2009-03-16 15:09:14

تأمل في الصوم مع الأب غسان السهوي اليسوعي: أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟ (مر 2: 19)


يبدو أن ثمة "قصة طويلة" للمجادلة التي تقدمها لنا الأناجيل الإزائية حول عدم ممارسة تلاميذ يسوع للصوم (مر18:2-22، متى 9: 14-17 ولوقا 5: 33-39)، وهي تمدّ جذورها في حنايا التقليد المسيحي سواء أثناء حياة يسوع التاريخية أو مع بدايات انطلاق الكنيسة وتميزها في رسالتها ووجودها عن العالم اليهودي القديم. فما هذه القصة يا ترى؟ وماذا يمكننا أن نستخلص منها لحياتتا الحاضرة؟

إن ما يدعونا للتفكير بتلك "القصة الطويلة" هو بعض التحولات والفروقات بين النصوص الإزائية، ويكفي هنا أن ننوه لبعضها: فاستعمال فعل "يصوموا" مثلاً في مرقس (2: 19) ولوقا(5: 35) يقابله لدى متى فعل "يحزنوا" (9: 15)؛ وفي حين يستعمل مرقس عبارة "في ذلك اليوم" بالمفرد (مر 2: 21)  لا نجد لدى متى ولوقا سوى "ستأتي أيام" (مت 9:15 ) أو "في تلك الأيام" (لو 5: 35) وكلاهما بالجمع. وإذا ما اقتصرنا على إمعان النظر في نص القديس مرقس دون أن تغيب عن بالنا النصوص الأخرى، نجد ما يلي: ذكر "الفريسيين" و "تلاميذهم" بعد ذكر "تلاميذ يوحنا" المعمدان مباشرة في الآية 18؛ ثم تحوّل الأزمنة في الآية 19 بين الحاضر الآني: فالعريس هو "الآن" بينهم، والحاضر المستمر إلى حين: "فما دام" بينهم؛ ثم التحول القائم في الآية 20 بين:"ستأتي أيام" (بالجمع) و"في ذلك اليوم" (بالمفرد)؛ ثم الكلام عن الثوب العتيق والنسيج الخام، والخمرة الجديدة والزقاق العتيقة في (21 -22) وهي من وجهة نظر الدراسة النقدية للنصوص والمضامين تبعث على الافتراض بأنها لم تكن مرتبطة بالمجادلة مباشرة. في الواقع يمكن التفكير انطلاقا من هذه الملاحظات بأن ما آل إليه النص عبر تطور التقليد المسيحي الأولي قد جرى على النحو التالي:

إن المجادلة الأصلية مع يسوع قد تمت في مرحلة أولى من قِبل "بعض أناس" (مر 2: 18) سواء حول الصوم الذي كان يمارسه "تلاميذ يوحنا" وحدهم أو الصوم الذي كان من المفترض أن يمارسه تلاميذ يسوع ولم يمارسوه. في الواقع لقد كان تلاميذ يوحنا المعمدان يصومون استعدادا لمجيء المسيح "المشيحا" وحلول ملكه، وحيث أن هوية يسوع في تلك الفترة لم تكن بعد قد اعتلنت بكامل حقيقتها على أنه المشيحا المنتظر (وهو ما نستدله مثلا من سؤال يوحنا المعمدان حينما أرسل وهو في السجن تلاميذه ليسوع ليسألوه "أأنت الآتي أم آخر ننتظر؟" مت11: 2-3) فمن الطبيعي أن يطرح عدم صوم تلاميذ يسوع الذي سبق وعمّده معلمهم "المعمدان" سؤالا كبيرا بالنسبة لهم. فما يكون جواب يسوع والحالة هذه يا ترى؟ "العرس والعريس"! هذه هي الصورة التي أجابهم بها يسوع! ولقد كانت هذه الصورة معروفة بالنسبة للتقليد اليهودي كدلالة على الخلاص المشيحاني "النهيوي" أي الآتي في نهاية الزمان. عبر هذه الصورة أراد يسوع أن يوضح لهم بأن صومًا كذاك الذي يمارسونه لم يعد مطروحًا بالنسبة لتلاميذه؛ فمعه في الحقيقة حضر زمن الخلاص الذي كانوا هم وكل اليهود الأتقياء ينتظرونه، وبالتالي فثمة الآن وضع جديد على الأرض. وهو ما يجعلنا نفهم التضاد أيضا بين الأشياء والصفات المستعملة "الخمرة الجديدة - الزقاق العتيقة، النسيج الخام (الجديد) - الثوب العتيق" فمن خلالها أراد الإنجيلي التأكيد على ما كان أورده سابقا في (مر 1: 27) مصحوبًا بدهشة عظيمة وتساؤل عميق (ما هذا؟) من قبل جميع الحاضرين في مجمع كفرناحوم، أعني "التعليم الجديد" كل الجِدّة الذي يلقيه يسوع بسلطان.

