2009-05-12 16:35:00


عصر الثلاثاء توجه البابا بندكتس السادس عشر إلى وادي يوشافاط، الواقع قبالة كنيسة الجسمانية وبستان الزيتون، حيث احتفل بالقداس الإلهي. لنتسمع إلى التفاصيل في تقرير وافانا به الأب جان مهنا من القدس

RealAudioMP3

... ألقى الحبر الأعظم عظة قال فيها:

 

أيها الأخوة والأخوات الأعزاء في الرب،

"المسيح قام هللويا!" بهذه الكلمات أحييكم بعاطفة كبيرة. أشكر البطريرك فؤاد الطوال على كلمة الترحيب باسمكم، وأعبر أيضا، وقبل أي شيء، عن فرحتي بوجودي هنا للاحتفال بهذه الإفخارستيا معكم، يا كنيسة أورشليم. اجتمعنا هنا عند أقدام جبل الزيتون، حيث صلى ربنا وتألم، وحيث بكى حبا بهذه المدينة ورغبة بأن تعرف "طريق السلام" (راجع لوقا 19،42)، وهنا حيث عاد لأبيه مانحا بركته الأرضية الأخيرة لتلاميذه ولنا. نعانق اليوم هذه البركة. إنه يهبها لكم بطريقة خاصة، أخوتي وأخواتي الأعزاء المتحدين برابط مستمر مع الرسل الأوائل الذين التقوا الرب القائم في كسر الخبز واختبروا فيض الروح القدس في "الغرفة بالطابق العلوي"، واهتدوا بعظة القديس بطرس وباقي الرسل. أوجه تحياتي أيضا لجميع الحاضرين وبنوع خاص لمؤمني الأرض المقدسة الذين ولأسباب متعددة لم يستطيعوا أن يكونوا معنا اليوم.

وكخليفة القديس بطرس، سرت على خطاه لأعن الرب القائم بينكم وأثبتكم في إيمان آبائكم وألتمس لكم العزاء، عطية الباراقليط. ومن خلال وجودي اليوم أمامكم، أرغب بالاعتراف بالمصاعب والحرمان والألم والمعاناة التي قاساها كثيرون بينكم بسبب تبعات النزاعات التي آلمت هذه الأراضي فضلا عن خبرة التنقل المرة التي عرفتها عائلاتكم والتي ـ لا سمح الله ـ قد تعرفها مجددا. آمل بأن يشكل حضوري علامة أنكم غير منسيين وأن حضوركم الدائم وشهادتكم هما في الواقع ثمينان في عيني الله ومكون هام لمستقبل هذه الأراضي. وبسبب جذوركم العميقة في هذه الأماكن، وثقافتكم المسيحية العريقة والقوية، وثقتكم الدائمة بوعود الله، إنكم يا مسيحيي الأرض المقدسة، مدعوون لتكونوا ليس كمنارة إيمان للكنيسة الجامعة وحسب، إنما أيضا كخميرة تناغم، حكمة وتوازن في حياة مجتمع، كان ويستمر في أن يكون متعدد الإتنيات والأديان.

وفي القراءة الثانية، يدعو بولس الرسول أهل قولسي "ليسعوا إلى الأمور التي في العلى حيث المسيح قد جلس عن يمين الله" (قولسي 3،1).  يتردد صدى هذه الكلمات بقوة هنا، عند أقدام بستان الجسمانية، حيث قبل يسوع كأس الألم بطاعة كاملة لمشيئة الآب، وحيث بحسب التقليد جلس عن يمين الآب ليتشفع لنا باستمرار، أعضاء جسده. إن القديس بولس، سفير الرجاء المسيحي، عرف قيمة هذا الرجاء وثمنه في الألم والاضطهاد حبا بالإنجيل، ولم يتردد في قناعته بأن قيامة المسيح كانت بداية الخليقة الجديدة. وكما قال لنا:"فإذا ظهر المسيح الذي هو حياتكم، تظهرون أنتم أيضا عندئذ معه في المجد" (قولسي 3،4)!

إن إرشاد بولس "فاسعوا إلى الأمور التي في العلى" ينبغي أن يتردد صداه على الدوام في قلوبنا. إن كلماته ترشدنا إلى تمام رؤية الإيمان في أورشليم السماوية حيث، وطبقا للنبوءات القديمة، سيكفكف الله كل دمعة تسيل من عيونهم وسيعد مأدبة خلاص لجميع الشعوب (راجع أشعيا 25،6 ـ 8؛ رؤيا 21،2 ـ4).

هذا هو الرجاء، وهذه هي الرؤية التي تدفع جميع الذين يحبون أورشليم الأرضية لرؤيتها كنبوءة ووعد لتلك المصالحة الشاملة والسلام الذي يريده الله للعائلة البشرية كلها. للأسف، وعند أسوار هذه المدينة نفسها، إننا مدعوون لندرك كم أن عالمنا بعيد عن إتمام تلك النبوءة والوعد. في هذه المدينة نفسها حيث انتصرت الحياة على الموت، وفاض الروح كأول ثمرة للخليقة الجديدة، يواصل الرجاء محاربة اليأس والحرمان واللامبالاة، في ما تهدد الأنانية، والنزاع، والانقسام، وثقل الإساءات الماضية السلام الذي هو عطية الله ودعوته. ولهذا السبب، ينبغي على الجماعة المسيحية في هذه المدينة التي رأت قيامة المسيح وفيض الروح، بذل المستطاع للحفاظ على الرجاء الذي يعطيه الإنجيل، آخذة في عين الاعتبار علامة الانتصار النهائي للمسيح على الخطيئة والموت، وشاهدة على قوة الغفران ومبينة طبيعة الكنيسة الأكثر عمقا كعلامة وسر بشرية متصالحة، متجددة وواحدة في المسيح، آدم الجديد.

