2015-04-02 10:49:00

البابا فرنسيس: إن تعبنا، أيها الكهنة الأعزاء، يذهب مباشرة إلى قلب الآب


ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة التاسعة والنصف من صباح الخميس قداس تبريك الزيوت المقدسة في بازيليك القديس بطرس، بمشاركة عدد من الكرادلة والأساقفة، والكهنة الأبرشيّين والرهبان الموجودين في روما، جددوا خلال الاحتفال مواعيد سيامتهم الكهنوتية. وألقى الأب الأقدس عظة استهلّها بالقول: "معَه تَثبُتُ يَدي وذِراعي أَيضًا تُقَوِّيه" (مز ٨٨، ٢٢) هكذا يفكر الرب عندما يقول في نفسه "وَجَدتُ داودَ عَبْدي ومَسَحتُه بِزَيتِ قَداسَتي" (مز ٨٨، ٢١). هكذا يفكّر أبانا في كل مرّة "يجد" كاهنًا، ويضيف أيضًا: "معَه أَمانَتي ورَحمَتي وبِاْسمي تَعتزُّ قُوَّتُه... يَدْعوني قائلاً: "أَنتَ أبي وإِلهي وصَخرَةُ خَلاصي" (مز ٨٨، ٢٥. ٢٧).

تابع البابا فرنسيس يقول ما أجمل أن ندخل مع صاحب المزمور في مناجاة إلهنا هذه. هو يتحدث عنا، عن كهنته؛ لكنها في الواقع ليست مناجاة، لأنّه لا يتكلم وحده: فالآب يقول ليسوع: "يمكن لأصدقائك، أولئك الذين يحبّونك أن يقولوا بشكل خاص: "أنت أبي" (راجع يوحنا ١٤، ٢١). وإذا كان الرب يفكّر ويهتمّ كثيرًا بكيفيّة مساعدتنا فذلك لأنه يعرف أن مهمّة مسح الشعب الأمين صعبة جدًّا؛ تحمل على الإرهاق والتعب، ونختبره تحت أشكال عديدة: من تعب العمل الرسولي اليومي الاعتيادي وصولاً إلى تعب المرض والموت، بما في ذلك بذل الذات في الاستشهاد.

أضاف الحبر الأعظم يقول: تعب الكهنة! تعرفون كم من المرات أفكر بهذا الأمر: بتعبكم جميعًا؟ أفكّر كثيرًا وأصلّي بتواتر وخصوصًا عندما أشعر بالتعب أنا أيضًا. أصلّي من أجلكم أنتم الذين تعملون وسط شعب الله الأمين الذي أُوكل إليكم والعديد منهم في أماكن متروكة وخطيرة. إنَّ تعبنا أيها الكهنة الأعزاء، هو كالبخور الذي يرتفع بصمت إلى السماء (راجع مز ۱۰٤، ۲؛ رؤيا ۸، ۳ –٤). تعبنا يذهب مباشرة إلى قلب الآب. كونوا واثقين بأن العذراء تتنبّه لهذا التعب وتلفت انتباه الرب فورًا. فهي، كأمٍّ تفهم عندما يكون أبناؤها تعبين ولا تفكر بشيء آخر. وستقول لنا دائمًا عندما نقترب منها: "أهلا وسهلاً! إرتح يا بني وسنتكلّم لاحقًا... ألست أنا أمُّك هنا؟"، وستقول لابنها كما قالت له في قانا: "ليس عندهم خمر" (يوحنا ۲، ۳).

