2009-01-01 16:01:04

عظة البابا في قداس رأس السنة الميلادية يدعو للسلام في الأرض المقدسة


أيها الأخوة والأخوات الأعزاء،

في أول يوم من السنة، تجمعنا العناية الإلهية في احتفال يولِّد فينا مشاعر تأثر لغنى وجمال المناسبة: رأس السنة المدنية يتلاقى وذروةَ "ثمانية الميلاد" حيث نحتفل بعيد العذراء مريم أم الله. ويجد هذا اللقاء ملخصا رائعا في اليوم العالمي للسلام. في ضوء ميلاد السيد المسيح، يطيب لي أن أوجه للجميع أمنياتي لمناسبة السنة الجديدة التي بدأت، وخصوصا للكردينال ريناتو رافايلي مارتينو ومعاونيه في المجلس البابوي للعدالة والسلام، مع إقرار خاص بخدمتهم الثمينة. وكذلك أيضا لأمين سر دولة حاضرة الفاتيكان الكردينال تارشيزيو بيرتوني وإلى أمانة سر دولة حاضرة الفاتيكان. أمنياتي أيضا إلى السفراء الحاضرين هنا بأعداد كبيرة. تمنياتي تأتي صدى للأمنيات التي وجهها إلينا السيد الرب في ليتورجية الكلمة. كلمةٌ ترددت، انطلاقا من حدث بيت لحم، في إنجيل لوقا ووردت بمعناها القوي في كلمات الرسول بولس. كلمةٌ أضحت بركةً لشعب الله وللبشرية بأسرها. بهذه الكلمات وصل تمامَه التقليدُ اليهودي القديم للبركة:"وكان كهنة إسرائيل يباركون الشعب باسم الرب". وحسب تقليد آخر ـ جاء ذكرُه في القراءة الأولى ـ كان اسمُ الرب يُذكَر ثلاث مرات على المؤمنين في ما هو أمنيةُ نعمةٍ وسلامٍ. إن هذا التقليد العريق في القدم يقودنا إلى واقع جوهري: يحتاج البشر والشعوب، كي يسيروا على درب السلام ويتباركوا باسم الرب، إلى نور "وجه" الله. وهذا ما حصل في الواقع وبشكل نهائي في التجسد: مجيء ابن الله في جسدنا وفي التاريخ حمل معه بركة فائقة، نوراً لا تنطفىء شعلتُه يُعطي البشر والمؤمنين ذوي الإرادة الطيبة إمكانيةَ بناء حضارة المحبة والسلام.

يقول المجمع الفاتيكاني الثاني في هذا الصدد:"مع سر التجسد اتحد ابن الله بطريقة ما بكل إنسان". أكد هذا الاتحاد التصميم الأصلي لإنسانية خُلقت على صورة الله ومثاله. يسوع المسيح هو الإنسان الكامل الذي رفع الطبيعةَ البشرية إلى مرتبة وكرامة لا مثيل لهما. ولهذا بالذات فإن تاريخ يسوع على الأرض الذي بلغ ذروته في السر الفصحي هو بداية عالمٍ جديد لأنه دشَّن إنسانيةً جديدة قادرة، بفضل نعمة المسيح، على إحداث "ثورةٍ" سلمية. ثورةٌ روحية ولا إيديولوجية أو وهمية إنما واقعية وبالتالي فهي تحتاج إلى صبر طويل وفترات زمنية طويلة والسيرِ على الطريق الأشد صعوبة أي طريقَ نضج المسؤوليات في الضمائر.

