2005-04-16 15:25:02

مقتطفات من رسالة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني بمناسبة يوم السلام العالمي الأول من كانون الثاني يناير 2005

"لا تدع الشر يقهرك بل كن بالخير للشر قاهرا"


لقد اخترت عنوانا ليوم السلام العالمي 2005 كلمات القديس بولس إلى أهل رومية:"لا تدع الشر يقهرك، بل كن بالخير للشر قاهرا" (رومية 21،12). لا يقهر الشر بالشر: فبهذه الوسيلة في الواقع، يقهرنا الشر بدل أن نقهره.  أمام سيناريوهات عنف النزاع الأخوي المأسوية والدائرة في أنحاء عديدة من العالم وما تولده من آلام وظلم يبقى الخيار الوحيد والبناء قول القديس بولس تجنبوا الشر والزموا الخير (رومية 9،12).  السلام خير لا بد من إنمائه بالخير: إنه سلام للأشخاص والعائلات وأمم الأرض والإنسانية بكاملها؛ لكنه خير يجب حمايته وتعزيزه عبر خيارات وأعمال خير.

ليس الشر قوة مستترة تعمل في العالم بفعل آليات حتمية ومبهمة. إن الشر يمر عبر الحرية الإنسانية.  وإذا بحثنا عن مركباته العميقة نرى أن الشر في نهاية المطاف هو التملص المأسوي من مقتضيات المحبة.

في خطابي أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة لعشر سنوات خلت، تطرقت إلى العمل المشترك في خدمة السلام وأشرت إلى "قواعد" القانون الأدبي الشامل، التي تطرقت إليها الكنيسة في مواقفها المتعددة في هذا المضمار ... إن قواعد القانون الأدبي المشتركة تفرض التزاما مستديما ومسؤولية من أجل ضمان احترام حياة الأشخاص والشعوب وتعزيزها. وفي ظل هذه القواعد لا بد من التنديد بشدة بالشرور ذات الطابع الاجتماعي والسياسي التي يتخبط فيها العالم ولا سيما تلك التي يسببها انفجار العنف.

كيف لنا ألا نشير إلى الوضع الخطير في فلسطين، أرض يسوع، حيث يصعب جمع خطوط التفاهم المتبادل، في الحقيقة والعدالة، التي قطعها نزاع تغذيه كل يوم بطريقة مقلقة اعتداءات وأعمال انتقام؟  وما القول عن ظاهرة العنف الإرهابي التي يبدو أنها تدفع بالعالم بأسره نحو مستقبل من الخوف والقلق؟ كيف لنا أخيرا ألا نشير بمرارة إلى استمرار المأساة العراقية وللأسف في أوضاع غاب فيها اليقين والأمن للجميع؟

لتحقيق خير السلام لا بد من التأكيد، بوعي يقظ، على كون العنف شرا غير مقبول ولا يحل المشاكل ... العنف يدمر ما يدعي بأنه يدعمه: الكرامة، الحياة، حرية الكائنات البشرية. لا بد بالتالي من إنماء تربية الضمائر على عمل الخير، وبخاصة لدى الأجيال الناشئة، في أفق نزعة إنسانية كاملة ومتينة تشير وتصبو الكنيسة إليها. استنادا إلى هذه الأسس بإمكاننا إطلاق نظام اجتماعي، اقتصادي وسياسي يأخذ بعين الاعتبار كرامة كل شخص وحريته وحقوقه الأساسية.

عندما يرسخ الخير العام على مختلف المستويات تزرع بذور السلام ... فإن الخير العام يقتضي احترام الشخص وتعزيز حقوقه الأساسية وكذلك أيضا احترام حقوق الأمم ضمن تطلع شمولي ... إن خير البشرية بأسرها، بما فيها الأجيال الناشئة، يقتضي تعاونا دوليا حقا على كل أمة أن تساهم في تحقيقه ... زد إلى ذلك أن المسيحيين يعرفون أن يسوع ألقى النور على تحقيق الخير العام الحقيقي للبشرية. فالتاريخ يسير نحو المسيح وفيه يبلغ ذروته: بفضله وبواسطته وفي تطلع نحوه يتحقق كل واقع بشري ليبلغ كماله في الله.