تابع الأب الأقدس يقول قد يحصل أيضًا أنه عندما نشعر بثقل العمل الراعوي، يمكن أن نتعرّض لتجربة الراحة بأي طريقة، كما ولو أن الراحة ليست من الله. فلا نقعنَّ في هذه التجربة. إن تعبنا ثمين في عينيّ يسوع الذي يقبلنا ويرفعنا: "تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم" (راجع متى ۱۱، ۲۸). وعندما يعرف المرء أنه بإمكانه، وبالرغم من الإرهاق، أن يسجد في موقف عبادة ويقول: "هذا يكفي لليوم يا رب" ويستسلم أمام الآب، فهو يعرف أنه لن ينهار بل سيتجدّد، لأنه يعرف أن الذي مسح شعب الله الأمين بزيت الفرح سيمسحه الرب بدوره أيضًا: "فيمنَحَهمُ التَّاجَ بَدَلَ الرَّماد وزَيتَ الفَرَحِ بَدَلَ النَّوح وحُلَّةَ التَّسْبيحِ بَدَلَ روحِ الإِعْياء" (راجع أشعيا ٦١، ۳).

وأضاف البابا يقول لنتذكّر بأن مفتاح خصوبة الكهنوت يكمن في الأسلوب الذي نرتاح فيه والذي نشعر من خلاله أن الرب يتعامل مع تعبنا. ما أصعب أن نتعلّم كيف نرتاح! في هذا الأمر تكمن أيضًا ثقتنا والذكرى بأننا خراف بدورنا. وبهذا الصدد يمكن لبعض الأسئلة أن تساعدنا. هل أعرف كيف أرتاح بقبول المحبة والمجانية وكل العاطفة التي يمنحني إياها شعب الله الأمين؟ هل أبحث بدلاً عن العمل الراعوي عن استراحات راقية، لا كاستراحات الفقراء وإنما تلك التي يقدّمها مجتمع الاستهلاك؟ هل يشكل الروح القدس لي فعلاً "راحةً في التعب"، أم أنه الذي يجعلني أعمل فقط؟ هل أعرف كيف أطلب مساعدة كاهن حكيم؟ هل أعرف كيف ارتاح من نفسي ومن متطلباتي وإرضاء رغباتي ومرجعيّتي الذاتيّة؟ هل أعرف كيف أتحاور مع يسوع ومع الآب ومع العذراء والقديس يوسف وأصدقائي القديسين شفعائي لأستريح في متطلباتهم – وهي لطيفة وخفيفة – في إرضائهم – هم يحبون المكوث برفقتي – وفي اهتماماتهم ومرجعيتهم – هم يهمّهم فقط مجد الله ؟ هل أعرف كيف أرتاح من أعدائي تحت حماية الرب؟ هل أجادل بيني وبين نفسي، وأجترُّ مرارًا وتكرارًا الدفاع عن نفسي أم أنني أتّكل على الروح القدس الذي يعلمني ما يجب أن أقوله في كلّ مناسبة؟ هل أهتمّ وأقلق بشكل مفرط أو كبولس، أرتاح بالقول: "أنا عالِمٌ على مَنِ اتَّكَلْتُ" (۲ تيم ۱، ١۲).

تابع البابا فرنسيس عظته قائلاً: لنتذكّر معًا التزامات الكهنة، التي تعلنها لنا الليتورجيّة اليوم: تبشير الفقراء، إعلان تخلية سبيل المأسورين وعودة البصر للعميان، الإفراج عن المظلومين وإعلان سنة قبول عند الرب. فيما يقول لنا أشعيا أيضًا شفاء منكسري القلوب وتعزية المحزونين. ليست بالمهام السهلة أو الخارجيّة، كالأعمال اليدويّة على سبيل المثال – بناء صالة راعوية جديدة أو رسم خطوط ملعب كرة قدم لشباب الرعيّة...؛ إن الالتزامات التي ذكرها يسوع تستلزم قدرتنا على الشفقة، إنها التزامات تنبع من القلب وتُحركه. نفرح مع الخطيبين اللذين يتزوّجان، نضحك مع الطفل الذي يقدّمونه للعماد؛ نرافق الشباب الذين يتحضرون للزواج والعائلة؛ نتألم مع الذي ينال سرّ المسحة على سرير المستشفى؛ نبكي مع الذين يدفنون إنسانًا غاليًا عليهم... مشاعر وعواطف كثيرة تُتعب قلب الراعي. إن قصص أناسنا بالنسبة لنا نحن الكهنة ليست مجرّد نشرة أخبار: نحن نعرفهم ويمكننا أن نتصوّر ما يدور في قلوبهم؛ وقلبنا، في التألم معهم يتفتّتُ وينقسم إلى ألف قطعة، يتأثّر ويبدو أنه تآكل بسبب الناس: خذوا، كلوا. هذه هي الكلمة التي يهمسها باستمرار كاهن يسوع عندما يعتني بشعبه الأمين: خذوا وكلوا، خذوا واشربوا... وهكذا نبذل حياتنا الكهنوتية في الخدمة والقرب من شعب الله الأمين... وهذا أمر متعب على الدوام.