أيها الأصدقاء، هذه هي طريق الإنجيل التي تقود إلى السلام، الطريق التي دُعي أسقف روما أيضا إلى طرحها من جديد كلَ مرةٍ يتناول فيها الرسالةَ لمناسبة يوم السلام العالمي. إن السيرَ على هذه الطريق يقتضي في بعض الأحيان العودةَ إلى مسائلَ نوقشت لكنها هامةٌ للغاية إلى حد أنها تستقطب الاهتمام باستمرار. وهي الحالة التي تنطبق على موضوع اليوم العالمي للسلام:"محاربة الفقر، بناء السلام". موضوعٌ ذو اعتبارات مزدوجة أُشير إليها الآن بشكل مقتضب. من جهة هناك الفقر الذي اختاره واقترحه يسوع، ومن جهة أخرى، الفقر الواجب محاربته لجعل العالم أكثر عدالة وتضامنا. الناحية الأولى تجد إطارَها الأفضل في هذه الأيام، في زمن الميلاد. ولادة يسوع في بيت لحم تُظهر لنا أن الله اختار الفقرَ لنفسه في مجيئه وسطنا. المشهد الذي رآه الرعاة، والذي أكد إعلانَ الملاك لهم، ليس إلا نجمةً حيث لجأت مريم ويوسف، ومزودا حيث وضعت العذراء طفلَها. لقد اختار الله هذا الفقر. شاء أن يولد على هذا النحو ـ ولكنْ بإمكاننا أن نُضيف: شاء أن يعيش ويموتَ على هذا النحو ـ . لماذا؟ يشرح هذا بتعابيرَ شعبية القديس ألفونسو ماريا دي ليغوري في نشيدٍ ميلادي يعرفه الجميع في إيطاليا:"أنتَ، يا خالقَ العالم، تنقصك اللفائف والنار. أنتَ الطفل المختار، يا مَن شئتَ الفقرَ فزادت المحبة من فقرك". إليكم الجواب: محبة المسيح لنا دفعته إلى أن يُصبح إنسانا وفقيرا. بإمكاننا في هذا السياق الإشارة إلى رسالة بولس الثانية إلى أهل قورنتس:"وتعلمون جودَ ربنا يسوع المسيح: كيف افتقر لأجلكم وهو الغني لتغتنوا بفقره". القديس فرنسيس الأسيزي شاهدٌ مثالي لهذا الفقر. الروح الفرنسيسكاني يشكل، في تاريخ الكنيسة والحضارة المسيحية، منهجَ فقرٍ إنجيلي طالما عاد بالنفع والخير على الكنيسة والعائلة البشرية. نعود إلى رسالة بولس إلى أهل قورنتس حين كان يحث المسيحيين على السخاء تجاه الفقراء. يقول الرسول بولس:"ولا أعني أن تكونوا في عُسرٍ ليكون غيركم في يُسرٍ، بل أعني أن تكون بينكم مساواةٌ". وهذه نقطة حاسمة تقودنا إلى الناحية الثانية: هناك فقرٌ لا يريده الله ولا بد من محاربته ـ كما في موضوع رسالة اليوم العالمي للسلام ـ فقرٌ يمنع الأشخاص والعائلات من العيش بكرامةٍ؛ فقرٌ يُهين العدالة والمساواة ويهدد بالتالي التعايشَ السلمي. وفي هذا المفهوم السلبي تدخل أشكالُ فقرٍ غير مادي تظهر في المجتمعات الثرية والمتقدمة: التهميش، الفقر في إقامة العلاقات مع الغير، الفقر الأدبي والروحي. في رسالتي شئت مرة أخرى وعلى خطى أسلافي اعتبارَ ظاهرة العولمة المتشابكة لتقييم العلاقة مع الفقر على مستوى واسع. أمام آفات متفشية شأن الأمراض والأوبئة وفقر الأطفال والأزمة الغذائية، اضُطررتُ للتنديد بسباق التسلح المتصاعد. من جهة أولى يُحتفل بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومن جهة أخرى تزداد النفقات العسكرية ما يخرق شرعة منظمة الأمم المتحدة. والعولمة تُزيل بعض الحواجز لكنها قادرة على بناء حواجزَ جديدة، لهذا لا بد من أن تسهر باستمرار الجماعة الدولية والبلدان الأفراد أمام مخاطر النزاعات، لا بل عليها أن تلتزم في الحفاظ على التضامن. ولا بد من النظر إلى الأزمة الاقتصادية العالمية كامتحانٍ: أنحن مستعدون لقراءتها من هذا المنظار في تشابكها كتحدٍ للمستقبل وليس فقط كحالة طارئة يجب إيجاد جواب لها؟ أنحن مستعدون معا لإعادة النظر بعمقٍ في نموذج النمو لتصحيحه بطريقة بعيدة النظر؟ هذا ما تقتضيه، أكثر من الصعاب المالية، حالةُ البيئة في كوكبنا وخصوصا الأزمة الثقافية والأخلاقية الراهنة والتي ظهرت معالمُها منذ زمن في مختلف أنحاء العالم. لا بد بالتالي من إحداث علاقةٍ بين الفقر الواجب اختيارُه والفقر الواجب محاربته. يظهر هنا طريقٌ مُثمرٌ لحاضر ومستقبل البشرية نُلخصه على هذا الشكل: لمحاربة الفقر غير العادل والذي يُنهك كثيرا من الرجال والنساء ويُهدد الجميع، لا بد من إعادة اكتشاف التضامن والنزاهة كقيمٍ إنجيلية وفي الوقت نفسه جامعية. وهذا يعني أنه لا يمكن محاربة البؤس بدون اللجوء إلى ما قاله الرسول بولس إلى أهل قورنتس أي أن يكون بين الجميع مساواةٌ من خلال تضييق الهوة بين الأثرياء والفقراء. وعندما يقول بولس إن المسيح أغنانا بفقره إنما يُعطي علامةً بالغة الأهمية من الناحية اللاهوتية وكذلك أيضا من الناحية الاجتماعية. ولا يعني هذا أن الفقر قيمةٌ بحد ذاتها إنما هو شرطٌ لتحقيق التضامن. عندما يتخلى فرنسيس الأسيزي عن أملاكه فهذا يعني أنه اختار الشهادةَ التي استوحاها من عند الله وفي الوقت نفسه يعني أنه أظهر للجميع طريقَ الثقة بالعناية الإلهية. وكذلك أيضا الثقة بالكنيسة التي نذرت الفقر. إنه يُذكِّر الجميع بضرورة الانسلاخ عن الخيور المادية وبأولوية الغنى الروحي. هذه هي الرسالة الواجب قبولها اليوم: الفقر في ميلاد المسيح في بيت لحم يُشكل مدرسةَ حياةٍ لكل إنسان. مدرسةٌ تُعلِّمنا أن محاربة البؤس المادي والروحي تقتضي السير على طريق التضامن التي حملت يسوع على مقاسمة أوضاعنا البشرية.

