2005-04-13 16:27:44

مقتطفات من رسالة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني بمناسبة يوم السلام العالمي الأول من كانون الثاني يناير 2002

"لا سلام بدون عدل، لا عدل بدون غفران"


يُحتفل هذه السنة بيوم السلام العالمي في إطار أحداث الحادي عشر من سبتمبر الفائت المأسوية. في ذاك اليوم، حصل عمل إجرامي خطير للغاية: خلال دقائق قليلة قُتل بفظاعة  آلاف الأشخاص الأبرياء من أعراق مختلفة. مذ ذاك الحين اختبر أناس العالم كله بإدراك جديد وعي ضعفهم فراحوا يتطلعون للمستقبل  بشعور خوف عميق لم يعرفوه سابقا

كيف الكلام في الظروف الراهنة عن العدل والغفران معا كمصدر وشرط للسلام؟ بإمكاننا لا بل علينا أن نفعل هذا حتى ولو نتجت عنه صعاب فنحن نميل إلى التفكير بالعدل والغفران بمعان بديلة.

الغفران لا يتناقض البتة مع العدل لأنه لا يهمل الحاجات الشرعية لإصلاح النظام المتضرر لا بل يتطلع نحو ملء العدل الذي يقود إلى طمأنينة النظام، وهي أبعد من أن تكون وقفا هشا ومؤقتا للأعمال العدوانية، لأنها تشفي الجروح التي تدمي المشاعر. لتحقيق هذا التطلع لا بد من حضور العدل والغفران معا لأنهما بُعدا السلام ... اليوم العالمي يقدم هذه السنة للبشرية برمتها سيما لقادة الأمم فرصة التأمل بمقتضيات العدل والدعوة للغفران حيال المعضلات الخطيرة العاصفة بالعالم وليس آخرها العنف الجديد الذي أدخله الإرهاب المنظم.

الإرهاب الدولي اليوم يمس السلام المرتكز إلى العدالة والغفران. لقد تحول الإرهاب خلال السنوات الأخيرة ولا سيما بعد نهاية الحرب الباردة إلى شبكة تتفاعل فيها مصالح سياسية، تقنية واقتصادية تتخطى الحدود الوطنية لتشمل العالم كله.  ينبع الإرهاب من الحقد ويولد عزلة وعدم ثقة وانغلاقا. عنف يضاف إلى عنف في دوامة مأسوية لا تخلص منها الأجيال الفتية فترث البغض الذي فرق سابقاتها. يستند الإرهاب إلى تحقير حياة الإنسان ولهذا فهو ليس مصدرا لأعمال إجرامية وحسب إنما يشكل بحد ذاته ... جرما ضد البشرية.

لا بد من إثبات مسئولية المذنبين لأن المسؤولية الجنائية شخصية ولا يمكن بالتالي توسيعها على الأمم والأعراق والديانات التي ينتمي إليها الإرهابيون. ومن الضرورة بمكان أن يرافق التعاون الدولي في مكافحة النشاطات الإرهابية التزام خاص على الأصعدة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية لتسوية حالات اضطهاد وتهميش محتملة قد تكون وراء المخططات الإرهابية لأنه من السهل تجنيد الإرهابيين في أوضاع اجتماعية حيث تداس الحقوق وتسكت الألسنة عن أعمال الجور.  ومهما يكن من أمر لا يمكن استخدام حالات الظلم في العالم ذريعة لتبرير العمليات الإرهابية.

لا يسع أي مسؤول ديني التساهل أمام الإرهاب أو الادعاء به. وليس الإرهاب باسم الله وارتكاب العنف بحق الإنسان إلا تدنيسا للدين لأن العنف الإرهابي مناقض للإيمان بالله، خالق الإنسان، الذي يحتضن خلائقه ويحبها، وبالمسيح الرب الذي علم تلاميذه الصلاة:"اغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن لمن أساء إلينا" (متى 12،6).

يصعب بمعنى ما إدراك الدعوة للغفران وقبولها لما فيها من مفارقة. فالغفران في الواقع يحمل معه خسارة ظاهرية على المدى القريب في ما يضمن ربحا واقعيا على المدى البعيد أما العنف فهو نقيضه إذ يميل إلى تحقيق مكاسب آنية لكنه يمهد  لخسارة واقعية ومستديمة ... إن رسالتي في خدمة الإنجيل تجعلني أشعر بقوة بواجب الإصرار على الحاجة إلى الغفران وأفعل هذا ينعشني الأمل بإثارة تأمل صاف وناضج في ضوء تجدد عام في قلوب الأشخاص وفي العلاقات بين شعوب الأرض.

التأمل في موضوع الغفران يعيد إلى الذاكرة حالات نزاعات مأسوية تغذي منذ زمن طويل أحقادا وتسبب كوارث شخصية وجماعية. وأشير بخاصة إلى ما يحصل في الأراضي المقدسة، المكان المبارك للقاء الله مع البشر، مكان حياة وموت وقيامة يسوع أمير السلام. إن الوضع الدولي الحساس يؤكد بقوة متجددة ضرورة تسوية النزاع العربي ـ الإسرائيلي الدائر منذ أكثر من خمسين سنة تتخلله لحظات تأزم حاد ... إن حقوق ومتطلبات كل طرف تؤخذ بعين الحساب وبإنصاف إذا ما سادت في الجميع إرادة العدل والمصالحة. إلى تلك الشعوب العزيزة أوجه من جديد نداء ملحا كي تعمل من أجل عهد يغلب فيه الاحترام المتبادل والاتفاق البناء.

للقادة الدينيين في إطار هذه الجهود مسؤولية خاصة كما أن الطوائف المسيحية والديانات الكبرى في العالم مدعوة إلى التعاون في ما بينها لإزالة الدوافع الاجتماعية والثقافية للإرهاب عبر تبيان عظمة الشخص وكرامته ونشر وعي أفضل لوحدة الجنس البشري وهو مجال خاص للحوار والتعاون الديني المشترك من أجل إسهام الديانات في تحقيق السلام بين الشعوب. إني على اقتناع بضرورة مبادرة مشتركة للقادة الدينيين المسيحيين والمسلمين واليهود للتنديد علنا بالإرهاب ورفض تبريره دينيا أو معنويا.

لتنطلق من قلب كل مؤمن، في هذا اليوم العالمي للسلام، صلاة حارة من أجل ضحايا الإرهاب وعائلاتهم وجميع الشعوب التي جرحها الإرهاب والحرب وليشمل شعاع نور صلاتنا أولئك الذين يهينون الله والإنسان بشكل خطير عبر هذه الأعمال الخالية من الرحمة كي يتمكنوا من العودة إلى ذواتهم ومن وعي خطورة الشر الذي يرتكبونه فيتخلوا عن نوايا العنف ويبحثوا عن الغفران.  فلتجد العائلة البشرية، في هذه الأزمنة المضطربة، سلاما حقيقيا ومستديما ينبع من لقاء العدل بالرحمة!

 

 








All the contents on this site are copyrighted ©.