ثم في مرحلة ثانية، لا نجد فقط دخول تلاميذ الفريسيين على الخط وهم الذين كانوا يريدون في معظمهم القضاء على يسوع ثم على تلاميذه بعد موته، ولكن أيضا جواب يسوع: "ما دام العريس بينهم لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن ستأتي أيام فيها يُرفع العريس من بينهم، فعندئذ يصومون" (19-20). مع هذه الكلمات المركَزة على "العريس" يأخذ مضمون النص طابعًا مسيحانيًا بحتًا فلم يعد يتعلق الصوم بالتقليد القديم الذي يمثله بحذافيره الفريسيّين وتلاميذهم، لكنه قد خضع لتحوّل جوهري متأتٍ من أنه لم يعد باستطاعة تلاميذ يسوع أن يصوموا من بعد بدافع واجب ديني "نهيوي" كأولئك، بل بدافع آخر منبثق من واقع العرس الجديد أي تحقيق مواعد الله القديمة باقترانه (راجع خصوصا سفر هوشع النبي) مع البشر في شخص الابن الوحيد يسوع. بيد أن حضور هذا "العريس" مع "عروسه الكنيسة" بجسده الملموس لن يبقى إلى الأبد، ومن هنا العبارة "ستأتي أيام" (20) لتدلنا على وضع الكنيسة الجديد بعد موته، حيث سيتخذ فيها الصوم معنى جديدا بالنسبة للمسيحيين الذين يمثلهم في النص "تلاميذ يسوع"، وهو معنى ينبع بالدرجة الأولى من الحدث المركزي في العهد الجديد، أي حدث "رفع يسوع" ليصير حقا ذاك الخبز الافخارستي والطعام الحقيقي (يو 6) الذي يحقق اقترانه السرّي بنا "أنا فيهم وهم فيّ" (يو 17) بقوة حبه المهراق حتى آخر قطرة على الصليب، ويدعونا باستمرار للاقتران به عبر المناولة التي باتت وحدها الخبز الحقيقي الذي يمكنه أن يشبع جوع الإنسان العميق للمحبة ويبرر صومه وانقطاعه عن الطعام المادي.

وأما في المرحلة الأخيرة من إنشاء النص فترانا من جديد نشهد تشديدا ليس على "الأيام" التي ستأتي، وهي كما رأينا زمن الكنيسة بعد موت مؤسّسها وربها، بل على "ذلك اليوم" بعينه (مر 2: 21). فالأمر لم يعد مرتبطًا بترير عام للمعنى الجديد الذي اتخذه الصوم بالنسبة للمسيحيين بل بتبرير خاص للزمن الذي تتم فيه ممارسة الصوم؛ فالنص بتأكيده على "ذلك اليوم" يبرر استبدال اليوم الذي كان فيه اليهود يصومون في "عيد التكفير" ويذبحون "كبش المحرقة" باليوم الذي فيه ذُبح يسوع حمل الفصح الحقيقي "كفّارة لخطايانا" (1يو 2: 2، 4:10)، وهذا "اليوم" يعني بالضرورة يوما واقعيا في التاريخ، هو يوم "الجمعة" بالتحديد. كما يبرر النص من جهة أخرى تغيّر توقيت الصوم المسيحي وانفصاله النهائي عن الممارسات اليهودية-الفرّيسية التي كانت تتم يومي الاثنين والخميس.

