2010-10-18 14:41:10

عظة الأب الأقدس


الإخوة والأخوات الأعزاء،

الإخوة والأخوات الأعزاء،

في ساحة القدّيس بطرس يتجدّد اليوم عيد القداسة. بفرح عظيم أتوجّه بكلّ مودّة إليكم بالترحاب، أنتم الذين أتيتم للمشاركة، حتى من أماكن بعيدة جدًّا. أوجّه تحيّةً خاصّة إلى الكرادلة والأساقفة والرؤساء العامّين للمؤسّسات المؤسّسة من قِبَل القدّيسين الجدد،كما أوجّهها أيضًا إلى المندوبين الرسميّين وإلى السلطات المدنيّة كافّة. نسعى معًا إلى أن نتلقّى ما يقول لنا الربّ في الكتاب المقدس الذي تُلِيَ منذ قليل. تُقَدِّمُ لنا ليتورجيّا هذا الأحد تعليمًا أساسيًّا: الحاجة إلى الصلاة باستمرار وبدون كلل. بعض الأحيان نحن نتعب من الصلاة ونشعر بأنّها قليلة الفائدة في الحياة وبأنّها قليلة الفعاليّة. لذلك نحن معرّضون دائماً للانصراف إلى النشاطات، وتوظيف جميع الوسائل البشريّة من أجل الوصول إلى أهدافنا الخاصّة، ولا نلجأ إلى الله. بينما يؤكّد يسوع أنّنا بحاجة إلى الاستمرار في الصلاة مستعيناً لذلك بمثلٍ مُعَيَّن (راجع لو 18: 1-8).

 

يتكلّم هذا المثل عن قاضٍ لا يخاف الله ولا يهاب أحدًا، قاضٍ لا يتحلّى بأيّ تصرّفٍ إيجابيٍّ، بل يسعى دائمًا إلى منفعته الشخصيّة. لا يخاف من حكم الله ولا يحترم القريب. أمّا الشخصيّة الأخرى فهي أرملةٌ، شخصٌ في موقف ضعف. في الكتاب المقدّس، إنّ الأرملة واليتيم هما من الفئات الأكثر حاجة، لأنّهما بدون دفاعٍ ولا إمكانيّات لديهما. ذهبت الأرملة إلى القاضي، طالبةً منه عدالةً. إمكانياتُ أن تكون مسموعةً هي شبه معدومة، لأنّ القاضي يحتقرها وهي لا تستطيع أن تمارس أيّ ضغطٍ عليه. كما لا يمكنها أن تُناشِده بالمبادئ الدينيّة لأنّ القاضي لا يخاف الله. تبدو إذًا هذه الأرملة محرومةً من أيّة أمكانيّة. ولكنّها تلحّ، تطلب بدون كلل، بلجاجةٍ، وهكذا تستطيعُ أن تحصل في النهاية على النتيجة من القاضي. هنا، أعطى يسوع تعليمًا مستعملاً الحجّة من بابٍ أولى: إذا كان القاضي غير الأمين قد اقتنع أخيرًا بطلب أرملةٍ، فما أحرى بالله، الذي هو صالحٌ، أن يستجيب أكثر لمن يسأله. في الواقع، الله هو الكرم في ذاته، هو رحيم ٌ، هو إذًا دائمُ الاستعداد لسماع الصلوات. لذلك، علينا ألاّ نيأس أبدًا، بل أن نُلِحَّ دائمًا في الصلاة.

 

تتكلّم خاتمةُ هذا المقطع الإنجيليّ عن الإيمان: "ولكن، متى جاء ابن الإنسان، أفتراه يجد الإيمان على الأرض؟" (لو 8: 8). هو سؤالٌ يبغي أن يحرّك نموَّ الإيمان فينا. من الواضح إذًا أن تكون الصلاة تعبيرًا عن الإيمان، وإلا لا تكون صلاةً حقيقيّة. إذا كان أحد لا يؤمن بصلاح الله، لا يمكنه أن يصلّي بطريقة ملائمة فعلاً. إنّ الإيمان هو أساسيٌّ كقاعدة لموقف الصلاة. وكم عاش ذلك هؤلاء القدّيسون الستّة الذين يُقترحون اليوم كي يُكَرَّموا من قِبَل الكنيسة الجامعة: ستانيسلاف سولتيس (Stanislaw Soltys)، أندره بِسّيت (André Bessette)، كانديدا ماريّا ليسوع ثيبيتريا اي بارّيولا (Cándida María di Jesús Cipitria y Barriola)، مريم الصليب ماكيلّوب (Mary of the Cross MacKillop)، جوليا سالتسانو (Giulia Salzano) وباتّيستا كاميلاّ فارانو (Battista Camilla Varano).

