2004-11-20 16:17:53

إنجيل الأحد 21 تشرين الثاني نوفمبر 2004


وقفة تأمّل حول كلمة الحياة

 

   "ولَبِثَ الشّعب هناك ينظرُ والرؤساء يتهكّمون فيقولون:"خلّص غيره فليُخلّص نفسه، إن كان مسيح الله المُختار! وكان الجنود أيضاً يسخرون منه، فيدنون يقرّبون إليه خلاًّ ويقولون:"إن كنتَ ملك اليهود فخلِّص نفسك!"...

   وأخذَ أحد المجرمَين المُعلّقَين على الصّليب يشتُمُه ويقول:"ألستَ أنتَ المسيح؟ فخلّص نفسَكَ وخلّصنا!" فانتهره الآخر وقال:"أما تخاف الله وأنتَ تُعاني العقاب نفسَه! أمّا نحن فعقابنا عدل، لأنّنا نلقى ما تستوجبه أعمالنا. أما هو فلم يعمل سوءاً". ثم قال:"اذكرني يا يسوع إذا ما جئت في ملكوتكَ". فقال له:"الحقّ أقول لكَ: ستكون اليوم معي في الفردوس". (لوقا: 23/35-43)   RealAudioMP3

 

التأمّل

 

   "من يستطيع فليُخلّص نفسه". هذا هو النّداء الأخير الذي يطلقه قبطان السّفينة عندما يبلغ درجة اليأس بإنقاذها من الغرق. فأمام الكوارث الكبيرة من يستطيع تجنّب الموت والبقاء على قيد الحياة هو عظيم جدّا. ولكنّ الإنسان لا يمكنه إنقاذ نفسه لوحده، لا يُمكنه التحرّر من كابوس السّفينة الغارقة نحو الأعماق، لا يُمكنه الفرار من وجه الموت ولا من رعبه.

   الوحيد الذي كان قادراً على إنقاذ نفسه، لكونه يملك القدرة والحقّ الكاملَين، هو يسوع، ولكنّه لم يفعَل لأنّه أراد إنقاذ الآخرين ولم يُنقذ نفسه. لمقاسمتنا حالتنا الإنسانيّة بكمالها تخلّى يسوع عن مقدرته وحقّه بإنقاذ نفسه واتّحد في قمّة ضعفه مع من عانى في هذا العالم، ولا يزال، اغتصاب كرامته الإنسانيّة والاضطهاد الظالم والإقصاء والموت. هذا هو خيار المحبّة الذي شاءه يسوع كما تقول الرّسالة إلى العبرانيّين:"إنّ يسوع تخلّى عمّا عُرض عليه من هناء وتحمّل الصّليب مستخفاً بالعار".

   "خلّص نفسَك". تكرّرت هذه العبارة ثلاث مرّات في إنجيل اليوم. إنّها دعوة توقع الإنسان في تجربة إنقاذ نفسه الكامنة غريزياً في عمق أعماقه. على أقدام الصّليب عاد الشيطان ليُجرّب يسوع كما جرّبه في الصّحراء ثلاث مرّات أيضاً عندما قال له:"إن كُنتَ ابن الله مُرّ هذه الحجارة فتتحوّل خبزاً"، ولكن يسوع صبر وقاوم فذهب الشيطان مخذولاً ليعود عند أقدام الصّليب، ساعة الحساب النهائي بينه وبين يسوع.

   لقد عاش المسيح المصلوب حتّى العمق ما علّمه لتلاميذه قائلاً:"من أراد أن يخلّص نفسه في هذا العالم يفقدها ومن خسر نفسه يربحها في الملكوت. هذا هو موقف شهداء الكنيسة أيضاً عندما يُخيّرون بين جحد إيمانهم لإنقاذ أنفسهم، أو التشبّث به حتّى الموت.

   يسوع لم يُخلّص نفسه من الموت بل خلّص أحد المجرمَين المُعلَّقَين على الصّليب، وبإنقاذه أنقذ معه البشريّة جمعاء. إنّه خلاص يجتاز حدود الحياة البشريّة ويخترق آخر حواجز الشرّ الرّهيبة ألا وهو الموت. بدون المسيح إذاً لا خلاص لنا، وخلاصنا لا يستوجب السّير في طرقات وعرة وملتوية، إنّما الإقرار بتواضع وانمحاء كاملَين بخطيئتنا قائلين:"اذكرنا يا يسوع متى أتينا في ملكوتِكَ".

   هنا تكمن قوّة يسوع وملوكيّته الحقيقيّة، بالضعف والانمحاء الكاملَين. نعم إنّها قوّة حقيقيّة وملوكيّة لأنّها استطاعت أن تمحو المسافة الرّهيبة الفاصلة بين خطيئة الإنسان وقداسة الله. "اليوم تكون معي في الملكوت"، قال يسوع ملك البشريّة الحقيقي للصّ اليمين. ومع أنّه كلّي القدرة وفي صورة الله لم يُعدّ يسوع مساواته لله غنيمة... بل وضع نفسه وأطاع حتّى الموت، الموت على الصّليب، ليُنقذ البشريّة الغارقة في جحيم الخطيئة. آمين.








All the contents on this site are copyrighted ©.