هنا يطرح علينا مباشرة السؤال التالي: ولكن لم نتحدث عن صوم يدوم أربعين يوما ما دام النص ذاته يقول لنا إن الصوم يجب أن يتم يوم الجمعة العظيمة فقط؟ في الواقع لسنا هنا بصدد عرض تاريخي لتطور مفهوم الصوم ومدته ولكن يمكننا القول إن ازدياد الوعي المسيحي لمركزية الحدث الفصحي أي سر موت يسوع وقيامته قد ترافق منذ البداية مع تطور تدريجي لمدة زمن الصوم. فمن يوم واحد كان يبتدئ مساء الخميس، إلى ثلاثة أيام ترافق المخلص من يوم تسليمه وموته حتى ساعة الاحتفال بقيامته، إلى سائر أيام الأسبوع العظيم (أيام يسوع الأخيرة على الأرض)، ثم في مرحلة أخيرة (في مجمع نيقية سنة 325) طيلة أربعين يوما. في الواقع، قبل أن يتخذ الصوم معنى الاستعداد للعيد الكبير عبر التوبة والحزن النادم بسبب ارتكاب الخطايا، وهو معنى طبيعي متأت من موقف الخاطئ التائب أمام رحمة الله التي تجلت في كمالها بموت الابن الوحيد مصلوبا، كان له مع انطلاقة الكنيسة معنى أكثر جمالية وأوفر مجانية. فهو من جهة "حزن" (مت 9: 15) لأن العريس قد رُفع بشكل مؤلم ولم يعد حاضرا بشكل منظور حتى بتنا دوما في حالة انتظار لمجيئه الثاني النهائي، وهو من جهة أخرى فعل محبة وبادرة اتحاد وتضامن مع "عريس نفوسنا" الذي عبر اقترانه بنا وحمله "أوجاعنا وأحزاننا" اللامتناهية بسبب انفصالنا عنه وعن إخوتنا بالخطيئة والأنانية صار لنا نبع فرح لا ينضب بقيامته وحضوره الخفي ولكن الحقيقي معنا "أنا معكم إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 20).

وأمام التحول في ممارسة الصوم من يوم واحد إلى أربعين فيمكن فهمه اعتبارا من تصويب النظر المحب ( عبر 12: 2) على ذاك المركز المشع، أعني يسوع المصلوب الفقير والمنازع المتروك حتى من الآب على الصليب (لماذا تركتني) حبًا بنا، وفي الوقت نفسه عدم نسيان ما كابده استعدادا لرسالته هذه من جوع وإنهاك وعزلة من جراء صومه أربعين يوما وأربعين ليلة ليستمد الحياة فقط من "كل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4: 4) و"يتم مشيئته" (يو 4: 34)؛ فنظرة القلب المحبة تلك وذكرى صوم يسوع ومعاناته قد دفعت تلقائيا الراغبين بصحبته وعشرة كلمته "الروحية المحيية" (يو 6: 63) لتوحيد الحدثين وجعلهما حدثا واحدا. فبالصوم أربعين يوما في رفقة المسيح وتأمل أعماله وكلماته الإنجيلية نصل حتما لنعيش معه رسالته ونبلغ ذلك "اليوم" الوحيد الذي فيه تتم التقدمة المطلقة الكاملة حبا على الصليب (قد تم). وبذا يغدو "زمن الأربعين" بالنسبة لمن يحب "حالة" تتجاوز الزمن، ليس عبر "الهروب أو الانفلات" منه بل عبر الاضطلاع بثقله وحتمياته الواقعية، مما يسبغ عليه معناه الأساسي وهو التشبه المحب بالمسيح المصلوب ومشاركته موته في "يوم جُمعته" الفريد للبلوغ معه – منذ الآن وليس فقط بعد الموت- إلى مجد قيامته (فيل 3: 10 -11).

ترى، هل يستحق هذا "العريس" الغريب الذي اقترب منا (لو 24: 15، 18) واقترن بنا والذي لا يني ينتظرنا "كأحباء"(يو 15:15) أن نقترب منه ونقترن به في مسيرة بذل ذاته إلى "أقصى الحدود" (يو13: 1) من أجلنا؟ هل يستحق أن نقرّب له "بالعمل والحق لا بالكلام واللسان"( 1 يو 3: 18) علامات حبنا الطاهر ليس فقط طيلة الأربعين المقدسة بل كحالة دائمة لا يعمل زمن الصوم إلا على تعزيزها وجعلها تشمل جميع أيام حياتنا؟ وإن كان لمحبته وتواضعه قد وحّد نفسه مع كل "إخوته الصغار" (متى 25) سواء أولئك الفقراء والمحتاجين (ماديًا وروحيًا) وجرحى البغض والتهميش والعنف، أو سواء أولئك الذين ربما نسكن معهم أو نعمل وإياهم دون أن نسمع أنينهم المتألم الصامت، أيستحق هذا "الختن الإلهي" أن نخدمه بعيش صوم المحبة الحقيقي عبر مرافقة هؤلاء وأولئك بتواضع كإخوة حقيقيين للرب ومقاسمتهم "فلس" تضامننا وخبز محبتنا وتضميد جراحهم الخفية وإسعاد قلوبهم المفتقرة الراجية؟

يا له من صوم فريد حقا ذاك الذي ينتظره المسيح-العريس من "أهل العرس" تلاميذه وقد رُفع عن عيونهم لا عن قلوبهم النابضة بمحبته، المنتظرة لقاءه بشوق كالعذارى الحكيمات (مت 25: 1)!  (إعداد الأب غسان سهوي اليسوعي)








All the contents on this site are copyrighted ©.