2005-04-12 15:22:58

مقتطفات من رسالة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني بمناسبة يوم السلام العالمي الأول من كانون الثاني يناير 2000

"على الأرض السلام للناس الذين بهم المسرَّة"


مع مطلع الألف الجديد نريد إعلان رسالة الرجاء المنطلقة من مغارة بيت لحم: الله يحبّ جميع البشر، رجالاً ونساءً، ويهبهم رجاء زمن جديد، زمن سلام. ليست محبَّة الله المُعلنة بواسطة الله المتجسّد إلا ركيزة للسلام العالمي ووسيلةً قادرة، إذا ما عاشها الإنسان في عمق أعماق قلبه، على مصالحته مع الله ومع ذاته، وعلى تجديد العلاقات بين البشر وإحياء التوق إلى التآخي لإبعاد إغراءات العنف والحرب.

... إنّ السلام ممكنٌ ولا بدّ أن نطلبه كعطيةٍ من الله، وكذلك أيضاً، أن نبنيه بعون الرّب يوماً بعد يومٍ عبر أعمال العدالة والمحبةإنما السلام حاجة مُتجذِّرة بعمقٍ في قلب كل إنسان ولا يُمكن بالتالي أن تتضاءل الإرادة في البحث عنه انطلاقاً من الوعي بكون البشرية، ولو وسمتها الخطيئة والحقد والعنف، مدعوّةٌ من الله إلى تكوين عائلةٍ واحدة ... هي أمنيتي في مطلع ألفٍ جديد.

لقد عانت البشرية خلال القرن المنصرم من قساوة وفظاعة حروب ونزاعات ومجازر وأعمال "تطهير عرقي" لا تُحصى سبّبت آلاماً يصعب وصفها: ملايين وملايين الضحايا، عائلاتٌ وبلدانٌ دُمِّرت، أفواجٌ من اللاجئين، فقرٌ ومجاعة وأمراض، تخلّفٌ وفقدان ثروات هائلة ... القرن العشرون يترك لنا إرثاً وبالأحرى تنبيهاً: غالباً ما تكون الحروب سبباً لحروب أخرى، إذ إنها تغذّي أحقاداً متجذِّرة تؤدي إلى نشأة أوضاع ظلمٍ وتدوس كرامة الأشخاص وحقوقهم. الحروب لا تسوِّي المشاكل في أساس الصراع، لذا علاوة على كونها مُضرّة بشكلٍ مُخيف فلا منفعة منها.  بالحرب تخسر البشريّة. بالسلام ومع السلام فقط يُمكن ضمان احترام كرامة الشخص البشري وحقوقه الأساسية.

سيكون هناك سلامٌ بقدر ما تكتشف البشرية كلها دعوتها الأصليّة كي تكون عائلة واحدة، تأتي فيها كرامة الأشخاص ـ من أي دولةٍ وعرقٍ ودين ـ وحقوقهم في طليعة الحقوق والأولويات ... التعدّي على الحقوق الإنسانيّة هو تعدٍّ على الضمير البشري وبالتالي على البشرية كلها. من هنا أنّ واجب حماية هذه الحقوق يتخطى الحدود الجغرافية والسياسية. الجرائم ضدّ البشرية ليست من الشؤون الداخلية للدول. وليس تأسيس محكمة جنائية دولية للبتّ فيها أينما تحصل إلاّ خطوة هامة في هذا الاتجاه. علينا أن نشكر الله إذا ما استمرّ، في ضمائر الشعوب والأمم، نموّ الاقتناع بأنَّ الحقوق الإنسانية لا حدود لها كونها جامعية وغير مُجزَّأة.

أودّ التأكيد على اقتناعي العميق أنه أمام النزاعات المسلحة الحديثة تكتسب وسيلة المفاوضات بين الأطراف، عبر وساطات سلمية مؤاتية من قبل هيئات دولية وإقليمية، أهمية بالغة أكان للوقاية من النزاعات نفسها أم لتسويتها عبر إحلال السلام باللجوء إلى حلٍّ منصف للحقوق والمصالح قيد النزاع ... بصرف النظر عن التطلعات القانونية والمؤسساتية لجميع الرجال والنساء ذوي النوايا الحسنة، المدعوّين إلى الالتزام من أجل السلام، يبقى أساسيًا واجب تطوير بنيات السلام ووسائل اللاّعنف وبذل الجهود الممكنة لحمل الأطراف المتنازعة على الجلوس إلى طاولة المحادثات.

... مهمّة السلام النبيلة والملزمة، الكامنة في دعوة البشرية كي تكون عائلة تقرّ بنفسها، تجد قوّتها في مبدأ توزيع خيرات الأرض الذي لا يعرّي الملكية الخاصة من شرعيتها إنما يوسّع مفاهيم دورها الاجتماعي وآفاقه لمنفعة الخير المشترك سيّما الأشدّ فقرًا في المجتمع ... لا يتوهّمن أحد أنَّ غياب الحرب، وإن كان مرجوّا، مرادف لسلام دائم. ومن ثمّ فإنّ كل تصوّر يفصل بين حقّين مترابطين لا يتجزّآن: الحقّ في السلام والحقّ في نموّ كامل ومتضامن، مصيره الفشل ... لننظر إلى الفقراء لا نظرتنا إلى مشكلة ما إنما إلى أولئك القادرين على أن يكونوا أصحاب وروّاد مستقبل جديد أكثر إنسانية للعالم كله ... لا بدّ، خصوصا، من إيجاد حلول نهائية لمعضلة الديون الدولية للبلدان الفقيرة، وفي الوقت نفسه، ضمان التمويلات اللازمة لمكافحة الجوع، سوء التغذية، الأمراض، الأميّة وتدهور البيئة.

       تُطرح اليوم بشكل ملحّ أكثر من الماضي ضرورة تطعيم الضمير بالقيم الأدبية الجامعية، لمواجهة مشكلات الحاضر، وهي قيم تجد مفهومها المشترك في بُعد كوني راحت تكتسبه.  إنماء السلام والحقوق الإنسانية؛ تسوية النزاعات المسلحة داخل الدول وخارجها؛ حماية البيئة؛ المعركة ضدّ أمراض خطيرة؛ مكافحة تجارة المخدّرات والسلاح والرشوة السياسية والاقتصادية؛ هي قضايا لا يمكن أيّة دولة لوحدها أن تواجهها. إنها تتعلق بالجماعة البشرية بأسرها ولذا لا بدّ من تسويتها معًا.

       المسيحيون في العالم كلّه ملتزمون، في إطار اليوبيل الكبير، بإحياء سرّ التجسّد. في بشرى الملائكة في سماء بيت لحم (لوقا 2،14) ندرك بوعي أنّ يسوع هو "سلامنا" (أفسس 2،14)، إنه عطية سلام لجميع البشر. كانت كلماته الأخيرة إلى الرسل بعد القيامة: "السلام معكم!" (يوحنا 20،19).  لقد جاء ليجمع ما كان مفرَّقا ويقهر الخطيئة والحقد ويبعث في البشرية الدعوة إلى الوحدة والتآخي.  "لأنّ المسيح هو المبدأ والمثال لتلك الإنسانية المتجدّدة، المرتوية بالحبّ الأخوي والإخلاص وبروح السلام، التي يتوق إليها الجميع" (قرار مجمعي في نشاط الكنيسة الإرسالي، 8).


 








All the contents on this site are copyrighted ©.