2014-12-12 14:22:00

التأمل الثاني لزمن المجيء مع واعظ القصر الرسولي


ألقى واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمله الثاني لزمن المجيء في كابلة أم الفادي في القصر الرسولي بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، واستهله مذكرًا بتأمل الأسبوع الماضي وقال بعد أن تأمّلنا حول السلام كعطية من الله سنتأمّل اليوم حول السلام كواجب ينبغي علينا أن نعمل من أجله إذ إننا جميعنا مدعوون للتّشبه بالمسيح فنصبح قنوات يصل من خلالها سلام الله إلى الإخوة. وهذا ما يطلبه يسوع من تلاميذه عندما يعلن: "طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون" (متى 5، 9).

تابع الأب رانييرو كانتالاميسا يقول إن يسوع لا يحثنا فقط لنسعى إلى السلام وإنما يعلمنا كيف نصبح دعاة سلام، فهو يقول لتلاميذه: "السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم" (يوحنا 14، 27). مُظهرًا لنا بأن هناك طريقة أخرى للسعي إلى السلام تختلف عن أسلوب العالم، هي أيضًا "ثمرة انتصار" وإنما انتصار على أنفسنا، كما يكتب القديس بولس: إن يسوع بصليبه "قَضى على العَداوة" (أفسس 2، 16). لذا فدرب السلام التي يقدمها الإنجيل لا تصلح فقط في إطار الإيمان وإنما في الإطار السياسي أيضًا.

هذا وذكّر واعظ القصر الرسولي بما قاله قداسة البابا فرنسيس خلال زيارته الرسولية إلى تركيا في إشارة إلى وضع الشرق الأوسط إذ قال: "لا يسعنا الاستسلام أمام استمرار الصراعات كما ولو أن تحسُّن الوضعِ بات مستحيلا! بعون الله يمكننا، لا بل علينا، أن نجدد دائما شجاعة السلام!" تابع الأب كانتالاميسا يقول هناك أسلوب – غالبًا ما يكون الوحيد – لكي نكون دعاة للسلام وهو أن نصلّي من أجل السلام، والكنيسة لا تتعب من طلب السلام يوميًّا في الذبيحة الإلهية إذ تقول: "تعطّف يا رب وامنح السلام في أيامنا".

هذا وأكّد الأب رانييرو كانتالاميسا أنه أمام صانعي السلام ينفتح اليوم حقل عمل جديد صعب ومُلح وهو تعزيز السلام بين الأديان. والدافع الأساسي الذي يسمح بحوار حقيقيّ بين الأديان هو أنه لدينا إله واحد. كتب القديس البابا غريغوريوس السابع لملك موريتانيا أنازير في العام 1076: "نحن نؤمن بإله واحد، بالرغم من أننا نسبحه ونكرمه يوميًّا بطرق مختلفة كخالق الدهور ومدبّر هذا العالم" وهذه هي أيضًا الحقيقة التي يفتتح بها القديس بولس حديثه في الأريوباج إذ يؤكّد: "وفيه حَياتُنا وحَرَكَتُنا وكِيانُنا" (راجع أعمال 17، 28).

تابع واعظ القصر الرسولي يقول لكل منا، شخصيًّا، أفكار مختلفة حول الله. لكن بالنسبة لنا نحن المسيحيون الله هو "أب ربنا يسوع المسيح" الذي لا يمكننا أن نعرفه بالكامل إلا "بواسطته"؛ أما موضوعيًّا فنحن نعلم جيّدًا أن الله هو واحد للجميع. أما الدافع اللاهوتي الثاني للحوار فهو إيماننا بالروح القدس. فكروح الفداء وروح النعمة هو رابط السلام بين المعمّدين من مختلف الطوائف المسيحية، أما كروح الخالق فهو رابط السلام بين جميع المؤمنين من مختلف الأديان لا بل بين جميع البشر ذوي الإرادة الطيّبة، وهذا السلام حققه يسوع على الصليب كما يكتب القديس بولس: "فإِنَّه سَلامُنا، فقَد جَعَلَ مِنَ الجَماعتَينِ جَماعةً واحِدة وهَدَمَ في جَسَدِه الحاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهما، أَيِ العَداوة، وأَلغى شَريعةَ الوَصايا وما فيها مِن أَحكام لِيَخلُقَ في شَخْصِه مِن هاتَينِ الجَماعتَين، بَعدَما أَحَلَّ السَّلامَ بَينَهما، إِنسانًا جَديدًا واحِدًا ويُصلِحَ بَينَهما وبَينَ الله فجَعَلَهما جَسَدًا واحِدًا بِالصَّليب وبِه قَضى على العَداوة" (أفسس 2، 14- 16).