وإذ نجتمع عند أسوار هذه المدينة، المقدسة لدى أتباع الديانات الثلاث الكبرى، كيف لنا ألا نتجه بفكرنا نحو دعوة القدس الشاملة؟ وهذه الدعوة التي أعلنها الأنبياء تظهر كحدث أكيد وواقع لا رجوع عنه مؤسس على تاريخ هذه المدينة المتشابك وشعبها. إن اليهود، المسلمين والمسيحيين يعتبرون هذه المدينة كوطنهم الروحي، وكم هناك حاجة لجعلها حقا "مدينة السلام" لكل الشعوب، حيث يستطيع الجميع أن يأتوا في زيارة حج بحثا عن الله وللإصغاء لصوته "صوت يتكلم بالسلام" (راجع سفر المزامير 85،8)!

كانت أورشليم على الدوام مدينة يتردد في شوارعها صدى لغات مختلفة وتدوس حجارتها شعوب من كل عرق ولغة وتشكل أسوارها رمزا لعناية الله بالعائلة البشرية كلها. وكعالم صغير في عالمنا المعولم، وإذا شاءت هذه المدينة أن تعيش دعوتها الشاملة فعليها أن تكون مكانا يعلم الشمولية، واحترام الآخرين، والحوار والتفاهم المتبادل، مكانا حيث يتم تخطي الأحكام المسبقة والجهل والخوف الذي يغذيها، بالنزاهة والاستقامة والبحث عن السلام. ولا ينبغي أن يكون بين هذه الأسوار مكان للانغلاق، والتمييز، والعنف والظلم. ويجب على المؤمنين بإله الرحمة ـ يهودا، مسيحيين ومسلمين ـ أن يكونوا أول العاملين لتنمية ثقافة المصالحة والسلام، ولو كانت الميسرة بطيئة وثقل الذكريات الماضية أليما.

أرغب هنا بالإشارة مباشرة إلى الواقع المأساوي ـ الذي هو مصدر قلق دائم لجميع الذين يحبون هذه المدينة وهذه الأرض ـ واقع رحيل عدد كبير من المسيحيين في السنوات الأخيرة. ولو دفعت أسباب مقنعة كثيرين، وخصوصا الشباب، للهجرة، فإن هذا القرار يؤدي لافتقار هذه المدينة ثقافيا وروحيا. وأرغب اليوم بتكرار ما قلته في مناسبات أخرى: هناك مكان للجميع في الأرض المقدسة! وإذ أحث السلطات على احترام ودعم الحضور المسيحي هنا، أرغب في الآن معا بأن أؤكد لكم تضامن ومحبة ومؤازرة كل الكنيسة والكرسي الرسولي.

أيها الأصدقاء الأعزاء، وبالعودة إلى الإنجيل الذي استمعنا إليه، يسرع القديس بطرس والقديس يوحنا إلى القبر الفارغ وقيل إن يوحنا "رأى وآمن" (يوحنا 20،8)، وهنا في الأرض المقدسة، وبأعين الإيمان، إنكم لسعداء إلى جانب الحجاج القادمين من كل أنحاء العالم والذين تغص بهم الكنائس والمزارات، برؤية الأماكن التي تقدست بحضور المسيح، وبخدمته الأرضية، آلامه، موته وقيامته وعطية روحه القدوس. هنا، ومثل القديس توما، منحتم فرصة "لمس" الوقائع التاريخية التي هي في أساس إيماننا بابن الله. وما أتمناه منكم أن تواصلوا يوما فيوم في أن "تروا وتؤمنوا" بعلامات العناية الإلهية ورحمة الله الأكيدة، و"تنصتوا" بإيمان ورجاء متجددين لكلمات الوعظ الرسولي المعزية و"تلمسوا" ينابيع النعمة في الأسرار وتثبتوا في الآخرين التزامهم ببداية جديدة، الحرية النابعة من المغفرة، النور الداخلي والسلام، القادرة على حمل الخلاص حتى إلى الأوضاع البشرية الأكثر ظلمة.

وفي كنيسة القبر المقدس، كرم الحجاج على مدى القرون الحجر الذي يقول عنه التقليد إنه وضع على باب القبر فجر قيامة المسيح. ونعود غالبا إلى هذا القبر الفارغ حيث نؤكد مجددا إيماننا بانتصار الحياة ونرفع الصلاة كيما يزال بقوة النور والحياة اللذين يسطعان منذ فجر الفصح من أورشليم على العالم أجمع، كل "حجر ثقيل" من على باب قلوبنا، يمنعنا من الاستسلام الكامل للإيمان والرجاء ومحبة الله. المسيح قام، هللويا! المسيح قام حقا قام، هللويا!








All the contents on this site are copyrighted ©.