 

أيها الأخوة والأخوات،

مريم العذراء طرحت على نفسها أكثر من مرة السؤال التالي: لماذا شاء يسوع أن يولد من فتاةٍ متواضعة مثلي؟ ولماذا شاء المجيء إلى العالم في مزود ليرى الرعاة أولاً؟ تلقَّت مريم الجواب بعد أن وضعت في القبر جسد يسوع. عندئذ أدركت تماما سرَ فقر الله. فهمتْ أن الله صار إنسانا لأجلنا كي نغتني بفقره المليء بالمحبة ونضعَ حدا للخلافات والانقسامات ولكي نغتني بالقناعة ونكونَ مستعدين لمقاسمة الآخرين وقبولهم. إلى مريم العذراء، أم ابن الله الذي صار أخا لنا، نرفع صلواتنا كي تساعدنا على السير على خطى ابنها ومحاربة الفقر لقهره ولبناء السلام الحق. إلى مريم نوكل الرغبة في العيش بسلام، السلامِ المنبعث من قلوب السكان الإسرائيليين والفلسطينيين الذين تعرضوا مرةً أخرى إلى خطر العنف المنفجر في قطاع غزة رداً على أعمال عنفٍ أخرى. العنف والبغض وغياب الثقة ليست إلا أشكالَ فقرٍ ـ وربما الأكثر خطرا ـ يجب محاربتها. آمل ألا تسيطر على العالم هذه الأشكال! إن رعاة الكنيسة، في هذه الأيام الحزينة، أسمعوا صوتهم. إننا نضع على أقدام مريم، معهم ومع مؤمنيهم وخصوصا مع الجماعة الحية في رعية غزة، قلقَنا للحاضر ومخاوفَنا للمستقبل وكذلك أيضا رجاءنا بإمكانية الالتقاء معا وإعطاء أجوبة عملية لتطلعاتنا نحو السلام والعيش بكرامة وأمان. لنقلْ لمريم: رافقينا، يا أم الفادي السماوية، طوال السنة الجديدة، كي نحصل من الله على عطية السلام في الأرض المقدسة وفي أرجاء المعمورة كافة. أيتها الأم القديسة، يا والدة الله، صلي لأجلنا. آمين.








All the contents on this site are copyrighted ©.