إن الانتماء إلى الأسرة البشرية يمنح كل شخص مواطنية عالمية ويجعل منه صاحب حقوق وواجبات نظرا لما يجمع بين البشر من اتحاد في الأصل والمصير السامي.  وللطفل منذ الحبل به حقوق واستحقاقات وعناية من قبل الآخرين. وليس التنديد بالفصل العرقي، وحماية الأقليات، والعناية باللاجئين وتعبئة التضامن الدولي لمساعدة المحتاجين إلا تطبيقا عمليا لمبدأ المواطنية العالمية.

       في عالم اليوم الذي شملته ظاهرة العولمة بشكل كامل تزداد الخيرات العامة ذات الطابع الشمولي ومعها المصالح العامة. يكفي التفكير بمكافحة الفقر والسعي لتحقيق السلام والأمن والقلق حيال التغيّرات المناخية ومراقبة انتشار الأمراض. أمام هذه المصالح لا بد للمجتمع الدولي أن يتجاوب عبر شبكة واسعة من الاتفاقات القضائية ترمي إلى تنظيم التمتع بالخيرات العامة انطلاقا من المبادئ الجامعة للمساواة والتضامن.

في ختام سنة اليوبيل الكبير لعام 2000 وفي الرسالة الرسولية "الألف الجديد الذي بدأ" ألمحت إلى ضرورة موهبة المحبة لنشر إنجيل الرجاء في العالم. ويبدو هذا بشكل خاص عندما نقترب من المشاكل الكثيرة والحساسة التي تعيق نمو القارة الأفريقية: أفكر بالنزاعات المسلحة، والأوبئة التي تزيد من حدتها أوضاع البؤس، وعدم الاستقرار السياسي الذي يرافقه غياب الأمن الاجتماعي. إنها وقائع مأسوية تقتضي مسيرة جديدة من أجل أفريقيا: لا بد من قيام أشكال تضامن جديدة، على المستويين الثنائي والمتعدد الأطراف، مع التزام أكبر من قبل الجميع ضمن الوعي الكامل بأن خير الشعوب الأفريقية يشكل شرطا لا غنى عنه لتحقيق الخير العام الشامل. 

أمام المآسي العديدة التي يتخبط فيها العالم يعترف المسيحيون بثقة متواضعة بأن الله وحده يسمح للإنسان والشعوب  بتخطي الشر والبلوغ إلى الخير. لقد افتدانا المسيح بموته وقيامته "فقد اشتريتم وأُدِّيَ الثمن" (1قورنتس 20،6؛ 23،7) وكان الخلاص للكل. بإمكان الجميع بعونه قهر الشر بالخير.

 إن المسيحي، إذ هو على يقين بأن الشر لن ينتصر، إنما يزرع رجاء لا يقهر  يكون سندا له في إنماء العدالة والسلام. وعلى الرغم من الخطايا الشخصية والاجتماعية التي تميز تصرف البشر فإن الرجاء يعطي وثبة متجددة للالتزام من أجل العدالة والسلام إلى جانب ثقة حازمة بإمكانية بناء عالم أفضل.  فإذا كان "سر الإلحاد" (2 تسالونيكي 7،2) حاضرا في العالم ويعمل فيه فلا ننسى أن الإنسان المفتدى يملك طاقات كافية لمواجهته. الإنسان المخلوق على صورة الله والذي افتداه المسيح "الذي اتحد نوعا ما بكل إنسان"، بإمكانه أن يساهم بشكل ناشط في انتصار الخير.

لا يمكن الرجال والنساء من ذوي الإرادة الطيبة أن يتقاعسوا عن واجب محاربة الشر بالخير. إنها معركة تستخدم سلاح المحبة. عندما يقهر الخير الشر تسود المحبة وحيث هناك المحبة يسود السلام.

 








All the contents on this site are copyrighted ©.