أضاف الأب رانييرو كانتالاميسا يقول هناك شعار شائع في يومنا هذا وهو: "فكّر عالميًّا وتصرّف محليًّا" ويمكن تطبيقه بشكل خاص على السلام، إذ ينبغي علينا أن نفكر بالسلام العالمي ونبدأ بالعمل أولاً من أجل السلام على مستوى محلّي. فالسلام لا يُصنع كالحرب: الحرب تحتاج لاستعدادات طويلة لعسكر واستراتيجيّات وتكتلات أما السلام فهو العكس تمامًا ويمكن بدأه فورًا وشخصيًّا انطلاقًا من مصافحة بسيطة، كما أكّد مؤخرًا البابا فرنسيس إذ قال إن السلام "يُصنع يدويًّا". وبالتالي ينبغي على كل منا أن يبدأ بدوره بصنع شيء ما لنكون أهلاً للتحدث عن السلام. فيسوع، يكتب بولس الرسول، قد جاء ليبشّر "بالسلام الذين كانوا أباعد والذين كانوا أقارب" (أفسس 2، 18)، ولكن غالبًا ما يكون السلام مع الأقارب أصعب من السلام مع الأباعد، فكيف يمكننا إذًا نحن المسيحيين أن نسمّي أنفسنا صانعي سلام إن كنا نعيش خلافات فيما بيننا؟ لنتذكّر إذًا كلمات القديس بولس الرسول إلى أهل كورنتس: "أُناشِدُكُم، أَيُّها الإِخوُة، باِسمِ رَبِّنا يسوعَ المسيح، أَن تقولوا جَميعا قَولاً واحِداً وأَلاَّ يَكونَ بَينَكُمُ اختِلاقات، بل كُونوا على وِئامٍ تامّ في رُوحٍ واحِدٍ وفِكرٍ واحِد. فقَد أَخبَرَني عَنكم، أَيُّها الإِخوَة، أَهلُ خُلُوَة أَنَّ بَينَكُم مُخاصَمات، أَعني أَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنكُم يَقول: "أَنا لِبولُس" و"أنا لأَبُلُّس" و"أَنا لِصَخر" و"أَنا لِلمسيح". أَتُرى المسيحُ انقَسَم؟ أَبولُسُ صُلِبَ مِن أَجْلِكُم؟" (1 كور 1، 10- 13).

بعدها ذكّر واعظ القصر الرسولي بموضوع اليوم العالمي للسلام للعام الجاري "الأخوّة، الأساس والطريق للسلام" وقال: في الواقع، تشكل الأخوّة بعدًا أساسيًّا للإنسان، الذي هو عبارة عن كائن علائقي. واليقين الحيّ لهذه العلائقيّة يحملنا لنرى ونعامل كل شخص كأخت حقيقيّة وأخ حقيقيّ، وبدون هذه العلائقيّة يصبح من المستحيل بناء مجتمع عادل وسلام صلب ودائم. وأضاف الأب كانتالاميسا يقول يقدم لنا كتاب أعمال الرسل مثال الجماعة الأخويّة: "قلب واحد ونفس واحدة" (أعمال 4، 32) وهذا كلّه بفضل الروح القدس، فقبل العنصرة كان الرسل يتجادلون حول من هو الأكبر فيما بينهم، ولكن بعد حلول الروح القدس تحولوا بالكامل وتحول اهتمامهم من ذواتهم إلى المسيح فدُهش الحاضرون وقالوا: "إِنَّنا نَسمَعُهم يُحَدِّثونَ بِعَجائِبِ اللهِ بِلُغاتِنا" (أعمال 2، 11) لأن رغبة تمجيد الله قد استحوذت عليهم ونسوا أنفسهم. لكن الروح القدس لا يلغي الاختلافات وهذا الأمر نراه بعد العنصرة، إذ بقي كل من الرسل يُعبّر عن رأيه وقناعاته باحترام وحريّة، فبولس قد ذهب إلى أورشليم لاستشارة بطرس ولم يخَف من مقاومته "لأنه كان يستوجب اللوم" (غلا 2، 14)، وهذا الأمر سمح لهما في ختام نقاشهما بأن يعلنا أمام الكنيسة: "لقد حَسُنَ لَدى الرُّوحِ القُدُسِ ولَدَينا..." (أعمال 15، 28). وهكذا وُضعت أُسس كلُّ جمعيّة في الكنيسة... فاختلاف الآراء ليس حاجزًا ولكن ينبغي – بمساعدة الروح القدس – إعادة المحوريّة ليسوع يوميًّا من أجل خير الكنيسة ولا من أجل انتصار مصالح فردية، كما يؤكّد القديس بولس: "فإِذا كانَ عِندَكم شأَنٌ لِلمُناشَدةِ بِالمسيح ولِما في المَحَبَّةِ مِن تَشْجيع، والمُشارَكةِ في الرُّوحِ والحَنانِ والرَّأفة، فأَتِمُّوا فَرَحي بِأَن تَكونوا على رأيٍ واحِدٍ ومَحَبَّةٍ واحِدة وقَلْبٍ واحِدٍ وفِكْرٍ واحِد. لا تَفعَلوا شَيئًا بِدافِعِ المُنافَسةِ أَوِ العُجْب، بل على كُلٍّ مِنكم أَن يَتواضَعَ ويَعُدَّ غَيرَه أَفضَلَ مِنه، ولا يَنظُرَنَّ أَحَدٌ إِلى ما لَه، بل إِلى ما لِغَيرِه" (فيليبي 2، 1- 4).

وختم واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا تأمله الثاني بمناسبة زمن المجيء بالقول: إن كلمات القديس بولس هذه لمؤمني فيليبي تعبر أيضًا عن رغبة الأب الأقدس تجاهنا جميعًا وبالتالي ينبغي علينا أن نسعى في ما بيننا "إِلى ما غايتُه السَّلامُ والبُنْيانُ المُتَبادَل" (روما 14، 19).         








All the contents on this site are copyrighted ©.