل روح ابنه إلى قلوبنا


ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة العاشرة والنصف من صباح اليوم الثلاثاء بالتوقيت المحلّي القداس الإلهي في منتزه المئويّة الثانية في كويتو بحضور حشد كبير من الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين وقد تخللت الذبيحة الإلهيّة عظة للأب الأقدس قال فيها: تدعونا كلمة الله لعيش الوحدة لكي يؤمن العالم. أتصوّر همس يسوع هذا في العشاء الأخير كصرخة في هذه الذبيحة الإلهيّة التي نحتفل بها في "منتزه المئوية الثانية". المئوية الثانية لتلك الصرخة لاستقلال أمريكا اللاتينية. كانت هذه صرخة ولدت من الشعور بغياب الحريّات وبالاستغلال والابتزاز، "والخضوع للمناسبات المُحتملة التي تخطُر على بال عظماء الساعة" (فرح الإنجيل، عدد 213).

تابع الأب الأقدس يقول أرغب اليوم بأن تتوافق هاتان الصرختان إزاء تحدّي البشارة. لا بكلمات منمّقة ولا عبارات مُعقّدة وإنما بتوافق يولد من "فرح الإنجيل" الذي "يملأ قلب وكل حياة جميع الذين يلتقون بيسوع. أولئك الذين ينقادون له يُحرِّرُهم من الخطيئة والحزن والفراغ الداخلي والعُزلة" (فرح الإنجيل، عدد 1). نحن جميع المجتمعين اليوم حول المائدة مع يسوع نشكِّل صرخة وصيحة تولد من القناعة بأن حضوره يدفعنا إلى الوحدة، "يدلُّ على أفق جميل، كمن يقدِّم وليمة مُشتهاة" (فرح الإنجيل، عدد 14). "يا أبت ليكونوا واحدًا لكي يؤمن العالم"، هكذا تمنّى ونظر إلى السماء. يرتفع طلب يسوع هذا في إطار إرسال: كما أرسلتني إلى العالم، فكذلك أنا أرسلتهم إلى العالم. في هذه اللحظة، يختبر الرب في جسده أسوء ما في هذا العالم الذي يحبُّه بجنون، هكذا كما هو: مؤامرات، شكوك وخيانات ولكنّه لا يتراجع ولا يتذمّر. نحن أيضًا نلاحظ يوميًّا أننا نعيش في عالم ممزق بسبب الحروب والعنف. سيكون من السطحي أن نفكّر أن الانقسام والحقد يؤثران فقط في التوترات بين البلدان والمجموعات الاجتماعيّة. في الحقيقة، إنها ظهور لتلك "الفردانيّة المنتشرة" التي تفصلنا وتضعنا في مواجهة بعضنا البعض (راجع فرح الإنجيل، عدد 99)، لجرح الخطيئة الذي يحمله الأشخاص في قلوبهم والذي بسبب نتائجه يتألّم المجتمع أيضًا والخليقة بأسرها. إلى هذا العالم المليء بالتحديات بالذات، يرسلنا يسوع وجوابنا ليس بأن نكون غير مبالين أو أن نتجادل بأننا لا نملك الوسائل أو أن الواقع يتخطانا. ينبغي على جوابنا أن يكرّر صرخة يسوع ويقبل نعمة وواجب الوحدة.

أضاف الحبر الأعظم إن صرخة الحرية تلك والتي انفجرت منذ أكثر من مائتي عام لم تكن تنقصها القناعة ولا القوة، لكن التاريخ يخبرنا أنها أصبحت مُقنعة فقط عندما تركت جانبًا الأنانيّة والرغبة بالسيطرة ونقص التفهُّم لأساليب التحرر الأخرى ذات الميزات المختلفة ولكنها ليست معاكسة. يمكن للبشارة أن تصبح أداة لوحدة التطلّعات والأحاسيس والتصورات ولبعض المثاليات أيضًا. هذا ممكن بالطبع وهذا ما نؤمن به ونعلنه. فقد سبق وقلت أنه "وفيما تُعاود الظهور في العالم، وبالأخصِّ في بعض البلدان، أشكال حروب مختلفة ونزاعات، نشدّد، نحن المسيحيين، على الاقتراح القاضي بالاعتراف بالآخر وعلاج الجراح وبناء الجسور وتمتين العلاقات والمساندة "في حمل بعضنا أثقال بعض" (فرح الإنجيل، عدد 67). إن رغبة الوحدة تتطلّب فرح البشارة العذب والمعزي والقناعة بأننا نملك خيرًا كبيرًا لننقله للآخرين، وبنقله نترسّخ؛ وكل شخص عاش هذه الخبرة يكتسب إدراكًا لحاجات الآخرين (راجع فرح الإنجيل، عدد 9). من هنا ضرورة الكفاح من أجل الإدماج على جميع المستويات بعيدًا عن الأنانيّة، من خلال تعزيز التواصل والحوار والحثّ على التعاون. ينبغي علينا أن نسلِّم قلبنا لرفيق الدرب بدون ارتياب وشك. "فالثقة بالآخرين هي فنّ والسلام هو فنّ" (فرح الإنجيل، عدد 244)، لا يمكن للوحدة أن تشرق طالما أن الدنيوية الروحيّة لا تزال تدخلنا في حرب فيما بيننا، وفي بحث عقيم عن السلطة والامتيازات واللذة والأمان الاقتصادي.

