2014-09-27 11:53:00

الإنجيل وقفة تأمل عند كلمة الحياة


في ذلك الزمان: قال يسوعُ للأَحبارِ وشيوخِ الشَّعب: "ما قولُكم؟ كانَ لِرَجُلٍ ابنان. فدَنا مِنَ الأَوَّلِ وقالَ له: "يا بُنَيّ، اِذهَبِ اليَومَ واعمَلْ في الكَرْم". فأَجابَه: "لا أُريد". ولكِنَّه نَدِمَ بَعدَ ذلك فذَهَب. ودَنا مِنَ الآخَرِ وقالَ لَه مِثلَ ذلك. فَأَجابَ: "ها إِنِّي ذاهبٌ يا سيِّد!" ولكنَّه لم يَذهَبْ. فأَيُّهما عَمِلَ بِمَشيئَةِ أَبيه؟" فقالوا: "الأَوَّل". قالَ لَهم يسوع: "الحَقَّ أَقولُ لكم: إِنَّ العَشَّارينَ والبَغايا يَتَقَدَّمونَكم إِلى مَلَكوتِ الله. فَقَد جاءَكُم يوحَنَّا سالِكًا طريقَ البِرّ، فلَم تُؤمِنوا بِه، وأَمَّا العشَّارونَ والبَغايا فآمَنوا بِه. وأَنتُم رَأَيتُم ذلك، فلَم تَندَموا آخِرَ الأَمرِ فتُؤمِنوا بِه" (متى 21، 28- 32).

للتأمل

يحملنا الإنجيل الذي تقدمه لنا الليتورجية اليوم في هذا الأحد السادس والعشرين من زمن السنة للتأمل مرّة جديدة في جوهر حداثة الخبرة المسيحية. نرى يسوع قد دخل أورشليم ومواجهته مع الأحبار وشيوخ الشعب قد أصبحت أوضح، فيسوع يحاول أن يفتح قلوب محاوريه ويقودهم ليخرجوا من انغلاقهم ومن علاقتهم مع الله المبنيّة "على تطبيق الشريعة"، فهو يريدهم أن يفتحوا قلوبهم وعيونهم ليروا "أعماله" كعلامة لعدالة جديدة وعلاقة جديدة مع الله. لكن هذا الأمر ممكن فقط إن آمنوا به، لأن الإيمان بيسوع يشركهم في علاقته مع الله، كإبن الآب الحبيب، الذي يعيش من حياته ويصغي إلى كلمته ويتمم مشيئته ويقوم بأعمال جديدة تتخطى مجرّد تطبيق الشريعة.

إيمان أو شريعة: هذا هو الشعار الدائم للمواجهة بين يسوع وشيوخ الشعب، والذي يتميّز به إنجيل القديس متى الذي يخبرنا عن الحداثة التي حملها يسوع والرفض الذي لقيته من قبل الجماعات التي وجب عليها أن تقبلها. واليوم في هذا الإنجيل يتوجه إلينا نحن أيضًا قائلاً: "ما قولُكم؟" فلنجبه إذًا بإيمان حرّ وشخصي. "كانَ لِرَجُلٍ ابنان..." يخبرنا الإنجيل عن أب يدنو من ابنيه ويكلّمهما فرديًّا مظهرًا مشيئته ويطلب: "يا بُنَيّ، اِذهَبِ اليَومَ واعمَلْ في الكَرم". هما ولداه وهو يطلب منهما جهوزيّة للذهاب والخروج للعمل في الكرم، فيجيبه الأول: "لا أُريد". ولكِنَّه نَدِمَ بَعدَ ذلك فذَهَب، أما الثاني فيجيبه: "ها إِنِّي ذاهبٌ يا سيِّد!" ولكنَّه لم يَذهَب. نجد في الإنجيل أن يسوع لم يشرح أسباب تصرف الابنين، لأن القديس متى يريد أن يسلّط الأهمية في هذا النص على السؤال: "فأَيُّهما عَمِلَ بِمَشيئَةِ أَبيه؟". هذا هو الشرط الأساسي الذي يضعه يسوع أن نعمل مشيئة الآب لندخل ملكوت السماء، وهذه هي الحداثة التي حملها لنا يسوع إذ جعلنا أبناءً لله من خلال تتميمنا لمشيئته، وعمل مشيئة الله يتطلّب منا أن نصغي إلى كلمته وهذا الإصغاء يتخطى التطبيق الصرف للشريعة، بل هو استسلام واثق وبنوي بين يديه.

وعلى سؤال يسوع أجاب الأحبار وشيوخ الشعب "الأَوَّل". في الواقع، لقد عمل مشيئة أبيه، فهو الذي أجاب على طلب ذلك الذي دعاه "يا بُني..." ليصبح عندها ذلك الرجل "أباه" فعلاً، لأن علاقة الأبوة تقوم على عمل مشيئة الآب بحريّة وبقرار شخصي، وبالتالي فإن يسوع نفسه يقول لنا: "ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات. بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات"، وذلك ليؤكد أن عمل مشيئة الآب ليست مجرد حفظ الشريعة وتطبيقها وإنما هي الدخول في علاقة بنوة من خلال الإصغاء الشخصي للكلمة للانتقال من عبوديّة الشريعة إلى حرية المحبة، وهذه هي الحداثة التي حققها يسوع بشخصه وهو يريد أن يختبرها ويعيشها كل من يؤمن به.

يدعونا يسوع اليوم للعودة إلى جوهريّة الإيمان كطريق للدخول في جمال حرية خبرة البنوة مظهرًا لنا قساوة وانغلاق الذين يفضلون التعلق بحرفية الشريعة. فالإيمان يتطلب استسلامًا ويجعلنا نختبر ضعفنا البشري، أما تطبيق الشريعة فهو يقوم على ثقتنا بقوانا البشرية، ومن هنا يمكننا أن نفهم قول يسوع: "إِنَّ العَشَّارينَ والبَغايا يَتَقَدَّمونَكم إِلى مَلَكوتِ الله" لأنهم بالرغم من معرفتهم بضعفهم آمنوا بمحبة الآب لهم لكن الكتبة والأحبار كانوا يؤمنون بقوتهم وقدرتهم البشريّة. وبعد أن بشّر يوحنا المعمدان بضرورة الارتداد والتوبة وأشار إلى يسوع بأنه حامل خطايا العالم، الابن الذي يفتح "طريق العدالة" كعطيّة محبة الآب المجانيّة آمن به العشَّارونَ والبَغايا، فقد قبلوا بشارة يوحنا وتبعوا يسوع وسمحوا لمحبته أن تغمرهم وبالتالي عملوا مشيئة الآب! ونحن اليوم الذين سمعنا كلمات يسوع ورأيناه لماذا لا نزال منغلقين على أنفسنا وقلوبنا لا تزال مقفلة على بشارة محبة الآب؟ لنفتح قلوبنا إذًا ولنؤمن بالحب فنعمل نحن أيضًا مشيئة الآب وندخل ملكوت السماوات!             








All the contents on this site are copyrighted ©.