2005-02-12 16:05:16

رسالة قداسة البابا إلى الأساقفة الفرنسيّين بمناسبة الذكرى المئويّة الأولى على صدور قانون "العلمانيّة" الذي فصل الكنيسة عن الدولة في فرنسا


   لمناسبة الذكرى المئويّة الأولى على صدور قانون فصل الكنيسة عن الدولة في فرنسا، وجّه قداسة البابا يوحنّا بولس الثّاني رسالة إلى الأساقفة الفرنسيّين الكاثوليك ضمّنها نظرة الكنيسة إلى العلمانيّة وما تخلّفه إن ساء فهمها، من سلبيات تطال حريّة الإنسان والمعتقد.

   ففي عام 1905، كتب البابا في رسالته، شكّل قانون الفصل بين الكنيسة والدولة الذي نقض معاهدة عام 1804 بين الدولة الفرنسيّة والكنيسة الكاثوليكيّة، شكّل حدثاً مؤلماً ونكسة كبيرة للكنيسة في فرنسا. بحيث بات مبدأ العلمانيّة نظاماً وحيداً للعيش في فرنسا، وفي هذا الإطار، حافظ على حريّة العبادة ولكنّه حصرها في الآن معاً في الإطار الشخصي والحميمي الضيّق رافضاً إعطاء المجال الحيوي للحياة الدينيّة والمؤسّسات الكنسيّة في قلب المجتمع. حجّمت العلمانيّة الديانة بزاوية المشاعر الشخصية ورفضت بذلك طبيعة الإنسان العميقة ببعدَيها الشخصي والاجتماعي على السواء.

   وأعرب البابا في رسالته عن امتنانه للحكومة الفرنسيّة التي اعترفت منذ عام 1920، وبطرق مختلفة، بدور الكنيسة في حياة المجتمع، وبتلازم الحياة الدينيّة والاجتماعيّة معاً، وبهرميّة الكنيسة التي تشكل مبدأ وحدتها.

   واعتبر البابا في رسالته إلى الأساقفة الفرنسيّين، أنّ الذكرى المئويّة لصدور هذا القرار يُمكن أن تشكّل مناسبة لتقييم التاريخ الديني في فرنسا عبر القرن المنصرم. ونوّه البابا بالمساعي التي قامت بها أطراف عديدة لإبقاء الحوار قائماً بين الكنيسة والدولة. وهذه المساعي تكلّلت عام 1924 بالتفاهم الثنائي واستعادة العلاقات الدبلوماسيّة بين الجمهوريّة الفرنسيّة والكرسي الرّسولي. وفي هذا الإطار راحت العلاقات تتطوّر نحو الأفضل فسادت روح المسالمة واحترام النظام القضائي المدني والكنسي. هذا السلام المكتسب تدريجياً صار واقعاً يتعلّق به الشعب الفرنسي، ويسمح للكنيسة في فرنسا بإتمام رسالتها بثقة وهدوء آخذة مكانتها الفعّالة في الحياة الاجتماعيّة ضمن احترام صلاحيّات كلّ طرف.

   إنّ مبدأ العلمانيّة، الذي تتمسّك به بلادكم بقوّة، كتب البابا في رسالته، إذا ما فهمناه جيّدا ندرك أنّه يدخل أيضاً ضمن عقيدة الكنيسة الاجتماعيّة. فهو يُذكّر بضرورة الفصل الصّحيح بين السلطات، وهنا يتردّد صدى دعوة يسوع لرسله قائلاً:"أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله". ثمّ ذكّر البابا بتعاليم المجمع الفاتيكاني الثّاني الذي يؤكّد أنّ الكنيسة غير مدعوّة لإدارة الشؤون الزّمنية، لأنّ صلاحيات عملها لا تتقاطع البتّة مع الجماعة السياسيّة وليست متعلّقة بأي برنامج سياسي، ولكنّها تحثّ في الآن معاً الجميع على العمل من أجل تحقيق الخير العام...

   إنّ تطبيق مبادئ عقيدة الكنيسة الاجتماعيّة، سمح بتطوير العلاقات بين الكنيسة والدولة الفرنسيّة، حتّى بلغ الحوار في السنوات الأخيرة الماضية أعلى المستويات فاتحاً المجال لتسوية مسائل ومشاكل عالقة على مختلف الأصعدة، ولقيام تعاون على الصّعيد الاجتماعي هدفه خدمة الخير العام.

   ثمّ تحدّث البابا عن الدور الهام الذي لعبته المسيحيّة ولا تزال في قلب المجتمع الفرنسي، سواء في المجال السياسي، والفلسفي والفنّي أو في المجال الأدبي. وفي القرن العشرين قدّمت فرنسا للكنيسة أيضاً وجوهاً مشرقة من رعاة ولاهوتيّين: كهنري دو لوباك، وإيف كونغار، وجان ماريتان؛ وإيمانويل مونييه، وروبير شومان، وفرنسوا مورياك، وغيرهم من كبار رجال الفكر ليس فقط في خضمّ الكنيسة بل في خضم الجماعة الوطنيّة أيضاً.

   إن أزمة القيم وفقدان الرجاء التي تعاني منهما فرنسا والغرب بأسره، كتب البابا في رسالته، هما جزء من "أزمة الهويّة" التي تجتاح مجتمعاتنا المعاصرة. المجتمعات، أضاف البابا، لا تقترح سوى أشكال مطبوعة بالبحبوحة الماديّة العاجزة عن تحديد معنى الوجود وعن منح القيم الأساسيّة الضروريّة للقيام بالخيارات الحرّة والمسؤولة مصدر كلّ فرح وسعادة.

   وشجّع البابا على قيام تعاون مثمر وبنّاء بين الدولة والكنيسة يترك مفاعيله في قيام علمانيّة صحيحة ومشروعة تحوّل القوى الاجتماعية المتخاصمة إلى قوى هدفها مجتمعة خدمة كلّ الشعب الفرنسي بتعدّديّة أعراقه وثقافاته وأديانه...

 








All the contents on this site are copyrighted ©.