2014-12-19 14:10:00

التأمل الثالث لزمن المجيء مع واعظ القصر الرسولي


ألقى واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمله الثالث لزمن المجيء في كابلة أم الفادي في القصر الرسولي بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، واستهله بالقول يضع القديس بولس السلام في المرتبة الثالثة بين ثمار الروح القدس: "أَمَّا ثَمَرُ الرُّوح فهو المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف" (غلاطية 5، 22). ما هي إذًا ثمار الروح القدس؟ بعكس المواهب التي هي عمل الروح القدس الخاص والتي يمنحها لمن يشاء وعندما يشاء، فثمار الروح القدس هي نتيجة تعاون بين نعمة الله وحرية الإنسان. وإذ تختلف المواهب بين شخص وآخر فلا يمكن أن يكون الجميع في الكنيسة رسلاً أو أنبياء... ولكن، وبدون تمييز، بإمكان الجميع، لا بل يجب عليهم أن يكونوا محبّين وصبورين، ودعاء ومسالمين.

تابع الأب رانييرو كانتالاميسا يقول إن السلام ثمرة الروح القدس هو مختلف عن السلام كعطيّة من الله أو كواجب ينبغي العمل على تحقيقه، لأن السلام ثمرة الروح القدس هو سلام القلب، وهذا هو السلام الذي سنتوقف عنده في تأملنا اليوم. "السلام يولد من قلب جديد" كما يكتب البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للسلام لعام 1984، وقد أوصى القديس فرنسيس الأسيزي إخوته عندما أرسلهم إلى العالم قائلاً: "ليكن السلام الذي تبشرون به بأفواهكم في قلوبكم أولاً".

بعدها أشار واعظ القصر الرسولي إلى أن الوصول إلى السلام الداخلي أو سلام القلب قد ألزم عبر العصور كبار الباحثين عن الله. أولاً في الشرق، وبدء من آباء الصحراء، فقد ظهر هذا الجهد بشكل ملموس من خلال ممارسة وعيش فضيلة الهدوء التي يقدم من خلالها المرء لذاته وللآخرين هدفًا ساميًا يترفّع فيه العقل عن كل فكرة أو رغبة وذكرى ليفسح المجال لله ومشيئته، وقد قاد بعدها هذا التيار الروحي إلى ما يُعرف بـ "صلاة القلب" أو "الصلاة المستمرّة" والتي لا يزال المسيحيون الشرقيون يمارسونها حتى يومنا هذا.

أما التقليد الغربي، تابع الأب كانتالاميسا يقول، فقد توصّل للمبدأ عينه ولكن من خلال أساليب أخرى وبمتناول الجميع أي الذين يعيشون حياة تأملية أو حتى حياة عمليّة. وقد بدأت المسيرة مع القديس أغوسطينوس في كتابه "الاعترافات" والذي يفتتحه بعبارة سيتردد صداها فيما بعد عبر الفكر اللاحق: "لقد خلقت قلبنا لك يا رب ولن يستريح إلا فيك". فطالما نعيش على هذه الأرض لن نجد راحتنا إلا في مشيئة الرب والاستسلام لرغبته. وهذه الراحة ستكون في السماء في الله عينه، في سلام أورشليم السماوية. ورجاء هذا السلام الأبدي يطبع كل الليتورجية والصلوات الخاصة بالموتى ويعبّر عنه من خلال كلمات "السلام"، "السلام في المسيح"، الراحة الدائمة" و"رؤية السلام الطوباوية".

إن رؤية القديس أغوسطينوس للسلام الداخلي كإتباع لمشيئة الله تجد تأكيدها وعمقها في فكر الصوفيين. فبقدر ما نغوص في الله نغوص في سلامه، ومن يقيم في الله يملك السلام. وبالتالي فالأمر لا يتعلّق فقط بإتباع مشيئة الله وتحقيقها وإنما أيضًا بالتخلي عن كل رغبة شخصيّة. أما القديس اغناطيوس دي لويولا فيقدم تطوّرًا آخر أكثر تقشّفًا من خلال عقيدته حول "الزهد" والتي تقوم على وضع الذات في جهوزية واستعداد تام لقبول مشيئة الله ورفض أي تفضيل شخصيّ، فتصبح عندها خبرة السلام الداخلي معيارًا أساسيًّا لكل تمييز. أما للحفاظ على سلام القلب وتنميته فمن الأهمية بمكان أن نُهذّب الجسد، ويسوع قد ذكّرنا بهذا الأمر مرات عديدة إذ قال: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صَليبَه ويَتبعْني. لأنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذِي يَفقِدُ حَياتَه في سبيلي وسبيلِ البِشارَة فإِنَّه يُخَلِّصُها" (مرقس 8، 34- 35). أما بولس فيترجم هذا كله بشكل شريعة أساسية للحياة المسيحية: "فالَّذينَ يَحيَونَ بِحَسَبِ الجَسَد يَنزِعونَ إِلى ما هو لِلجَسَد، والَّذينَ يَحيَونَ بِحَسَبِ الرُّوح يَنزِعونَ إِلى ما هو لِلرُّوح. فالجَسَدُ يَنزِعُ إِلى المَوت، وأمَّا الرُّوح فَينزِعُ إِلى الحَياةِ والسَّلام. ونُزوعُ الجَسَدِ عَداوَةٌ لله، فلا يَخضَعُ لِشَريعةِ الله، بل لا يَستَطيعُ ذلِك. والَّذينَ يَحيَونَ في الجَسَد لا يَستَطيعونَ أَن يُرضُوا الله... لأَنَّكم إِذا حَيِيتُم حَياةَ الجَسدِ تَموتون، أَمَّا إِذا أَمَتُّم بِالرُّوحِ أَعمالَ الجَسَدِ فسَتَحيَون" (روما 8، 5- 13).

