2012-01-24 12:55:23

رسالة البابا لليوم العالمي الـ 46 لوسائل الاتصالات الاجتماعية: "الصمت والكلمة:  مسيرة كرازة "


أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

مع اقتراب الاحتفال باليوم العالمي للاتصالات الاجتماعية لعام 2012 ، أود مشاركتكم في مناقشة الأفكار ووجهات النظر المتعلقة  بعملية التواصل البشري المنسية في بعض الأحيان، على الرغم من أهميتها، ومن الضروري أن تعيدها إلى الأذهان اليوم. الأمر يتعلق بالعلاقة بين الصمت والكلام: وجهان من الاتصالات ينبغي أن يكونا متوازيين، وأن يتناوبا ويتكاملا بهدف التوصل إلى حوار حقيقي وتقارب بين الأشخاص. عندما يلغي الصمت والكلام بعضهما البعض، تتراجع الاتصالات، ربما لأنها تحدث نوع من الذهول، أو على العكس من ذلك، تخلق جوا من البرودة في العلاقات،  أما في حالة التكامل بينهما، تكتسب الاتصالات قيمة ومعنى.

الصمت جزء لا يتجزأ من الاتصالات وبدونه لا توجد كلمات غنية بالمضامين. في الصمت  نستمع لنفسنا ونتعرف عليها على نحو أفضل ، تولد الأفكار وتتعمق، نفهم بشكل أكثر وضوحا ما نريد أن نقوله أو ما نتوقعه من الطرف الآخر ، ونختار الطريقة التي نعبّر فيها عن أنفسنا. عندما نصمت نسمح للآخر بالكلام والتعبير عن نفسه، وألا نبقى مرتبطين بكلماتنا وأفكارنا فقط دون القدرة على التحاور. عندها يفتح مجال لتبادل الآراء والأفكار مما يؤدي إلى إرساء علاقة بشرية كاملة. في فترة الصمت، على سبيل المثال، تُقتطف لحظات التواصل الحقيقي بين من يحبون بعضهم بعضا: الإشارة، تعبيرات الوجه والجسد كإشارات تعبّر عن الشخص.

في الصمت يتكلم الفرح  والقلق والمعاناة، والذي من خلاله نجد احد أهم وأقوى أشكال التعبير. من الصمت، إذا تنبع اتصالات صعبة المنال، تخاطب الإحساس والقدرة على الاستماع والتي تظهر غالباً مقياس العلاقات وطبيعتها. حيث تكثر الرسائل والمعلومات، يصبح الصمت ضرورة لابد منها، من اجل التمييز بين المهم والغير مهم أو الثانوي.

يساعدنا التفكير العميق على اكتشاف العلاقات القائمة بين أحداث تبدو للوهلة الأولى أنها غير مرتبطة ببعضها، من اجل تقييم وتحليل الرسائل، مما يمكننا من مشاطرة الآراء ذات الصلة، من اجل الوصول إلى معرفة حقيقية متقاسمة. لهذا من الضروري إيجاد الجو المناسب، مثل "نظام بيئي" قادر على الموازنة بين الصمت والكلمة، والصوت والصورة.

قسم كبير من حركة الاتصالات الحالية توجهه أسئلة تبحث عن أجوبة. محركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي تشكل نقطة الانطلاق للكثيرين ممن يبحثون عن نصائح، مقترحات، معلومات وأجوبة.

في أيامنا، تحولت شبكة الانترنت إلى فسحة للأسئلة والأجوبة، وغالباً ما يجد الإنسان نفسه أمام سيل من الأجوبة على أسئلة لم يطرحها وحاجات لم يشعر بها. الصمت ثمين من اجل المساهمة في التمييز بين الحوافز والأجوبة الكثيرة التي نستلمها، من اجل المعرفة والتدقيق في الأسئلة المهمّة فعلا. في عالم الاتصالات المتنوع والمعقّد يظهر اهتمام الكثيرين في الأسئلة المتعلقة بالوجود البشري: من أنا؟ ما بإمكاني أن اعرف؟ ماذا عليّ أن اعمل؟ ماذا بإمكاني أن أرجو؟ من المهم أن نرحب بأولئك الذين يطرحون هذه الأسئلة، بفتح حوار عميق، يتكون من الكلام والدعوة إلى التأمل والصمت، الذي يكون في بعض الأحيان أكثر أهمية من الأجوبة المتسرعة ويمكّن السائل من الغوص في أعماق نفسه والانفتاح على مسيرة الجواب الذي خطّه الله في قلب الإنسان.

هذا السيل اللامنتهي من الأسئلة، يبين، في الأصل، قلق الإنسان الباحث دائماً عن الحقيقة، صغيرة كانت أم كبيرة، التي تعطي معنىً ورجاء للوجود. لا يمكن للإنسان أن يرضى بتبادل بسيط لأراء وتجارب حياة تكون موضع شك: جميعنا نبحث عن الحقيقة ونشاطر التطلّعات نفسها، خاصة في عصرنا حيث "عندما يتبادل الأشخاص المعلومات، فإنهم يتقاسمون مع  أنفسهم، نظرتهم إلى العالم، آمالهم، ومثلهم" (رسالة اليوم العالمي للاتصالات الاجتماعية 2011).

