2013-07-03 15:36:58

نداء المطارنة الموارنة


في الثالث من تموز 2013 عقد أصحاب السيادة المطارنة الموارنة إجتماعَهم الشهريّ في بكركي، برئاسةِ صاحب الغبطة والنيافة مار بشاره بطرس الراعي الكلِّي الطوبى، ومشاركةِ صاحب الغبطة والنيافة الكردينال مار نصرالله بطرس صفير، وشاركَ بدعوةٍ خاصّة الرؤساءُ العامّون للرهبانيات المارونية. وقد تباحثوا في شؤونٍ كنسيّة وراعويّة، لاسيّما تنشئةِ الطلاّبِ الاكليريكيين، والتنشئةِ المُستديمة للكهنة، وتوقّفوا عند ما آلت اليه الأوضاعُ في لبنان وسوريا. وفي الختام، انطلاقاً من مسؤوليتهم الروحية والإنسانية والوطنية، وجهوا النداء التالي نقلا عن الموقع الإلكتروني للبطريركية المارونية:

لم يعدْ يخفى على أحدٍ أنّ لبنان يمرُّ في لحظة مصيريّة حَرِجة يصعبُ توقّع ما ستؤول إليه، إذا لم يحصِّنْ اللبنانيون عيشَهم المشترك ويتمسّكوا بالمؤسّسات الدستورية، حفاظًا على كيان لبنان في وحدتِه وسيادته واستقلاله، وعلى دوره كعنصر سلامٍ واستقرارٍ في المنطقة، بحكمِ موقعه الجغرافي ونظامه السياسيّ وميثاق عيشه المشترك على أساسٍ من الوحدة في التنوّع.

الشعبُ اللبناني غير راضٍ عن الشحن الطائفي والمذهبي وما يرافقه من اشكالٍ غريبة عن ثقافتنا وتقاليدنا، ومن انتشار للسلاح غير الشرعي، مع تنقّل الأحداث الأمنية من منطقة إلى أخرى. فهو لم يألف كلّ ذلك، ويخشى أن يودي بالعيش المشترك، ويُفقد الدولة ومؤسّساتها هيبتها وحيوية دورها الذي لا يمكن استبداله بأي شيء آخر. لذا، أزفت ساعة الحقيقة لوقفة ضميرية صريحة وحازمة من جميع الأطراف والمرجعيّات المسؤولة، تحملهم على المصارحة والمصالحة بحوار متجرّد وبنّاء، أمام خط أحمر هو العيش معًا والدولة ومؤسّساتها الدستورية والجيش والقوى الأمنيّة.

فيدعو الآباء، بحكم هذه الوقفة التاريخية الشجاعة، إلى التخلّي عن التنظيمات المسلّحة لصالح القوى العسكرية والأمنية الشرعية التي لها وحدها حقّ امتلاك السلاح واستعماله وهي وحدها الضامنة للسلم الاهلي؛ فدعمها، بوقوف اللبنانيين إلى جانبها وبمنحها الغطاء السياسي، مسؤولية وطنية. إنّ كلّ سلاح غير شرعيّ يستجلب بالمقابل سلاحًا غير شرعي، وعندئذٍ تسود شريعة الغاب. وهذا ما يرفضه شعب لبنان. ولا يمكن أن يقترن العمل الحزبي والسياسي بحمل السلاح، بغية الوصول إلى أهدافه الخاصّة والنفوذ وفرض إرادته، بل ينبغي أن يعتمد المنافسة الديمقراطية في خياراته التطبيقيّة للمبادئ الدستوريّة والثوابت الوطنية بهدف توفير الخير العام للمواطنين، وترقي المجتمع، وصالح الدولة.

لقد أُصيب الشعب اللبناني في صميم كرامته وتطلعاته الوطنية، عندما رأى عجزَ المجلس النيابي عن إقرار قانون جديد للإنتخابات، بعد سنوات من الدرس والتشاور في المشاريع المتعدّدة، وتغطيتَه لهذا العجز بالتمديد لنفسه، من غير مبرِّر مُقنع وخلافًا للدستور، بقانون مطعونٍ به شرعيًّا، وتعطيلَ نصاب المجلس الدستوري لمنعه من القيام بواجب النظر في الطعن، بالرغم من قَسَم اليمين على تأدية الواجب. هذه الانتهاكات الثلاثة الخطيرة تفتح الباب واسعًا أمام المزيد من ممارسة النفوذ والتسلّط والاستبداد، بما فيه خرق الدستور والعرف والتقليد. فلا بدّ من وضع حدّ لكل هذا الواقع الشاذّ، بدءاً بتأليف حكومة جديدة، في أسرع ما يمكن، تكون حرّة من التجاذبات السياسية والخلافات، وقادرة على إعادة الحياة الطبيعية إلى المؤسّسات، وممارسة الحكم وفقًا للأصول، وإجراء التعيينات اللازمة بعيدًا عن تدخّل السياسيّين.