 

القدّيس ستانيسلاف سولتيس (Stanislaw Soltys)، راهبٌ من القرن الخامس عشر، يستطيع أن يكون لنا مثالاً وشفيعًا. لقد كانت حياته كلّها مرتبطة بالافخارستيّا. قبل كلّ شيء في الكنيسة "كوربوس دوميني" (Corpus Domini) في "كازيميارز" (Kazimierz)، التي تدعى اليوم كراكوفيا، حيث، تعلّم الإيمان والتقوى إلى جانب أمّه وأبيه، حيث أبرز نذوره الرهبانيّة في رهبانيّة (Canonici Regolari)؛ وحيث خدم ككاهنٍ، ومربٍّ، يقظٍ على مساعدة المحتاجين. ولكنه كان مرتبطاً، بشكلٍ خاصّ، بالإفخارستيّا عبر حبّه المتأجّج للمسيح الحاضر تحت شكْلَيّ الخبز والخمر؛ عائشًا سرّ الموت والقيامة، الذي يتمّ بشكلٍ غير دمويٍّ في القدّاس الإلهيّ؛ من خلال ممارسة حبّ القريب الذي تكون المناولة له ينبوعًا وعلامةً.

 

الأخ أندريه بيسّيت، من أصلٍ كيبيكيّ في كندا، راهب من جمعيّة الصليب المقدّس، عرفَ باكرًا جدًّا الألم والفقر. أدّيا به إلى الالتجاء إلى الله بالصلاة وحياة داخليّة مكثّفة. أثناء عمله كبوّاب في معهد السيّدة في مونريال، أظهر محبّة لا حدود لها وبذل جهودًا لتخفيف مِحَن أولئك الذين كانوا يجيئون ويكشفون له عن قلوبهم. تعلّم قليلاً جدًّا لكنّه فهم أين كان يقع جوهر إيمانه. بالنسبة إليه، الإيمان يعني الخضوع بحرّيّة ومحبّة للإرادة الإلهيّة. كان مسكونًا جدًّا بسرّ يسوع، ما جعله يعيش طوباويّة القلوب النقيّة، طوباويّة الاستقامة الشخصيّة. بواسطة هذه البساطة أتاح للعديدين  رؤية الله. أقام كنيسة صغيرة على اسم القديس يوسف في الجبل الملكيّ، وقد بقي حارسًا أمينًا لها حتّى وفاته سنة 1937. كان فيها شاهدًا لشفاءات وارتدادات لا تحصى. "لا تسعوا كي تُنـزَع عنكم المحن" كان يقول، "بل اطلبوا نعمة تحمّلِها جيدًا". بالنسبة إليه، كلّ شيء كان يتكلّم عن الله وعن حضوره. ليتنا نقتفي أثره فنبحث عن الله ببساطة لنكتشفه دائمًا حاضرًا في قلب جياتنا! ليت مثل الأخ أندريه يُلهِم الحياة المسيحيّة الكنديّة!

 

هل سيَجد ابن الإنسان الايمان في الأرض عندما يأتي ليُقيم العدل للمُختارين؟ (راجع لو 18: 18). يمكننا اليوم أن نقول نعم، بعزاء وثبات، عند التأمل في شخصيّات مثل الأمّ كانديدا ماريّا يسوع ثيبيتريا اي بارّيولا. هذه الفتاة من أصول متواضعة، ذات قلب وضع فيه الله ختمه الذي جعلها تتخِّذ مُبكرًا قرارًا حازمًا، بمساعدة توجيهات آبائها الروحيّين اليسوعيّين، لتحيى "فقط لله". قرارًا حافظت عليه بأمانة، كما تذكر هي بنفسها عندما كانت تحتضر. عاشت لله ولما أراده هو أكثر من أي شيء: أن تصل للجميع، أن تحمل إليهم جميعًا الأمل الذي لا يتزعزع، وخصوصًا إلى الذين هم في أمّس الحاجة إليه. "حيث لا يوجد مكان للفقراء، لا يوجد مكان لي أيضًا"، قالت هذه القدّيسة الجديدة، التي وبهذه السُبُل البسيطة نقلت العدوى لأخواتٍ أخريات ليتبعن يسوع وليكرّسنّ أنفسهنَّ للتربيّة ولتعزيز المرأة. وهكذا وُلِدَت "بنات يسوع"، اللواتي لهنّ في مؤسِّسَتِهنّ نموذج حياة عالٍ جدًّا ليَتَمَثلن به، ورسالة شيّقة جدًّا لمتابعتها في البلدان العديدة حيث وصل الروح والشوق الرسوليّ للأم كانديدا.