من الضروري التنبّه لتنوع المواقع الإلكترونية، البرامج والشبكات الاجتماعية التي بإمكانها مساعدة إنسان اليوم، لعيش أوقات تفكير، وتساؤلات أصيلة، وإيجاد أوقات صمتٍ وصلاة، وأوقات تأمل ومشاركة لكلمة الله. في الرسائل الصغيرة التي غالبا لا تتعدى آية كتابية يمكن التعبير عن أفكار عميقة شرط ألا نهمل احتياجاتنا الداخلية. ليس من المذهل، أن نلحظ في تقاليد بعض الأديان، أن الوحدة والصمت تساعدان الشخص على إيجاد ذاته والحقيقة التي تعطي معنى لكلّ الأشياء. إله الوحي يتحدث أيضا بدون كلمات "كما يظهر صليب المسيح، حيث تكلم الله أيضا من خلال الصمت. فصمت الله، وخبرة بُعدِ الآب القدير هي المرحلة الحاسمة في المسيرة الأرضية لابن الله، الكلمة المتجسد (...) فصمت الله هو امتداد لكلماته السابقة. وفي هذه الأيام المظلمة، يتكلم الله من خلال سرّ الصمت (الرسالة البابوية "كلمة الله" 30  - 21 أيلول  2010). في صمت الصليب تنطق بلاغة محبة الله المعاشة حتى بذل الذات. فبعد موت المسيح، صمتت الأرض وفي سبت النور "عندما ينام الملك ويوقظ الله المتجسد الذين ينامون منذ عصورٍ" (كتاب القراءات، نهار سبت النور)، يتردد صدى صوت الله الممتلئ حبا للبشرية.

إذا كلم الله الإنسان حتى من خلال الصمت، يكتشف الإنسان في الصمت إمكانية التكلم مع الله وعنه. "نحن بحاجة إلى ذلك الصمت الذي يصبح تأملا، الذي يدخلنا في صمت الله، فنصل إلى حيث تولد الكلمة، الكلمة المخلصة" (عظة إلى اللجنة اللاهوتية الدولية 6 أكتوبر 2006). في الكلام عن عظمة الله يبقى كلامنا غير ملائم وهكذا تُفتح فسحة للتأمل الصامت. لذا تنبع من هذا التأمل الحاجة القصوى للرسالة بكامل قوتها الداخلية وضرورة "إعلان ما رأيناه وسمعناه"، كي يدخل الجميع في شراكة مع الله (1 يو (3:1. التأمل الصامت يدخلنا نبع الحبّ الذي يقودنا نحو القريب لنشعر بآلامه، ونقدم نور المسيح ورسالته للحياة وهبة محبته الشاملة المنقذة.

في التأمل الصامت تبرز بشكل أقوى الكلمة الأبدية التي من خلالها قد كوِّن العالم، وندرك التدبير الخلاصي الذي يحققه الله من خلال كلماتٍ وإشاراتٍ في تاريخ البشرية كله. يذكرنا المجمع الفاتيكاني الثاني، بأنَّ الوحي الإلهي يتحقق بواسطة "أحداثٍ وكلماتٍ مترابطة بحيث أن الأعمال التي أنجزها الله في تاريخ الخلاص تظهر وتقوّي عقيدة الكلمات وواقعها بينما تعلن الكلمات الأعمال وتوضّح السرّ الذي تحتويه (إرشاد رسولي "كلمة الله"، 2). لقد تتوج هذا التدبير الخلاصي بشخص يسوع الناصري، وسيط وملء الوحي الإلهي كله. لقد عرَّفنا على وجه الآب الحقيقي ونقلنا بصليبه وقيامته من عبودية الخطيئة والموت إلى حريّة أبناء الله. فالسؤال الأساسيّ حول معنى الإنسان يجد في سرّ المسيح الجواب القادر على منح السلام لقلق القلب البشري. ومن خلال هذا السرّ، تنشأ رسالة الكنيسة، وهذا السر يدفع المسيحيين إلى أن يصبحوا مبشرين بالرجاء وبالخلاص، وشهودا لذلك الحبّ الذي يعزز كرامة الإنسان ويبني العدالة والسلام.

كلمة وصمت. التربية على التواصل تعني أن نتعلم الإصغاء والتأمل، بالإضافة إلى الكلام وهذا مهمّ بنوع خاص للملتزمين في الكرازة: الصمت والكلمة هما على حد سواء عنصران أساسيّان وجزء لا يتجزأ من نشاط التواصل الكنسيّ، لإعلان المسيح بطريقة متجددة في عالمنا المعاصر. إلى مريم، التي  صمتُها "يصغي ويزهر الكلمة" (صلاة لمناسبة لقاء الشبيبة في لوريتو، 1-2 سبتمبر 2007)، أوكل كلَّ عمل كرازة تقوم به الكنيسة من خلال وسائل الاتصالات الاجتماعية.

 

 

عن حاضرة الفاتيكان في 24 كانون الثاني 2012،

 عيد القديس فرنسيس دي سال








All the contents on this site are copyrighted ©.