أضاف الأب الأقدس أريد أن أتقاسم معكم بعض أنواع التعب التي تأمّلت بها. هناك التعب الذي يمكننا تسميته "تعب الناس والجموع": لقد كان مضنيًا بالنسبة للربّ كما بالنسبة لنا – ويقوله الإنجيل – لكنه تعب جيّد، تعب مليء بالثمار والفرح. لقد كان الناس يتبعونه والعائلات تحمل إليه أطفالها ليباركهم، والذين شفاهم كانوا يأتون مع أصدقائهم، والشباب الذين كانوا يتحمسون بالمعلّم... لم يتركوا له الوقت حتى ليأكل. لكن الرب لم يكن ينزعج من المكوث مع الناس، على العكس بل كان يبدو وكأنّه يتنشّط (راجع فرح الإنجيل، عدد 11). هذا التعب وسط نشاطنا غالبًا ما يكون نعمة في متناولنا جميعًا نحن الكهنة (راجع فرح الإنجيل، عدد 279). كم هو جميل هذا الأمر: الناس يحبّون رعاتهم يريدونهم ويحتاجون إليهم! إن الشعب الأمين لا يتركنا أبدًا بدون التزام مباشر، ما لم يختبئ المرء في مكتبه أو يخرج إلى المدينة مُتخفّيًا. وهذا التعب هو جيّد وسليم. إنه تعب الكاهن الذي يحمل رائحة الخراف... وإنما مع ابتسامة أب يتأمل بأبنائه أو بأحفاده، والذي لا يمت بأي صلة بأولئك الذين تفوح منهم رائحة العطور الثمينة وينظرون إليك من بعيد وبفوقيّة (راجع فرح الإنجيل، عدد 97). نحن أصدقاء العريس وهذا هو فرحنا. إذا كان يسوع يرعى الخراف في وسطنا لا يمكننا أن نكون رعاة بوجوه قاسية، أو متذمرين وهذا أمر أسوء؛ أو رعاة ضجرين سئموا. رائحة الخراف وابتسامة الآباء... حتى ولو تعبين إنما بفرح من يصغي إلى ربّه القائل: "تعالوا إليّ يا مباركي أبي" (متى ۲٥، ۳٤).

تابع الحبر الأعظم يقول هناك أيضًا ما يمكننا تسميته "التعب من الأعداء". إن الشيطان وأتباعه لا ينامون، وبما أن آذانهم لا تحتمل كلمة الله، فهم يعملون بلا كلل لإسكاتها وتشويشها. وهنا يكون التعب في مواجهتهم أكثر صعوبة. إذ أن الأمر لا يتعلّق بفعل الخير فقط وإنما بضرورة الدفاع عن القطيع وعن أنفسنا من الشرّ (راجع فرح الإنجيل، عدد ٨٣). الشرير هو أكثر احتيالاً منا وهو قادر أن يدمّر في لحظة كل ما بنيناه بصبر خلال وقت طويل. وهنا ينبغي أن نطلب النعمة بأن نتعلّم أن نُبطل الشرّ ونبتعد عن النميمة، وألا ندّعي الدفاع كرجال خارقين عما ينبغي لله وحده أن يدافع عنه. هذا كله يساعدنا لكي لا نستسلم إزاء الشر وسخرية الأشرار. إن كلمة الرب لحالات التعب هذه هي: "تشجّعوا أنا غلبت العالم!" (يوحنا ١٦، ٣٣).