يرزح المواطن اللبناني منذ سنوات تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. فالبطالة تنتشر بسبب تراجع الخدمات ومنافسة اليد العاملة الأجنبية، والفقر يزداد، والأسعار ترتفع، والدَّين العام يتصاعد، والسياحة التي يعوّل عليها اللبنانيون قد ضُربت. ويدفع المواطن للدولة ضرائب باهظة على سلع ضرورية لحياته يصعب انتاجها في السوق اللبنانية وأخرى محليّة ولا يحصل في المقابل على حقّه في الخدمات: يدفع فاتورة الكهرباء والمياه مرتين أو أكثر، ويبقى محروماً من تأهيل الكثير من الطرق والبنى التحتية وسواها. فما جدوى العمل السياسي إن لم يكن لتوفير الخير العام وخير المواطنين؟ إنّه ينتهك أهدافه بذاته. وهذا غير مقبول! ويبقى السؤال: إلى متى سيستمر لبنان على هذه الحال؟

إنّ تطوّر الأزمة في سوريا واستمرارها في حرب شرسة ومعقدّة، بسبب عناصر كثيرة متداخلة ومتشعبة، ومصالح متناقضة، وتدخلات خارجيّة، ليقلق الجميع، وخصوصًا اللبنانيين الذين يريدون، بالدرجة الأولى، الخير للشعب السوري ليخرج من هذه المحنة قبل أن تأكل الحرب الأخضر واليابس، وتفكّك نسيج المجتمع السوري، وتضع مستقبل سوريا في مهبّ الريح. فباسم الإنسانية والأخوة، يدعو الآباء المجتمع العربي والدّولي والسوريّين أنفسَهم إلى اعتماد الحلِّ السياسي والجلوس إلى طاولة المفاوضات من اجل إحلال سلام عادل وشامل.

إنّ لبنان يقف إلى جانب سوريا بمقدار ما يحافظ على صيغته الفريدة، لا بالتدخّل في النزاع تحت أيّ مبرّر كان. ولبنان، الذي التزم بميثاقه الوطني عدم التبعية لأي بلد في الشَّرق وفي الغرب، وأعلن منذ بيان حكومة الاستقلال الأولى أنه يريد الخير لبلدان العرب كما هم يريدون الخير له، عاد ليؤكّد ذلك "بإعلان بعبدا". فيستحيل عليه أن يناقض بنفسه ما التزم به. لذلك يشجب الآباء كلّ تدخل لأي لبناني كان في الأزمة السورية، تحريضًا أو دعمًا أو مشاركة ميدانية، لأنه خروج على الأعراف اللبنانية وعلى الدستور وعلى مبدأ السيادة. فاللبنانيون الذين عانوا واشتكوا من التدخل الخارجي في شؤونهم، مُلزمون بالامتناع عن انتهاك سيادة دولة أخرى، وفي هذه الحالة سورية، فيجنِّبون بلادهم تبعات هذا التدخّل.

إن الأزمة السورية تلقي بثقلها على لبنان بتزايد عدد النازحين السوريين الذي تجاوز المليون، وبات يشكّل عبئاً كبيراً على الدولة اللبنانية أمنيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا. لذلك يدعو الآباء المُجتَمَعَين العربي والدولي لمساعدة لبنان على حمل هذا العبء، وللتخفيف عنه بفتح سائر الدول العربية والمجاورة أبوابها لاستقبالهم على غراره، ونقلهم إلى أماكن آمنة في سوريا، بغية تسهيل عودتهم إلى بيوتهم وأراضيهم. لكنّ الحلّ الأساس هو العمل الجادّ على وقف إطلاق النار ودوامة العنف والحرب، فيعود النازحون إلى مدنهم وبلداتهم قبل حلول فصل الشتاء وويلاته.

إنّ الآباء اذ يتضرّعون الى الله بشفاعة العذراء مريم، سيدة لبنان، كي يحفظ لبنان المُكرّس لقلبها الطاهر، وتتوقّف دوامة العنف في سوريا، ويسألونه حكمةً للسياسيين اللبنانيين بحيث يتجاوز لبنان أزمته الراهنة بالحوار الوطني وبالمحافظة على الدولة ومؤسّساتها وعلى السلم الأهلي وعلى النهوض بالاقتصاد الوطني وازدهار لبنان. وكلّهم ثقة بصلابة الشعب اللبناني وصبره وقدرته على تخطي الصعاب، حتى نقضي صيفًا بشكر الله على نعمه وبحمده على مراحمه الكثيرة.








All the contents on this site are copyrighted ©.