 

"تذكر من كان معلموك، فمنهم تتعلّم الحكمة التي تقود إلى الخلاص بالإيمان بيسوع المسيح". على مدى سنوات عديدة، تبارك عدد لا يحصى من الشباب في أستراليا بمعلّمين ألهمهم مثال الغيرة الشجاع والمقدّس، وثبات وصلاة الأم ماري ماكيلوب.  وقد كرّست ذاتها كامرأة شابّة لتعليم الفقراء في أطراف المناطق الصعبة والمتطلّبة في أستراليا، فألهمت نساء أخريات للإنضمام معها في أوّل جماعة نسائيّة للأخوات الراهبات في ذلك البلد. وتنبّهت لحاجات كلّ شخص وضع ثقته فيها، بغضّ النظر عن وضعه أو ثروته، بتزويده بالتنشئة الفكريّة والروحيّة. وبالرغم من تحديّات عديدة، إنّ صلواتها إلى القدّيس يوسف وتعبّدها الذي لم ينثنِ لقلب يسوع الأقدس، وله كرّست جمعيّتها الرهبانيّة الجديدة، قد منحت هذه المرأة القدّيسة النعم الضروريّة لكي تبقى أمينة لله وللكنيسة. فليستمرّ تابعوها اليوم، بشفاعتها، في خدمة الله والكنيسة بإيمان وتواضع.

 

في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر، في كمبانيا، في جنوب إيطاليا، دعا الربّ شابّة مدرّسة إبتدائيّة، جوليا سالتسانو وجعل منها رسولةً للتربيّة المسيحيّة، مؤسِّسةً جمعيّة راهبات قلب يسوع الأقدس مدرّسات التعليم المسيحيّ. فهمت الأم جوليا جيّدًا أهمّيّة التعليم المسيحيّ في الكنيسة، وبجمعها بين الجهوزيّة التربويّة والحماس الروحيّ، كرّست ذاتها له بكرمٍ وذكاء، مساهمةً في تنشئة أشخاص من كلّ الأعمار والطبقات الاجتماعيّة. كانت تُكرِّر لأخواتها في الرهبنة بأنّها كانت ترغب في أن تدرّس التعليم المسيحيّ حتى آخر ساعة في حياتها، مُثبتةً بكلّيّتها أنّ "الله خلقنا لنعرفَه، لنُحِبَهُ ولنَخدُمَهُ في هذه الحياة"، ويجب ألاّ يوضع أي شيء قبل هذا الواجب. إن مَثَلَ القدّيسة جوليا سالتسانو وشفاعتها يدعمان الكنيسة في واجبها الدائم لتعلِنَ المسيح ولتُنْشِئ ضمائر مسيحيّة حقيقيّة.

 

القدّيسة باتّيستا كاميلاّ فارانو، راهبة كلاريسيّة من القرن الخامس عشر، شهدت حتى النهاية لحسّ الحياة الإنجيليّ، وخصوصًا في المثابرة على الصلاة. دخلت في عمر الـ23 ربيعًا إلى دير أوربينو، أدرجت نفسها كرائدة في حركة الإصلاح الواسعة للروحانيّة النسائيّة الفرنسيسكانيّة التي قصدت استرجاع كاريسما القدّيسة كيارا الأسيزيّة بشكل كامل. عزّزت مؤسّسات رهبانيّة جديدة في كامِرينو، حيث انتُخِبَت رئيسةً للدير عدة مرّات، وفي فيرمو وسان سِفيرينو. إنّ حياة القدّيسة باتّيستا الخائضة كُلِّيًّا في الأعماق الإلهيّة، كانت تنسُّكًا مستمرًّا في طريق الكمال، مع حبٍّ بطوليٍّ لله وللقريب. وُسِمَت حياتها بآلامٍ كبيرة وبتعزياتٍ صوفيّة؛ بالفعل كانت قد قرّرت، كما كتبت بذاتها، "الدخول في قلب يسوع الأقدس" وأن تذيب ذاتها في محيط آلامه الشديدة المرارة. في وقتٍ كانت فيه الكنيسة تُعاني من انحلال العادات، سارت بحزم في طريق التوبة والصلاة، تحييها رغبة حارّة في تجديد جسد المسيح السرّي.

 

إخوتي وأخواتي الأعزاء، لنشكر الربّ على هديّة القداسة التي تُشِعّ في الكنيسة والتي تظهر اليوم على وجه إخوتنا وأخواتنا هؤلاء. يدعو يسوع أيضًا كلاًّ منّا لنتبعه فنحصل على ميراث الحياة الأبديّة. لندع أنفسنا تنجذب بهذه الأمثلة المُشعّة، لندع أنفسنا تهتدي بتعاليمهم، ليكون وجودنا نشيد تمجيد لله. لتحصل لنا على هذه النعمة العذراء مريم وشفاعة هؤلاء القدّيسين الستة الجدد الذين نكرّمهم اليوم بفرح. آمين.








All the contents on this site are copyrighted ©.