2009-06-01 17:03:08

ماذا يعني لنا اليوم حدث العنصرة؟  بقلم الأب غسان السهوي اليسوعي


ليست العنصرة نهاية المطاف وإنما بدايته المتجددة باستمرار! فعاصفة الروح القدس التي ملأت علية الرسل المواظبين على الصلاة بقلب واحد مع بعض النسوة ومريم أم يسوع ومع إخوته (أع 1: 14) داعية إياهم للقاء العالم ونشر شعلة المحبة التي تلقوها من فيض محبة الله، لا تزال تعصف بنا اليوم أيضا، تارة كنسيم هادئ وتارة أخرى كريح شديدة فاتحة أمامنا الأبواب والنوافذ وداعية إيانا للخروج من قواقعنا والانطلاق للقاء الآخر، مَن كان وأين كان، بعد أن صار لنا بالمسيح أخا أو أختا حقيقيين. الحق يقال أنه مع إرسال الآب روحَ ابنه على أبنائه البشر وإلهابه قلوبهم بنار المحبة الإلهية، لم يعد من المسموح لأحد البقاء منغلقا على ذاته! كما لم يعد من الممكن للعنة الانعزالية والانفرادية أن تبقى هي السائدة في بيوتنا ومجتمعاتنا! فانفتاح قلب الله الذي جرى بشكل لا رجوع عنه بفعل انفتاح قلب يسوع المطعون حبا على الصليب، أفاض على العالم سيول المحبة الإلهية وجميع طاقات الحياة الأبدية التي يمكن لقلوبنا البشرية المخلوقة أن تستوعبها!

ولكن أين كلامنا هذا من واقعنا الحالي؟ فواقعنا يعكس أغلب الأحيان صورا رهيبة من الموت والحقد والعداوة والنزاع (غلا 5: 20) وجدران الفصل حتى بين أعضاء العائلة الواحدة نفسها؟! أترانا نتكلم عن مجرد حلم جميل حدث مرة ثم بات يراودنا بين الفينة والأخرى خصوصا حينما نلمح طيف ابتسامة أو لمسة حنان أو نظرة تعاطف أو صلاة صادقة؟!

لا شك أن الواقع ليس على الدوام ورديا، ووحده يُظهر بشكل لا غبار عليه مرارة الواقع وشر الخطيئة وزيف البشر ذاك الموت المريع الذي قضى على البار القدوس يسوع (أع 3: 14) الذي كان يحسن إلى الكل ويعمل الخير بلا حساب(أع 10: 38). بيد أن الله بسابق علمه قضى (أع 2: 23) أن يصير ذاك الموت بالضبط الأداة التي تنجز المستحيل! فروح الآب الذي لطالما اقتاد الابن وحركه، بات من الممكن وقد أسلمه الابن لأبيه على الصليب أن يُوهب لكل إنسان بلا استثناء؛ في حين نجح الابن بثمن حياته ودم قلبه أن يخلص بني البشر من موت الخطيئة معدًّا إياهم لقبول هبة الروح.

يوم حل الروح القدس على البشر، ما كان يُعد بشكل طبيعي في حكم المستحيل بات حقيقة، وما كان مجرد حلم صار واقعا؛ المحبة التي كانت تضرم قلب الرب يسوع وكم تشوّق ليلقيها على الأرض (لو 12: 49) باتت من الآن فصاعدا تضطرم في القلوب وتدفع الناس دفعا للتوبة وتسبيح الله، لكسر خبز الحياة وتناول الطعام بابتهاج وسلامة قلب (أع 2: 46)! ويكفي أن نواصل التأمل في سفر أعمال الرسل لنرى ما لم يكن بإمكاننا من قبل حتى تخيله! يا له من أمر مذهل حقا أن تجد أناسا ما إن يؤمنون بالرب يسوع ويقبلون روحه حتى يتخلون عن كل أملاكهم في فعل محبة وتجرد ولا أعظم ليضعوا كل شيء في خدمة الجميع! يا لروح المشاركة التي باتت تحيي الكل وتجعل "كل شيء مشتركا بينهم وما من أحد منهم يقول إنه يملك شيئا من أمواله" (أع 4: 32)! فحلم الوحدة والشركة الشفافة مع الجميع صار ثمرة ولا أروع من ثمار قبول روح المحبة والتواصل الذي أمام قوته الوديعة الحنون لا يمكن لحواجز العداء والحذر المتبادل إلا أن تسقط و تنهدم انهداما لا رجعة إليه " فالذين آمنوا صاروا فعلا قلبا واحدا ونفسا واحدا" (أع 4: 32).

حقا إنه لنظام جديد! فالعالم القديم القائم على التهافت والتصارع على الأملاك والمقتنيات، على الهيمنة والأنانية، على الترفع والتعالي، قد سقط وكان سقوطه عظيما (متى 7: 27) وبدلا منه بالمقابل ولد عالم جديد قائم على روح المشاركة والأخوة في البذل والخدمة والتواضع. فأما الكنيسة (جماعة تلاميذ يسوع المؤمنين حقا باسمه، السالكين سلوكه والسائرين على خطاه) فبقدر ما تنفتح على الروح القدس وتتجاوب بأمانة مع عمله المحوّل فبالقدر نفسه تصير باكورة عالم التواصل الجديد ذاك والشاهدة بتواضع لحضوره والداعية التي لا تكل إليه. فالروح على حد قول القديس باسيليوس الكبير "هو من يُتم أعمال الله بما يقيم بينها من التواصل، من أقصى العالم إلى أقصاه، ومن البداية إلى النهاية. وهو صلة الوصل بين الأشخاص الإلهيين (الآب والابن) والبشريين (في الكنيسة)، وهذا ما تقوم عليه القداسة: فهي تنشئ الصلات. والروح هو قدوس لأنه يهدي إلى هذا النظام الجديد والنهائي الذي جاء به يسوع إلى الأرض، ألا وهو نظام المحبة".

أترانا اليوم، وعالمنا تغمره الأزمات من شتى الجهات، نعي - نحن المؤمنين بالمسيح قائما من الموت - أنه ما من شيء يمكنه أن يُصدّق على شهادتنا له إلا روح المسيح نفسه عبر ما يثمره في حياتنا اليومية من "المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف وكرم الأخلاق والإيمان والوداعة والعفاف" (غلا 5: 22-23)؟ أترانا ندرك توق الإنسان المعاصر ليلتقي أشخاصا وجماعات يحيون نظام المحبة الجديد ذاك، يحركهم روح مشاركة وتواصل حقيقي يجعل العنصرة حدثا آنيا وعيدا متجدّدا؟

(الأب غسان السهوي اليسوعي)               

 








All the contents on this site are copyrighted ©.