تابع واعظ القصر الرسولي يقول إن الروح القدس ليس المكافأة على جهودنا وغنما هو الذي يجعلها ممكنة ومثمرة كما يقول لنا القديس بولس: "أَمَّا إِذا أَمَتُّم بِالرُّوحِ أَعمالَ الجَسَدِ فسَتَحيَون"، بهذا المعنى يمكننا أن نقول بأن السلام هو ثمرة الروح القدس؛ فهو نتيجة جهودنا التي جعلها روح المسيح ممكنة. ومن بين الذين أظهروا درب سلام القلب هذه بشكل واقعي وملموس نجد مؤلّف كتاب "الاقتداء بالمسيح"، الذي يقدم الحوار بين الرب والعبد كحوار بين أب وابنه:

"الربّ: يا بنيّ، إني أعلّمك الآن طريق السلام والحريّة الحقّة.

العبد: اصنع يا رب، ما تقول، فإن ذلك يُسرّني استماعه

الربّ: اجتهد يا بني أن تعمل إرادة الغير، أحرى مما أن تعمل إرادتك. اختر دائمًا امتلاك الأقل على امتلاك الأكثر. اطلب دائمًا المكان الأدنى، وأن تكون دون الجميع. ثق وصلِّ دائمًا، لكي تتمَّ فيك إرادة الله على أكمل وجه. فمثل هذا الإنسان يدخل وطن السلام والراحة" (الاقتداء بالمسيح، السفر الثالث، الفصل 23).

أضاف الأب رانييرو كانتالاميسا مؤّكدًا أن الروحانية المعاصرة تسلّط الضوء على أدوات أكثر إيجابية للمحافظة على السلام الداخلي. أولاً الثقة والاستسلام في الله، "إِنَّكَ تَرْعاها بِالسَّلامَ السَّلام لأنها عليك تَوَكّلَت" كما نقرأ في سفر أشعيا (أش 26، 3)، ويسوع في الإنجيل يدعونا لكي لا نخاف ونهتمّ بالغد لأنه لدينا أبًا في السماء يعلم بما نحتاج إليه (راجع متى 6، 5). وهذا هو السلام الذي تقدمه لنا القديسة تريزيا الطفل يسوع وتعلّمنا إياه.

تابع الأب كانتالاميسا يقول: ومع اقتراب عيد الميلاد أرغب أن أسلّط الضوء على أفضل أداة للحفاظ على سلام القلب وهي اليقين بأننا محبوبون من الله: "المَجدُ للهِ في العُلى! والسَّلامُ في الأَرضِ لِلنَّاسِ فإنَّهم أَهْلُ رِضاه" (لوقا 2، 14). وبحسب الإنجيل جميع البشر هم أهل رضا الله بدون استثناء وهذه نعمة يقدمها الله لنا جميعًا. وبالتالي فإن قوة الروح القدس ونوره يعملان على الدوام ولكن الأمر متوقف علينا لنقبلهما بواسطة الإيمان والصلاة. كم من القوة حملت هذه الكلمات عندما أُعلنت للمرة الأولى: "السَّلامُ في الأَرضِ لِلنَّاسِ فإنَّهم أَهْلُ رِضاه!" لذلك ينبغي علينا أن نطهر آذاننا لتصبح كآذان هؤلاء الرعاة الذين كانوا أول من سمع هذا الإعلان وانطلقوا مسرعين.

وفي هذا الإطار يقدم لنا القديس بولس أسلوبًا يساعدنا في تخطي جميع مخاوفنا فنستعيد سلام القلب من خلال اليقين بأننا محبوبون من الله: "إِذا كانَ اللّهُ معَنا، فمَن يَكونُ علَينا؟ إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟ فمَن يَتَّهِمُ الَّذينَ اختارَهمُ الله؟ اللهُ هوَ الَّذي يُبَرِّر! ومَنِ الَّذي يُدين؟ المَسيحُ يسوع الَّذي مات، بل قام، وهو الَّذي عن يَمينِ اللهِ والَّذي يَشفعُ لَنا؟ فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟... ولكِنَّنا في ذلِكَ كُلِّه فُزْنا فَوزًا مُبيناً، بِالَّذي أَحَبَّنا" (روما 8، 31- 37). بهذا يؤكّد لنا القديس بولس بأنّه ما من شيء يمكنه أن يقف عائقًا في وجه اليقين بأن الله يحبنا، ويدعونا بوضوح لننظر إلى حياتنا ونفحص في ضوء يقين محبة الله لنا مخاوفنا وأحزاننا وكل ما يمكنه أن يعيقنا في مسيرتنا فنقول مع بولس الرسول: "في ذلِكَ كُلِّه فُزْنا فَوزًا مُبيناً، بِالَّذي أَحَبَّنا".

وختم واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا تأمّله الثالث لزمن المجيء بالقول لقد تركت لنا القديسة تريزيا الأفيلية وصيّة يمكننا أن نردّدها في كل مرة نجد أنفسنا بحاجة لاستعادة سلام القلب: "نفسي لا تخافي نفسي لا تضطربي؛ كلّ شيء ينتهي والله لا يتغيّر؛ بالصبر تنالين كل شيء؛ من له الله لا يعوزه شيء. وحده الله يكفيك". وأضاف: ليكن ميلاد الرب لنا جميعًا ميلاد سلام: مع الله والقريب وفي قلوبنا!                          








All the contents on this site are copyrighted ©.