تابع البابا فرنسيس يقول هذه الوحدة هي عمل رسولي "لكي يؤمن العالم". البشارة لا تقوم على الاقتناص وإنما على جذب البعيدين من خلال شهادتنا والاقتراب بتواضع من الذين يشعرون بأنهم بعيدون عن الله والكنيسة ومن الخائفين واللامبالين لنقول لهم: "الرب يدعوك أنت أيضًا لتكون من شعبه، يدعوك بعظيم احترام ومحبّة" (فرح الإنجيل، عدد 113). إن رسالة الكنيسة، كسرّ الخلاص، ترتبط بهويتها كشعب في مسيرة ودعوته أن يدخل في مسيرته أمم الأرض بأسرها. وبقدر ما تكون الشركة عميقة فيما بيننا بقدر ما ستتعزّز الرسالة (راجع يوحنا بولس الثاني، راعي القطيع، عدد 22). أن نضع الكنيسة في حالة رسالة يتطلب منا إعادة خلق للشركة إذ إن الأمر ليس مجرّد عمل نحو الخارج... نحن نحمل الرسالة إلى الداخل وإلى الخارج مُظهرين أنفسنا كأم تخرج للقاء وكبيت مضياف وكمدرسة دائمة لشركة رسوليّة (وثيقة آباريسيدا، عدد 370).

أضاف الأب الأقدس يقول إن حلم يسوع هذا هو ممكن لأنه كرَّسنا، "وأكرِّس نفسي من أجلهم ليكونوا هم أيضًا مكرّسين بالحق". إن حياة المبشّر الروحية تولد من هذه الحقيقة العميقة التي لا تختلط مع بعض اللحظات الدينية التي تقدم لنا بعض الراحة؛ فيسوع يكرسنا ليخلق لقاءً شخصيًّا معه، يغذي اللقاء مع الآخرين والالتزام في العالم والشغف في حمل البشارة (راجع فرح الإنجيل، عدد 78). إن حميميّة الله، التي يصعب علينا فهمها، تنجلي لنا من خلال صور تحدثنا عن الشركة والتواصل والعطاء والمحبّة. لذلك فالوحدة التي يطلبها يسوع ليست تطابقًا بل هي "تناغم متعدد الأشكال جذاب" (فرح الإنجيل، عدد 117). إن الغنى الكبير للتنوع والتعدد الذي يُفضي إلى الوحدة في كلِّ مرّة نقوم بتذكار خميس الأسرار، يبعدنا عن تجارب الديكتاتوريات والإيديولوجيات أو التحزّب. كما وأنها ليست اتفاقًا يتلاءم مع مقاييسنا نضع نحن شروطه ونختار المكونات ونستبعد الآخرين. يسوع يصلّي لكي نُكوِّن جزءًا من عائلة كبيرة يكون فيها الله أبانا ونكون جميعًا إخوة. وهذا الأمر لا يرتكز لأن يكون لدينا الأذواق والهموم والمواهب عينها. نحن إخوة بدافع المحبّة، الله قد خلقنا وقدَّر لنا، بمبادرته الشخصيّة، أن نكون أبناءه (راجع أفسس 1، 5). نحن إخوة لأن "الله أرسل روح ابنه إلى قلوبنا، الروح الذي ينادي "أبّا! أيها الآب!" (غلاطية 4، 6). نحن إخوة لأننا قد نلنا البرَّ بدم المسيح يسوع (راجع روما 5، 9) فعبرنا من الموت إلى الحياة وأصبحنا "ورثةً" للعهد (غلاطية 3، 26- 29؛ روما 8، 17). هذا هو الخلاص الذي يحققه الله وتعلنه الكنيسة بفرح: أن نكون جزءًا من الـ "نحن" الإلهي.

ختم البابا فرنسيس عظته بالقول إن صرختنا، في هذا المكان الذي يُذكِّر صرخة الحرية الأولى، تُحيي صرخة القديس بولس: "الويل لي إن لم أُبشِّر!" (1 كور 9، 16). إنها صرخة ملحّة ولجوجة تمامًا كصرخة رغبات الحريّة تلك. تملك السحر عينه والنار عينها التي تجذب. كونوا شهود شركة أخويّة بإمكانها أن تتألّق! كم سيكون جميلاً أن يتمكن الجميع من التأمل باهتمامنا واحدنا بالآخر. كيف نُشجّع بعضنا بعضًا ونترافق. إن بذل الذات هو الذي يحدد العلاقة الشخصية التي لا تولد من خلال إعطاء "أشياء" وإنما من خلال إعطاء ذواتنا. ومع كل عطيّة يقدم المرء شخصه. "أن يعطي المرء نفسه" يعني أن يسمح لقوة الحب كلها التي هي روح الله أن تعمل به فيتمكن عندها من أن يعطي دفعًا لقوته الخالقة. من خلال إعطاء ذاته يلتقي الإنسان مجدّدًا بذاته بهويته الحقيقيّة كابن لله وشبيه للآب ومِثله مُعطٍ للحياة، وأخ ليسوع الذي يقدم له شهادة. هذه هي البشارة وهذه هي ثورتنا – لأن إيماننا هو ثوري على الدوام – وهذه هي صرختنا الأعمق والمستمرة.                                            








All the contents on this site are copyrighted ©.