أضاف البابا فرنسيس يقول: وأخيرًا - لكي لا تتعبكم هذه العظة - هناك أيضًا "التعب من أنفسنا" (راجع فرح الإنجيل، عدد ٢٧٧). قد يكون التعب الأخطر، لأن النوعين الآخرين ينبعان من أن نكون معرّضين، للخروج من ذواتنا لنمسح الآخرين ونجتهد في العمل (إذ أننا أولئك الذين يهتمون بالآخرين). هذا التعب هو أكثر ذات مرجعيّة ذاتيّة: إنه الخيبة من ذواتنا التي نغض النظر عنها بفرح من يكتشف نفسه خاطئًا وبحاجة للمغفرة: فيطلب المساعدة ويمضي إلى الأمام. إنه التعب الذي يعطي "الرغبة وعدم الرغبة"، أن يكون المرء قد راهن بكلّ شيء ومن ثم يندم على ثوم وبصل مصر، ويتصرف متوهمًا أنه شخص آخر. هذا التعب يطيب لي أن أسمّيه "التقرُّب من الدنيوية الروحيّة". وعندما يبقى المرء وحده يتنبه إلى كثرة قطاعات الحياة التي طبعتها هذه الدنيوية، ويُخيَّل لنا حتى أنه لا يمكن غسلها وتنظيفها. وهنا يمكن أن نجد تعبًا سيئًا. إن كلمة سفر الرؤية تدلّنا على سبب هذا التعب: "إِنَّكَ تَتَحَلَّى بِالثَّبات، فتَحَمَّلتَ المَشَقَّاتِ في سَبيلِ اسْمي مِن غَيرِ أَن تَسأَم. ولكِنَّ مَأخَذي علَيكَ هو أَنَّ حُبَّكَ الأَوَّلَ قد تَرَكتَه" (رؤيا ۲، ۳- ٤). وحده الحب يمنح الراحة. وما لا نحبّه يتعبنا وفي النهاية يتعب بشكل سيّء. إن الصورة الأكثر عمقًا وغموضًا عن كيفيّة تعاطي الرب مع تعبنا الراعوي هي تلك: "وكانَ قد أَحَبَّ خاصَّتَه...، فَبَلَغَ بِه الحُبُّ لَهم إِلى أَقْصى حُدودِه" (يوحنا ۱۳، ١): مشهد غسيل الأرجل. أُحبُّ أن أتأمل به كغسيل الإتباع. الرب يطهِّر الإتباع نفسه، هو "يشمل" نفسه معنا (راجع فرح الإنجيل، عدد ٤۲)، يأخذ على عاتقه إزالة كلِّ بقعة، ذاك الضخان الدنيوي والمتزلّف الذي تراكم خلال المسيرة التي قمنا بها باسمه.

وختم البابا فرنسيس عظته بالقول: نعلم أنه في الأرجل يمكننا رؤية حالة جسدنا بأسره. وفي أسلوب إتباع الرب تظهر حالة قلبنا. إن قروح الأرجل والإلتواءات والتعب هي إشارة على كيفيّة إتباعنا له، على الدروب التي اتخذناها لنبحث عن خرافه الضائعة في محاولتنا لقيادة القطيع إلى مراع خصيبة ومياه الراحة (راجع فرح الإنجيل، عدد ۲۷۰). الرب يغسلنا ويطهّرنا من كلّ ما تراكم على أرجلنا لإتباعه. وهذا أمر مقدّس. لا يسمح بأن يبقى ملطّخًا، وكما يُقبّل جراح الحرب هكذا أيضًا يغسل أوساخ العمل. إن إتباع يسوع يغسله الرب نفسه لكي نشعر بحقّنا بأن نكون "فرحين"، "كاملين"، "بدون خوف أو ذنب" فيكون لدينا الشجاعة للخروج والانطلاق "حتى أقاصي العالم، إلى كلّ الضواحي" لنحمل هذه البشرى السارة إلى المتروكين عالمين أنه "معنا كلّ الأيام حتى انقضاء الدهر"، ونعرف كيف نتعب تعبًا جيّدًا!

         

 

 








All the contents on this site are copyrighted ©.